ربما يكون الوضع في المنطقة سائراً نحو تغيير كبير، ليس في صالح “محور الممانعة”، فإذا كان إسقاط طائرة صهيونية قد أطلق حالة من النشوة لدى مجمل الممانعين، ودفع البعض الى إعلان انحيازه الى هذا المحور بعد سنوات من التردد أو “الإخفاء”، وأوجد ميلاً للاعتقاد بأن مرحلة جديدة قد بدأت تتسم بالتجرؤ على مواجهة الدولة الصهيونية، فإن المدقق في مجريات التحولات الأخيرة يصل الى نتائج معاكسة. بمعنى أن محور الممانعة في “أواخر أيامه” هذه النشوة التي ركبت الممانعين تعززت بما قيل أنه انتصار ساحق لحزب الله في الانتخابات اللبنانية، التي جرى التعميم من قبل الإعلام الممانع أنها حسمت موضع لبنان في صلب محور الممانعة. رغم أن مسار الانتخابات كان يوضّح مدى التوتر الذي يعيشه حزب الله، الأمر الذي دفعه الى التهديد والضغط والتخويف، والاعتداء على المخالفين. فهذه هي المرة الأولى التي يواجه تحدياً شيعياً، وخوفاً من خسارة كبيرة في البقاع. لهذا اضطر حسن نصرالله الى التدخل بخطابات متكررة، من أجل الحض على المشاركة، وتخويف الآخرين. رغم ذلك لم يحصل الحزب سوى على مقعدين “غير شيعيين”، وأن يحصد مع حركة أمل مقاعد الشيعة بخسارة مقعد واحد.
أتت الانتخابات العراقية لكي تقلب “المزاج”، حيث تحصّل على الصدارة التحالف الرافض لإيران، أي تحالف سائرون (تيار الصدر والحزب الشيوعي العراقي)، والذي أظهر ابتهاجه بالنجاح من خلال تظاهرة كان شعارها “إيران برة برة، بغداد حرة حرة” (بعكس شعار حزب الله: بيروت صارت شيعية). ورغم حصول أدوات إيران (تحالف الفتح) على المرتبة الثانية إلا أن ميزان القوى “الشيعي” لم يعد مؤهلاً لأن يصبّ في مصلحة إيران كما كان في السابق، وبالتالي لن تأتي حكومة تخضع لقرارات إيران، على العكس سوف يكون الميل لإبعاد الهيمنة الإيرانية هو المسيطر في المرحلة القادمة، وبين هذا وذاك كان واضحاً أن الدولة الصهيونية قررت إنهاء الوجود الإيراني في سورية، بعد أن كانت تستفيد من هذا الوجود في منع سقوط النظام، واستنزاف سورية عموماً. فعمدت الى توجيه ضربات قوية للقواعد الإيرانية، وهي مستمرة في ذلك، مع غض النظر الروسي. روسيا التي باتت ليست في حاجة للوجود العسكري الإيراني بعد أن فرضت سيطرتها مع معظم مناطق المعارضة المسلحة، وضبطت وجود ما تبقى من خلال الدور التركي. وكان انسحاب أميركا من الاتفاق النووي الإيراني بداية الضغط على إيران من أجل “تقليم أظافرها” في المنطقة، وحصرها داخل حدود إيران، مع توقع أن يؤدي الحصار الاقتصادي الذي أعاد دونالد ترامب فرضه الى تفاقم أزمة الشعوب الإيرانية، التي أظهرت التظاهرات الكبيرة التي حدثت خلال الفترة الماضية مدى الصعوبة التي تعيشها نتيجة انهيار الوضع المعيشي.
إذن، يمكن أن نشير الى أن أميركا الإمبريالية باتت تتقدم لحصار إيران اقتصادياً، والضغط عليها سياسياً على طريق عزلها دولياً. وهي تستغل تشابك الاقتصاد العالمي لكي تفرض على أوروبا القبول ولو على مضض بقراراتها، لهذا مالت للضغط على إيران من أجل وقف تطوير الصواريخ بعيدة المدى، وإنهاء تدخلاتها الخارجية. هل تستطيع إيران مقاومة كل هذه الضغوط؟ هي لا تملك القدرة على المقاومة نتيجة أزمتها الداخلية، وضعف قدراتها الدولية. في هذا الجو تقوم الدولة الصهيونية بالدور العسكري، الذي يعني تصفية الوجود العسكري الإيراني في سورية، والضغط من أجل أن تقوم روسيا بطلب رحيل القوات الإيرانية، وهذا ما صرّح به فلاديمير بوتين حين أعلن عن ضرورة رحيل القوات الأجنبية عن سورية، وأوضح مسئولون أنه يقصد القوات الإيرانية وحزب الله مع القوات الأميركية والتركية. بالتالي سوف يتعرض الوجود الإيراني في سورية لضغوط سياسية من طرف، وعسكرية من طرف آخر، لكي تترك إيران سورية. بهذا سيضعف وضع حزب الله، ويتراجع الى داخل لبنان مدحوراً.
