أيمن جزيني
كان وحده. لم يصحبه أحد. ولا هو صحب معه أحداً. فردٌ واحدٌ “دوّخ” إسرائيل سبع ساعات متواصلة. تحدّث عنه الإعلام الإسرائيلي كما لو كان يتحدّث عن كتيبة كاملة. استنفر الجيش الإسرائيلي كما لو كان يستعدّ للانقضاض على جيش كامل. لكنّه كان وحده. اسم على مسمى كان مجاهد منصور.
“لا راية بيضاء” في غزّة
كان وحده ولم يكن وحيداً. كانت فلسطين كلّها معه من النهر إلى البحر. كان صائماً. وكان اليوم يوم جمعة. أمّا الطقس فكان غزّة. غزة التي تقاتل منذ ستّة أشهر. غزّة التي لم تستسلم على الرغم من الدمار الهائل، وعلى الرغم من أعداد الشهداء المرتفعة. غزة التي لا تزال وحيدةً على الرغم من ضحاياها الذين يُقدّر عددهم بعشرات الآلاف. هي التي سُوّيت بالأرض ولا تزال تواجه. غزة تستعير من محمود درويش ومن مديح الظلّ العالي لبيروت قائلة “لا راية بيضاء” هنا.
كان الطقس غزة، لكنّه خرج من الضفة الغربية. من قلب الضفة الغربية. من رام الله. فردٌ واحدٌ خرج بكامل اسمه ليواجه إسرائيل. لكأنّ اسمه اسمٌ على مسمّى: مجاهد منصور. وهو كذلك: مجاهدٌ ومنصورٌ. فيه تحقّقت مقولة “لكلّ امرىء من اسمه نصيب”.
عمليّة بطوليّة فرديّة
صبيحة نهار الجمعة 22 آذار الجاري، خرج حاملاً معه سلاحه وقضيّته وظلماً عتيقاً لا تغيب شمسه حتى تشرق. خرج من بيته في قرية دير إبزيع. من المرجّح أنّه قبل أن يخرج أيقظ أولاده وطبع على جباههم قبلاً كثيرة، قبلاً كثيرةً ستكون بعدد أيّام غيابه عنهم. لم يقُل أحد إنّه لم يودّع أهله. كما لم يذكر أحدٌ أنّه لم يلقِ على بيته وقريته نظرةً أخيرةً ولو من بعيد ولم يرَه أحد أساساً وهو يخرج. لم يعرف وجهته أحد. حمل قضيّته وسلاحه وانطلق نحو كفر نعمة غرب رام الله. على الطريق صادف حافلةً تقلّ أعداءه، فصبّ عليهم جام غضبه. أمطرهم بوابل من الرصاص قبل أن تُدركهم التعزيزات الأمنيّة. اشتبك مع الأخيرة وانسحب إلى منطقة جبلية قريبة لا سكّان فيها.
مجاهد منصور جرّ وراءه جنوداً كثيرين. استدرجهم إلى منطقة خالية في بلاده التي يحفظها عن ظهر قلب، ويعرف صخورها وجبالها جيّداً، وتعرفه هي أيضاً. من المؤكّد أنّها شاركته في قتاله، وخبّأته وحصّنته جيّداً.
مجاهد منصور
استدرج إلى جبالها قوّات إسرائيلية بكامل عدّتها وعتادها. شغل إسرائيل بأبراج مراقبتها العسكرية وطائراتها التي من دون طيّار وتقنيّات المراقبة المتطوّرة جدّاً لديها، واستنفر سلاحها الجوّيّ، واشتبك مع جنودها سبع ساعات متواصلة، أصاب خلالها سبعة من الجنود والمستوطنين حالة اثنين منهم خطرة.
على الرغم من ذلك لم يتمكّنوا منه إلا عبر قصفه بصاروخ موجّه من طائرة مروحية. حدث ذلك في نقطة قريبة جدّاً من تل أبيب، فيها انتشار عسكري إسرائيلي مكثّف ومنظومات مراقبة واستطلاع متطوّرة. وحدث ذلك في غرب رام الله وفي قلب الضفة الغربية التي عين إسرائيل عليها منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأوّل) الماضي.
بطل من فلسطين
هو مجاهد بركات منصور من بلدة دير إبزيع (يُقدّر عدد سكّانها بثلاثة آلاف نسمة) وتقع غرب رام الله في الضفة الغربية، ومتزوّج وأبٌ لولدين. تداولت وسائل إعلامية خبر وفاة ابن له قبل أيام قليلة من العملية. يبلغ من العمر 32 عاماً. كان عنصراً في جهاز الأمن الوطني الفلسطيني، قبل أن يُقدّم استقالته ويتّجه إلى الأعمال الحرّة. آخر أعماله الحرّة كان عمله البطولي فجر الجمعة الماضي: باع حياته ليشتري حرّيته وكرامته. باعها ليحرّر أرضه ووطنه.
