سعدى علوه
الطبيب أبو ستة في غرفة العمليات
“الإسرائيليون يسوّون غزّة بالأرض”، بهذه الجملة اختار الطبيب المتخصّص في جراحة الترميم والتجميل غسان أبو ستّة الإعلان عبر صفحته على منصة X عن وصوله إلى غزة في 9 تشرين الأوّل الجاري، أي بعد 24 ساعة من بدء العدوان الإسرائيلي الحالي عليها. بعدها توالت التعليقات “كنّا ناطرينك”، “كن بخير”، و”الله يحميك”.. وغيرها.
يعرف المتابعون للشأن الفلسطيني والعربي، في المنطقة العربية والعالم، ومعهم نحو 58 ألف متابع على منصة X، أنّ “مرمّم الوجوه المكسورة في الشرق الأوسط”، كما أسمته صحيفة “لوموند” الفرنسية، لن يترك غزة وأهلها في هذا العدوان، شأنه منذ كان طالبًا في الجامعة في 1987، وكذلك فعل في كل الاعتداءات المتتالية على القطاع منذ العام 2000، مرورًا بـ 2008 و2012 و2014 و2018 و2022 ولغاية اليوم.
تغريدة أبو ستّة حين وصوله إلى غزة تنسجم مع دوره المتشعّب الذي يتخطّى عمله الطبي الهام مع زملائه أطباء غزة وكامل الفرق الطبية في القطاع، ليكون الصوت الصادح في كل العالم. طبيب يتحوّل اليوم إلى الناطق الإعلامي باسم غزة وأهلها ووجعهم، موثقًا الإبادة الجماعية التي يتعرّضون لها وجرائم الحرب. وهو الراوي لقصص الضحايا من أطفال وأمهات وآباء وزملاء مهنته وكوادرها الطبية. لم يقل وصلتُ إلى غزة، برغم أنّ وصوله عبر رفح، قادمًا من بريطانيا، حيث يعيش ويعمل حاليًا، حصل بأعجوبة وقبل ساعات من إحكام الحصار الإسرائيلي التام عليها وعزلها بالكامل، أراد لهذا الإعلان أن يحكي عن غزة وناسها لا عنه هو، ليكون الشاهد الذي يخبر عن “تسويتها بالأرض” وقتل أهلها.
وبيّنت تغريدة إعلان وصوله كم أنّ الناس كانوا بانتظاره، فشهدت منصة X تغريدات “تُطمئن” أهل غزة أنّ “طبيب الحروب”، كما تصفه أكثر من مؤسسة إعلامية، قد جاء إليهم، إلى القطاع. وعلّق أحدهم على تغريدة لناشط إعلامي يقول “يلبّي مستشفيات غزّة كلما نادته” ليردّ “هو يأتيها حتى قبل أن تناديه”.
مع غزة، لم يترك د. أبو ستة ضحايا لبنان في عدوان 2006 (أتاهم يومها من لندن أيضًا)، وكذلك ضحايا حروب سوريا واليمن والعراق، فكيف سيترك أهل غزة؟، وهو منها: “أنا عائلتي من اللاجئين في غزة عام 1948 وأرضنا تحتلّها مستوطنتا نيريم وماغن”(في غلاف القطاع)، قال لمديرة قسم المراسلين الدوليين في شبكة “سي إن إن” كريستيان أمانبور، ردًا على سؤالها “لماذا تركت لندن وعملك الناجح، لتتوجّه إلى غزة؟”، والأهم لأنّه يعرف أنّ مستشفياتها “تفتقر إلى الجراحة الترميمية الكافية في زمن الاعتداءات”، أما علاقته بغزة فـ “تتعدى العمل إلى علاقة وجودية وعاطفية”، كما عقّب.
