أعرف نفسي، لا شيء يفرحني عندما أكون مغمومًا، وكم كنت مغمومًا الليلة، مع الاسهال الذي اصاب اليوتيوب والفيس، ومناظر الشبحية يتجولون وسط هذا الدمار الكبير في المخيم، ويشيرون بكاميرا الموبايل، هنا ركام مشفى فلسطين، وهناك بقايا حديقة فلسطين وجامع فلسطين ودوار فلسطين، دمار في كل ما يحمل اسم فلسطين، في مخيم هو بحد ذاته وبنسيجه الاجتماعي، يختزل فلسطين.
مكالمة هاتفية، مفاجئة، من أحد ابناء المخيم، وصل الي عبر هذا المخلوق، الفيس بوك، … واذكر انني منذ زمن طويل لم التق به ولو صدفة، ثم جاءت التغريبة عام 2012، وتشرد اهالي المخيم الى المحيط الدمشقي، ثم الى دول الجوار، ولم التق به او يحصل اي تواصل بيننا، انه من تلك العلاقات الجميلة ايام المدرسة وشقاوتها … وتبقى المودة والمحبة رغم تباعد المسافات بعد المرحلة الثانوية والجامعية، وكل يذهب في طريقه. عمل ، زواج وهموم الحياة.
اجتاحني فجاءة.. بعد كل هذه السنوات …. وحزن لأنني لم اعرفه من صوته ….. المهم كان حزينا على المشاهد التي ينشرها الشبحية من داخل المخيم المدمر (المحرر) … وقال ان احدى الحارات المدمرة ذكرته بي … وشرع يبحث عني بكافة السبل عبر صفحات التواصل …ويكتب اسمي بالعربية والانكليزية، ويعيده مرات ومرات …ثم بحث في صفحات بعض الأصدقاء المشتركين القدامى، واصطادني، والمهم تواصل معي على الخاص.
كان يتحدث دون توقف عن ايام الإعدادية. والثانوية … وشقاوتنا بسرقة (القرعون ، والجرنك ، والجوز…) من بستان ابو صفوح شرق المخيم. وكيف تعلمنا السباحة في المشرع وما بعد المشرع … وسينما الكرمل والافلام الهندية … استحضرنا المخيم ايام حرب تشرين وما بعدها.
خنقته العبرات وتهدج صوته وانقطع الاتصال بيننا وهو يقول حرام..، المخيم بيتنا، المخيم قضيتنا …المخيم الام والاب والناس والفرح والحياة … انقطع الاتصال ولم يحاول اي منا معاودته على الاقل اليوم فقد استنزفنا هذا الألم.
حتى هذه اللحظة لا شيء جديد …فجميع ابناء اليرموك. محادثاتهم محورها هذا الالم الذي تصعب الكلمات عن وصفه ….. لكني تذكرت فجأة ان هذا الصديق ليس فلسطيني …بل هو سوري …عاش طفولته في المخيم ودرس معنا في مدارس الوكالة … ولعب مع اولاد المخيم من الشرطي والحرامي والغميضة (الطميمه) والدحل … وباع التماري والكعك في العطلات الصيفية … ولم يفترق يوما عن المخيم وابناء المخيم الا عند الخدمة العسكرية الإلزامية ، فالسوري يذهب الى الجيش السوري والفلسطيني الى جيش التحرير الفلسطيني..
وبعد الخدمة تزوج وانجب في المخيم وكبرنا …. ويتعلم اولاده في مدارس المخيم ….. كان يقول لي انه في الاعياد عندما كان يذهب مع اهله الى قريته في ريف حماة …كان اهل القرية يقولون عنه جاء الفلسطيني …لان لهجته فلسطينية، يرموكيه بحته ….. زالت الغمه لأنه نقلني من حالة الحزن على هذا الدمار …الى الانتباه لبوتقة الصهر الفلسطينية هذه …المخيم …. بوتقة صهرت سكان مدن فلسطين بلكنتهم المدنية وتفاصيل عاداتهم بالفلسطينيين القرويين …بالبدو.. والغوارنه …والفلسطينيين المغاربه …جغرافيا فلسطين من جليلها شمالا الى نقبها جنوبا …ومن مدن وقرى الساحل الى مرج بن عامر الى جبال شرق فلسطين واغوارها.. فلسطينيين مسيحيين ومسلمين …، متعلمين واميين …. اغنياء (سابقا قبل اللجوء) وفقراء. انصهر الجميع في بوتقة الصهر وصنعت هويتها …اليرموك.
بل وصهرت اخوتنا السوريين الوافدين الى المخيم منذ نهاية الستينات والسبعينات … اي روعة هذه …. اي حزن على اليرموك يحمله هذا الصديق السوري الذي لم نكن نعرف انه سوري الا عند المعاملات الرسمية او الخدمة العسكرية كما اسلفت …. كيف يحزن على المخيم ولم يذكر ولو بكلمة ضيعته التي دمرت ايضا وهجر اهلها، لدرجة انني تحولت انا الفلسطيني المكلوم والمحزون على هذه النكبات التي عشتها، تحولت لألعب دور من يخفف الألم عنه، واشد من ازره، واواسيه على دمار المخيم … هذا سحر المخيم.
لم يكن شعار (واحد واحد واحد…. فلسطيني سوري واحد).. الذي صدحت به حناجر المتظاهرين في اليرموك ضد النظام، لم تكن من فراغ، ولم يختلقها المثقفون أو السياسيون، انها عفوية اهل المخيم، احساسهم وصدق الانتماء، فعمدوا هذا الشعار بالدم، وسقط الشهداء في شوارع المخيم.. دفاعا عن معنى الحرية.
هكذا كان اليرموك بوتقة الصهر …التي انتجت مجتمعا واحدا ليس من اللاجئين الفلسطينيين القادمين من جغرافيا فلسطين وحسب بل ومن اخوتنا السوريين الذين عاشوا معنا في المخيم …. وصهر المخيم اللهجات الفلسطينية …. لينتج لهجة خاصة من اللكنات الفلسطينية التي تتنوع من قرية لأخرى ومن مدينة لأخرى …. لتكون (خيا) كلمة السر، هذه عظمة اليرموك …ناهيك عن رمزيته ، لذلك اتخذ القرار وعلى أعلى المستويات ،بتدميره وتهجير اهله . لكن سيصنع ابناء اليرموك..، وبقية المخيمات التي لا تختلف قصتها كثيرا عن اليرموك …الف بوتقة صهر …تصهر الجموع الشعبية، عابرة للإقليمية، والدينية، والمذهبية، لتقتلع يوما انظمة العار المتربعة على عروش هذه الدويلات، من المحيط الى الخليج …. وقد دارت العجلة.
يحق للسوري والفلسطيني ان يقول. انتميت لأعظم بوتقة صهر. مخيم اليرموك.