قيل إنّه منخرط في العمل المسلّح منذ عام 2014، تاريخ تقديمه استقالته من الأمن الوطني. كما ذكر الإعلام الإسرائيلي أنّه سُجن في سجون إسرائيل على خلفيّة أمنيّة. بُعيد العملية داهمت قوات إسرائيلية مسقط رأسه، وفتّشت منازل أقاربه واعتقلت عدداً منهم، بينهم زوجته وشقيقه.
للعملية البطولية التي قام بها مجاهد منصور أبعاد ودلالات كثيرة:
ـ فهي أوّلاً في الضفة الغربية التي تتحسّب إسرائيل لقيام انتفاضة فيها منذ عملية “طوفان الأقصى” وحربها الوحشية على غزة.
– ثانياً، لا يقف الأمر عند حدود كونها في الضفة، فخطورتها أنّها جرت في منطقة ممسوكة أمنيّاً ومراقَبة جيّداً من كثب بأحدث وسائل المراقبة في العالم، وبأبراج عسكرية عديدة، وفيها انتشار كثيف للقوات الإسرائيلية.
– ثالثاً، ثمّة دلالات كثيرة ومعانٍ أكثر لكون منفّذ العملية عنصراً سابقاً في الأمن الوطني الفلسطيني وفي حركة فتح.
الأخطر من ذلك أنّ الخبراء والمحلّلين الفلسطينيين والإسرائيليين لديهم شبه إجماع على أنّ العملية فردية بامتياز، أو على أبعد تقدير تقف خلف التخطيط لها خليّة صغيرة جداً، خصوصاً أنّ الجميع يعرف أن لا بنى عسكرية منظّمة في الضفة الغربية، لأسباب كثيرة لا تبدأ بالأمن الوطني الفلسطيني، ولا تنتهي عند الوجود الأمنيّ الإسرائيلي والمراقبة الأمنيّة الإسرائيلية المشدّدة والحذرة، خصوصاً في الأشهر الأخيرة.
عمليّة تنعى السقوط السياسيّ
تأتي استثنائية العملية أيضاً من كونها تنمّ عن غضب فلسطيني متصاعد، خاصةً في ظلّ ما يجري في غزة من حرب وحشيّة، وعطفاً على انسداد الأفق أمام أيّ حلّ سياسي في ظلّ التعنّت الإسرائيلي الواضح في كلّ المفاوضات المتعلّقة بوقف الحرب على غزة وتبادل الأسرى، وقبلها تعنّتها في مفاوضات السلام، وقطع قادتها كلّ الطرق المؤدّية إلى دولة فلسطينية مستقلّة.
إلى ذلك، تشير العملية إلى وجود أفراد مدرّبين ومجهّزين يتمتّعون بكفاءة قتالية وعسكرية وأمنيّة عالية. والدليل على ذلك عدم تمكّن إسرائيل بأسلحتها كلّها البرّية والجوّية وأجهزة المراقبة لديها من قتل مجاهد منصور إلا بعد سبع ساعات من تنفيذه عمليّته واشتباكه مع القوات الإسرائيلية.
العملية البطولية هذه ليست الأولى من نوعها في الضفة الغربية، ومن المؤكّد أنّها لن تكون الأخيرة. هي تخرج من رحم “شعب الجبّارين” على ما وصف الشهيد الرئيس الراحل ياسر عرفات شعبه، وعن حقّ.
الحديث عن تهجير فلسطينيّي غزة إلى النقب أو مصر، وفلسطينيّي الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية (الأردن)، وغيرهم إلى لبنان وغيره، زد عليه الحرب الوحشية القائمة على مرأى العالم أجمع ومسمعه، لن يؤدّيا إلا إلى المزيد من هذه العمليّات.
منذ قيام إسرائيل على أنقاض فلسطين، والشعب الفلسطيني يُدهش العالم بالصمود والقتال. مجاهد منصور ببطولته أعلن أنّ التحلّل السياسي لكلّ ما سُمّي عمليّة سلام إنّما هو نكوص وارتكاس لكلّ ما بدأته المنطقة منذ تسعينيات القرن الماضي و”مهزلة” مؤتمر مدريد.
المصدر: أساس ميديا