إنكار الذات
من يتواصل مع أبو ستّة للاطمئنان عليه لن يحصل سوى على أجوبة تتحدث عن الآخرين، عن الضحايا من كلّ حدب وصوب، عن المصطلح الجديد الذي فرضه عدوان إسرائيل “طفل جريح من دون عائلة على قيد الحياة”، وهي العبارة التي عنونت بها أمانبور تغريدتها عن لقائها معه الذي حصد نحو نصف مليون و63 ألف مشاهدة وأكثر من 3600 مشاركة لغاية ظهر اليوم الخميس، بعد 3 أيام من نشره.
تزامنًا مع عمله الجراحي، يخصص د. أبو ستة صفحاته على مواقع التواصل، كما إطلالاته الإعلامية لغزة وناسها، والأهم لنقل الصورة الحقيقية في وجه كلّ التضليل العالمي المنساق وراء الرواية الإسرائيلية والبطاقة الخضراء المفتوحة للعدوان تحت عنوان “الدفاع عن النفس”. حتى أنّ مقدمة برنامج “المصدر” على شبكة “سي إن إن”، كيتلان كولينز، أعلنت عن استضافته عند التاسعة من اليوم الخميس بتوقيت نيويورك للرد على ما قاله الرئيس الأميركي جو بايدن من أنّه لا يثق بعدد القتلى في غزة: “ليس لديّ أيّ فكرة عمّا إذا كان الفلسطينيون يقولون الحقيقة”.
ولا ينسى وهو يواجه كلّ هذه التحديات، الردّ على تشكيك بايدن وتضليل الرأي العام العالمي حول هول جرائم الإبادة الجماعية بحق فلسطينيي غزة، وخصوصًا أطفالها ونسائها، وتحديات عمله الجراحي لإنقاذ عشرات آلاف المصابين واضطرار المستشفيات للتعقيم بالخل وخياطة الجروح والعمليات بخيطان عادية لانقطاع الخيوط الطبية، لا ينسى أن يستكمل رواياته التوثيقية لأوجاع وحالات ناس غزة وأطفالها ونسائها.
حكى فجر اليوم الخميس عن أنس “أنس بعمر ابني. يعاني من حروق شديدة السماكة شملت 50% من جسده بما في ذلك وجهه وأطرافه العلوية والسفلية. لقد كان مجرّد صبي مثل أي شخص آخر في أي مكان في العالم. وهو الآن يقاتل من أجل حياته. معاناته لا تطاق”. وعن هالة، ابنة الـ 13 عامًا التي حاول أن يواسيها بعد زوال مخدر عملية أجراها لها، بالقول: “كل شيء سيكون على ما يرام، لقد انتهت الجراحة”، فردت عليه “لن يكون شيء على ما يرام، لقد قتلوا أمي وأبي”. عن ظروف زملائه في الطاقم الطبي وكامل العاملين في القطاع الصحي “يأتون إلى العمل صباح كل يوم ولا يعرفون إذا كانوا سيجدون عائلاتهم ومنازلهم لدى عودتهم”، وعنهم “عندما يجد بعضهن/م عائلاتهم أو أفرادًا منها بين الجرحى والشهداء”. عن صباحات هؤلاء، ويوميات مستشفى الشفاء في غزة حيث يلتحق في كلّ عدوان: “الموت في كل مكان. وفي الساعات الأولى من الصباح، أُخبر ثابت، أحد موظفي غرفة العمليات، أنّ والدته وأباه قُتلا عندما قصف الإسرائيليون منزلهم”، كما غرّد صباح أمس الأربعاء، 25 تشرين الأوّل.