في العراق سوف تتشكّل حكومة “مناهضة” لإيران، وستكون مدعومة أميركياً، رغم أن أميركا لا تحبّذ مقتدى الصدر، الذي كان تياره من أوائل من قاوم احتلالها العراق، والذي تعرّض لضربات قوية منها. لكن ربما تعتبر أميركا أن هذه خطوة أولى في مسار إعادة ترتيب سيطرتها على العراق. رغم أن الوضع العراقي سيسير نحو مواجهة السيطرة الأميركية كذلك. وفي اليمن يبدو أن أميركا باتت تدعم حسم الصراع ضد الحوثيين، ولقد تراجعت قدراتهم كثيراً، وأصبحوا مهددين في صعدة منطقتهم الأساس.
نعود الى لبنان، بعد كل هذه التغييرات سيجد حزب الله أنه محاصر بشكل كامل، ولقد أتت العقوبات الأميركية الجديدة التي ساوت بين جناحيه العسكري والسياسي لتجعل قدرته على المشاركة في الحكومة في غاية الخطر، لأن لبنان سيتعرض للحصار. هذه الوضعية سوف تفرض حتماً تفكك تحالفات حزب الله. فأولاً، هل سيبقى التيار الوطني الحر في تحالف مع الحزب؟ وهل سيصرّ على مشاركته في الحكومة؟ هنا ربما يكون التيار أسرع في فك التحالف، وبالتالي القبول بتشكيل حكومة بدون حزب الله. ثم ثانياً، هل سيبقي نبيه بري على تحالفه “الجبري” مع حزب الله؟ ربما يستغلّ بري الوضعية الجديدة لكي يفك هذا التحالف، أو على الأقل أن لا يتشدد في التمسك في وجود حزب الله في الحكومة. أو تذهب الأمور الى استشارات طويلة انتظاراً بحسم وضع إيران في سورية، وبدء الضغط المباشر على حزب الله من قبل أميركا والدولة الصهيونية. لكن من الواضح أن “الانتصار الكبير” في الانتخابات سيكون التعبير الحقيقي عن استفاقة الموت.
إذن، سوف تستفيق الممانعة على كارثة، بعد أن أصابتها نشوة الانتصار. وسيكون مصيرها أسوأ بعد أن تجد روسيا في حلف معادي، والنظام الذي اعتبرت أنه “الحلقة المركزية”، و”محور النضال” يتصالح مع الدولة الصهيونية برعاية روسية. وأن كل العالم الذي توهمت وجوده يتلاشي. وبالتالي أن كل رهاناتها باتت أوهام فارغة. وأن كل “انتصاراتها” كانت تخيلات، هي تخيلات العاجزين.
لقد دمّرت إيران كل من العراق وسورية وأسهمت في تدمير اليمن، وكرّست تفكك لبنان وتشظيه. وبعد أن مارس حزب الله المقاومة لطرد الاحتلال الصهيوني عن جنوب لبنان، تحوّل الى أداة بيد إيران لقتل الشعب السوري، ودعم قتل الشعب اليمني. لهذا فإن رحيلها غير مأسوف عليه، حيث خسرت في إطار التنافس مع أميركا وروسيا على السيطرة علينا، وسحقنا، وهي تطمح لبناء إمبراطورية “عاصمتها بغداد” كما صرّح أكثر من مسئول إيراني. ونحن نعرف أن معركتنا كانت مع كل هؤلاء، من إيران الى أميركا وروسيا وتركيا ودول الخليج العربي، وهي مستمرة مع أميركا وروسيا، وكل من يريد التدخل في بلادنا. لهذا فإن نهاية التدخل الإيراني ربما تفتح على إعادة ترتيب الصراع بشكل نستطيع فيه بدء مواجهة حقيقية مع كل هؤلاء. لم تكن إيران بنظامها الحالي عوناً في الصراع ضد الدولة الصهيونية رغم كل تبجحها، وكانت مساعداً لاحتلال وتفكيك العراق، وأسهمت في إجهاض الثورة في سورية، وتدميرها. كما أنها عبر لعبها بالمسألة الطائفية أضرَّت أضعفت مواجهة السيطرة الإمبريالية، الأميركية والروسية، وساعدت كل منهما.
بالتالي يمكن أن يصبح الصراع واضحاً بعد أن يزال هذا التشوّه الذي حكم النظر من قبل كثير من أطراف اليسار، وأن نترك الأوهام حول دور الإسلام السياسي بكل أطيافه، ونترك المراهنة على دول لها مصالحها المناقضة لمصلحة الشعب في البلدان العربية. لقد انتهى محور الممانعة، وعلينا بناء محور الثورة.