رائد وحش
في النهاية، هي قصة عائلات؛ أمهات وآباء، بنات وأبناء، إخوة وأخوات، حفيدات وأحفاد، عمات وأعمام وخالات وأخوال.
ولأنّ العائلة تعرف بعضها بعضًا فهي أفضل من يحفظ ذكرى أفرادها، حتى لو اختفوا ولم يصل منهم خبر، حتى لو لم تُعرف لهم قبورٌ. هي من تُكرّم فرديتهم وفرادتهم أمام إشاحة الإعلام عنهم، وهي من تعترف بهم ككيانات إنسانية فريدة، كلٌّ منهم عالم وقصة وحياة.
في النهاية، هي قصة عائلات لها منازل، إذًا هي أيضًا قصة منازل. ولأنّ المنازل تجاور أخرى، هي قصص بلا نهاية. للمضافات وقائعُ تُروى وتُعاد، ولغرف المعيشة نوادر ومِلَحٌ وغصّات، وللمطابخ ذاكرة تصون حبَّ طعام الأمهات، وتحتفظ بسرية من كنَّ وكانوا يُعدون الشاي والقهوة بأساليب تناسب الأمزجة في صعودها أو هبوطها.
في النهاية، العائلات هي المنازل، والمنازل هي العائلات، فهؤلاء من قضوا شهداء أو انتهوا جرحى، أو مشردين، وأولئك من استحالوا ركامًا أو كادوا.
في النهاية، هذه هي فلسطين. إنها خاصة كتفاصيل الروتين، وحميمية إلى حدود التداخل مع تفاصيل العيش. إنها فرد من العائلة وصديق وجار، وهي غرفة وحارة ومدينة.
ولأنها كذلك فمن المستحيل سلبها. كيف يمكن ذلك وكل شهيد يُذكّرنا بالشهداء جميعًا، وكل أسيرةٍ وأسيرٍ يعيدون إلينا صور الأسرى كلهم، حتى ممن باتوا أحرارًا؟ وكيف يمكن ذلك وكل منزل يعيد إلينا ذكريات المنازل المدمرة كاملةً حتى لو أُعيد بناؤها؟
هذه هي فلسطين، فكيف تموت؟ أو كيف يظنون أنها يمكن أن تموت؟
كيف يمكن ذلك وهي فينا مثلما نحن في أنفسنا؟
نشاهد الجدّ يبوس عينَ الحفيدة الشهيدة التي يسمّيها “روح الروح”، فيتوقف بنا الزمن عند ذلك العناق الذي يفجّر حزن العالم والتاريخ. كأنّه لا حزن قبله ولا حزن بعده.
يفعل الجد بأرواحنا ما لم تفعله آلامنا وخيباتنا ومصائبنا.
يرينا أن الحزن كبير كالعالم، وعالٍ كالسماء، ونبيلٌ كفكرةِ أن نكون.
أهو معلم في الحزن؟ لا قطعًا، هو مجرد مفجوع، غير أنّ فجيعته من ذلك النوع القابل لأن يصبح عموميًا ومشاعيًا، مثل سبيل الماء ومقاعد الحديقة والظل والغيم.
مفجوع وصامد، مفجوع وراسخ، إلى الحدّ الذي يتغيّر معه معنى الحزن، بل ويتغير شكله ومضمونه. إلى الحد الذي يُرغم الحزن على أن يصبح مُعديًا، لا سيما حين يُقرر بعفوية الحب أن يُحوّل حَلَق الطفلة الشهيدة إلى تميمةٍ يعلّقها فوق صدره!
نعيش قلق الأم التي تنتظر إطلاق سراح ابنتها الأسيرة في القدس المحتلة. أقول “قلق” وأنا متأكد من أن ما تشعره أكبر من مساحة هذه الحروف الثلاثة، لكن من عادة المعاجم أن تغدر بنا في مثل حالات البحث القصوى عن وصف عادل.
الأم سجينةٌ أيضًا مع أنها في بيتها. حياتها زنزانةٌ لا تعرفُ لها حدودًا. زنزانةٌ لا تستطيع السير في داخلها وحسب، بل يمكنها أن تركب فيها الباصات والتاكسي، ويمكنها أن تمتد على مساحات تتجاوز الحي إلى المدينة فالبلاد فالدنيا كاملةً.
هكذا أصبحت حياتها منذ سُجنت ابنتها المحبوبة، إذ صار كلُّ شيء لاشيئًا، وكل وجود عدمًا.
تنام ولا تنام. تستيقظ ولا تستيقظ. تنام هنا لتستيقظ في مكان آخر، وتستيقظ هنا لتنام في زمن آخر. ربما في حضن الغائبة، أو الغائبة في حضنها.
في متناولها مخدةٌ وغطاءٌ. لديها سرير مريح، سوى أنّ كلَّ نومةٍ تُشعرها بالندم.
في ثلاجتها طعام، وفي خزّانها ماء، لكنّ كل وجبةٍ تدخلها في الكآبة.
اللاسرير واللاغطاء. اللاماء واللاطعام.. اللاشيء رحمة.
ابنتها في السَّجْن مع اللاشيء راضيةٌ كما يجب على السجناء أن يكونوا كي يسمحوا للزمن بالمضي بين تلك الأسوار، التي تضع نزلاءها في شيء ليس يُفسر إلا بوصفه اعتداءً على معنيَي المكان والزمان.
أما هي فتمتلك حكمًا جائرًا من قاضٍ بلا نزاهةٍ لكنها لا تمتلك زنزانة. تمتلك أسباب السِّجن دون امتلاكها دوافع السجناء.
يحل الشتاء على القدس فتبدأ بالنوم بلا غطاء، وقبالةَ نوافذ مفتوحة، لئلا تخون ابنتها.
هذه هي أزمتها، هذه معضلتها، ولن يكون بوسع شخص بحجم شكسبير أن يتقرح نهايةً لحكاية هذه الأم أقوى من حرية ابنتها كي تستعيد الأمّ حريتها.
خرجتْ من الأنقاض. بعد وقت قليل صوّروها في فيديو وراحت الصغيرة تروي ما جرى. قالت إنها لعبت مع صديقاتها وفجأة صار العالم أسود. ثم أدركت أنّ شيئًا انهار عليها وأنها علقت تحت وزن هائل. قالت الكثير عن الركام الذي يحبس الجسد. قالت الكثير عن الصوت الذي ينادي ولا يجد إجابةً. ثم جاء من ينقذها لتجد نفسها سليمة معافاةً، لكن بلا عائلة.
قالت كثيرًا وتدفق منها الكلام كما يتدفق من أفواه البلغاء.
لهذا بدا أنّ أوضح أقوال الصغيرة هو أن ما يحدث في غزة لم يترك لأطفالها طفولةً، بل أرغمهم على استبدالها بحكمةٍ لم يكونوا بحاجتها.
المصدر: صوت ألترا