يتعامل الرجل مع نفسه وكأنّه بمنأى عن الخطر الداهم من حوله، فغرّد يحذّر من خطر العدوان الداهم على مستشفى الشفاء بعد مجزرة المعمداني: “قصف مكثف بالقرب من المستشفى. اهتزت المباني حتى النخاع”، وأعقبها بتغريدة أخرى بعد 20 دقيقة، ناقلًا عن رئيس قسم الجراحة في الشفاء أنّ “عدد سيارات الإسعاف العاملة على الطريق آخذ في التناقص بسبب أزمة فقدان الوقود”. تغريدات هي عبارة عن توثيق دقيق ومواكب تحتار من أين يجد له الوقت في خضمّ مشاغله، حيث تأتي رسائله الصوتية النادرة التجاوب، ليرد على أصدقائه القلقين عليه، لتقول إنّه لا يرى الخارج، وينام أحيانًا على طاولة غرف العمليات لأنّ مستشفى الشفاء يغصّ بعشرات آلاف النازحين الذين يعتقدون أنّها ملاذ آمن. ربما ليس للسؤال أهمية هنا، كون كلّ ما يفعله أبو ستّة يقع في صلب علاقته “الإنسانية والمهنية والوجدانية والعاطفية بغزة”، بحسب تعبيره هو.
وهزّت شهادته العالم بعد دقائق من استهداف إسرائيل المستشفى المعمداني، حيث خرج د. أبو ستّة وسط الجثامين على الأرض من حوله، ليتحدّث عن “الجريمة الموصوفة لإسرائيل عبر قصف المستشفى بعدما عمدت إلى التهديد بذلك قبل عشرة أيام سبقت الاستهداف”، مناشدًا العالم وقف المجازر الإسرائيلية على غزة وشعبها ومستشفياتها “الشهداء والجرحى في كلّ مكان وبعضهم بُترت أطرافه”. ويومها، كانت عائلة أبو ستّة كما متابعوه يعتقدون أنّه بمنأى عن خطر قصف المعمداني، حيث يتواجد عادة في الشفاء، ليتبيّن أنّه جاء لنجدة زملائه حيث فاق عدد المحتاجين لعمليات جراحية ترميمية عدد أسرّة المعمداني وقدرتها الطبية، فقرر المبيت فيها ليستكمل مع فريقها الطبي العمليات لغاية الصباح.
مع كلّ ما وثقه عن غزة والوحشية غير المسبوقة للعدوان الإسرائيلي عليها، يقول د. أبو ستّة لـ “المفكرة” إنّ “القدرة الحارقة للقذائف الإسرائيلية المستخدمة في هذه الحرب تفوق كلّ ما رأيناه في الحروب السابقة، إضافة إلى الفوسفور الذي استعملته أيضًا في عدوانها عام 2009”.
طبيب خارج سرب التجميل التجاري
يشتهر أبو ستة بأنّه من أبرع أطباء التجميل والترميم في العالم، وليس في الدول العربية فقط. والمراقبة الوثيقة لمهنته تبيّن أنّ “التجميل” عنده يصبّ في إطار ما يحتاجه الترميم الطبي فقط. يروي عنه أحد أصدقائه الذي كان يزوره في عيادته عندما كان ما زال يعمل في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، وشهد على استقباله سيدة تريد تجميل أنفها فبادرها بالقول “وليش شو إشبو خشمك؟ ما بيحتاج لتجميل”، يضحك الرجل وهو يقارن بينه وبين أطباء تجميل آخرين جمعوا ثروات هائلة من عمليات تجميلية لا داع لبعضها من أساسه. أما إحدى صديقاته فتقول إنّها قصدته يومًا لتحقن وجهها بـ”الفيلر” وتزيل بعض تجاعيد التقدّم بالعمر، فقال لها “تعرفين أنني لا أضع مواد ضارّة في وجوه الناس”، وعندما أصرّت أرشدها إلى شراء حقنة بوتوكس، وهو يُستعمل لعلاج الشقيقة (الميغران) ويعتبر غير غريب عن الجسم البشري “جيبي الإبرة وأنا بحقن لك اياها بجبينك”. وعبوات الفيلر والبوتوكس الفارغة نجدها بكمّيات كبيرة في سلال المهملات في عيادات التجميل، ويشكلان أحد أبرز مداخيل وثراء أطباء التجميل، لكننا لا نجدها في عيادته. يفضل دكتور أبو ستّة أن يوظّف وقته في عمليات الترميم وطبعًا ما يلزمها من تجميل عندما يجب، يقول عنه أحد العاملين معه في إحدى المستشفيات إنّه يجري سنويًا هو والطبيب أسامة حمدان (اختصاصي أنف، أذن وحنجرة) نحو 180 إلى 200 عملية من دون مقابل مادي لأطفال ولدوا مع ما يُعرَف بـ “الشفّة الأرنبية” وبسقف حلق مثقوب: “بيعملوا عملياتهم بعد تجميع المرضى خلال سنة في أحد مستشفيات بيروت ليس فقط من دون أتعابهما الشخصية، بل يتحمّلان أيضًا كلفة المستشفى، وخصوصًا للأطفال الذين لا يتمكّن أهاليهم من تحمّل كلفة عملياتهم”.
الطبيب أبو ستّة خلال المؤتمر الصحفي بعد مجزرة مستشفى المعمداني
ضغوطات إضافية
بعد أسبوع من وصوله إلى غزة، كتب أبو ستّة على صفحته على “إكس”: “حضرت شرطة مكافحة الإرهاب البريطانية إلى منزلي في لندن وقامت بمضايقة عائلتي”، وهو ما استغربه في إحدى إطلالاته على شاشة “بي بي سي” البريطانية ليضع الأمر في إطار الترهيب في هذا الوقت بالذات، قائلًا “وكأنّ عائلتي ليس لديها ما يكفيها من القلق في هذه المرحلة”. وأكد أنّه سيتابع الموضوع عبر محاميه.
لكن الردّ الجوهري، على ما فعلته شرطة مكافحة الإرهاب، أعلنه أبو ستّة على صفحته وبعد وقت قصير من مجيئها إلى منزله وسؤال زوجته “ماذا يفعل في غزة؟ وفي أي قسم هو؟ ومع أي مؤسسة خيرية يعمل؟ ومن دفع ثمن تذكرته للذهاب إلى هناك”، ردّ يذكّر بكل مسار حياته ومعه قرار لا رجوع عنه: ” لن أتوقف عن التحدث نيابة عن مرضاي والشهادة على الجرائم التي يتم ارتكابها”.
ومع استمرار الجرائم ضدّ غزة وأهلها ومعه عدّاد الشهداء الذي يسجّل ظهر اليوم الخميس 7028 شهيدًا، 75% من بينهم أطفال ونساء، إضافة إلى 18484 جريحًا عدا عن نحو ألفي مفقود تحت الأنقاض، تجتاح غزة وأهلها وجداننا اليوم ونعيش في قلق مستمرّ عليها وعليهم. ونخصّ د. أبو ستّة، الإنسان، القدوة، المضحي، المناضل الشرس الذي يترك كل شيء لمناصرة ضحايا الحروب في فلسطين واليمن والعراق وسوريا ولبنان، بمكان عميق في قلوبنا ونرفع أيادينا بالدعاء أن تساهم جهوده كشاهد عالمي على الجرائم ضد غزة اليوم في وقف المزيد منها، وأن يمهّد توثيقه لها وكشف حقيقتها للعالم أجمع، كما جهوده في إنقاذ الآلاف من الوحشية الفالتة من عقالها بتواطؤ دولي غير مسبوق تمهيدًا لمحاسبة مرتكبي جرائم الحرب والإبادة الجماعية والمشاركين فيها، ومعها تمنّ صغير بأن يعود معافى وبخير لأنّ غزة نفسها التي ستعود وتنهض من تحت الرماد، تحتاجه كما احتاجته قبلًا، ومعها كل إنسان مستضعف ومهمّش ومتروك في هذه الرقعة 9المنكوبة من الأرض.
دكتور غسان أبو ستّة كنْ بخير أنت وغزة وأهلها.
المصدر: “المفكرة القانونية”