نبيل عبد الفتاح
المسألة الفلسطينية، كانت تاريخيا ولاتزال تعبيرًا عن سعى الكولونياليات البريطانية، والأوروبية- الفرنسية والإيطالية-، والإمبريالية الأمريكية، إلى استمرارية السيطرة واستغلال المنطقة العربية ونفطها وموقعها الجيو استراتيجي والسياسي، فى إطار صراعاتهم الدولية مع الكتلة الماركسية السوفيتية السابقة، والصين وروسيا فى مرحلة الصراع الدولى الراهن، بهدف الاستمرارية على قمة النظام الدولى. وفى ذات الوقت التخلص من العبء السوسيو- نفسى، عن التطهير العرقى النازى لليهود، التى تبدو أثاره حتى الآن فى ألمانيا وفرنسا وأوروبا والمسيحية الصهيونية في أمريكا ، ومن ثم مساندتهم السياسية والاقتصادية والعسكرية والديبلوماسية للدولة الإسرائيلية.
شكلت مشكلة فلسطين، أحد أبرز وجوه العجز العربى، ومعه هشاشة الفكرة العربية الجامعة- القومية والوحدة العربية-، التى شاعت فى بعض الفكر السياسى قبل ، وبعد الاستقلال الوطنى، والتى شكلت أحد مكونات بعض إيديولوجيا سلطات ما بعد الاستقلال، فى المشرق العربى، فى ظل أفكار حزب البعث العربى الاشتراكى، والناصرية فى مواجهة الدول العربية المحافظة، وخاصة النفطية ذات العلاقات الوثيقة مع بريطانيا وفرنسا – في الجزائر قبل الأستقلال – والولايات المتحدة الأمريكية، بعد انتصارها فى الحرب العالمية الثانية 1945. كانت الفكرة العربية الجامعة، ذات طابع إيديولوجى ومثالي ، لأن شروطها الموضوعية، فى التطور الاجتماعى والسياسى والاقتصادى والثقافى، لم تكن متحققة فى التركيبات الاجتماعية العربية على نحو جماعى، أو داخل كل دولة، باستثناء مصر، والمغرب. الأهم أن بناء الدولة الوطنية كان يواجه مشكلات بناء الموحدات الوطنية فى ظل مجتمعات انقسامية –دينيا ومذهبيا وعرقيا وقوميا ولغويا ومناطقيا – على نحو جعل قضية بناء الدولة ومؤسساتها وأجهزتها الإيديولوجية والرمزية أساسية وأولية ، ومعها بناء الجيوش الوطنية، والبيروقراطية، والنظم السياسية والدستورية الشمولية، والتسلطية. هذه العمليات البنائية، أدت إلى إعاقة للفكرة العربية الجامعة، خاصة فى ظل التوظيف السياسى لسلطات ما بعد الاستقلال، وقادتها للدين، على نحو أحدث المزيد من التفكك الداخلى، خاصة فى ظل الصراعات مع الجماعات الإسلامية السياسية، التى طرحت الفكرة الإسلامية الجامعة -دولة الخلافة- في مواجهة الفكرة العربية الجامعة. من ثم اختلاف النظرة وتبانيها إزاء المسألة الفلسطينية، التى تحولت إلى أبرز القضايا المركزية العربية، بل اعتبارها القضية الأساسية.
أن نظرة طائر على القضية الفلسطينية، تشير إلي تحولها إلى مصدراً من مصادر الصراعات العربية البينية، بين الدول العربية الراديكالية الأساسية – مصر وسوريا والعراق، ثم ليبيا فى عهد القذافى، والجزائر- ، وبين الدول المحافظة ، وفى ذات الوقت أحد باتت قضية تحرير فلسطين أحد مصادر شرعية هذه النظم الشمولية والتسلطية ، حتى هزيمة 5 يونيو 1967، وصدور القرار 242، والتغير في النظرة إلي القضية الفلسطينية إلى ضرورة إقامة دولة فلسطينية على الأراضى التى احتلت فى الضفة وقطاع غزة. ، وذلك فى أعقاب فك الارتباط بين الأردن والضفة الغربية، لتصبح منظمة التحرير الفلسطينية هى الممثل الشرعى الوحيد للشعب الفلسطيني . بدأت عمليات التحول، وتهميش القضية المركزية تدريجيا لتغدو واحدة من قضايا عديدة للدول العربية الميسورة، والمعسورة، وليست المركزية ، وإنها قضية أساسية للشعب الفلسطينى، بقطع النظر عن الخطاب العربى السلطوى الشعارى حول مركزيتها. تنبهت قيادات المنظمة لهذا التوجه، ودخلت في مفاوضات سرية في أوسلو انتهت بتوقيع اتفاق إعلان مبادئ حول الحكم الذاتي الانتقالي بين ياسر عرفات واسحاق رابين في البيت الأبيض بحضور بيل كلينتون الرئيس الأمريكي الأسبق في 13 سبتمبر 1993 . من ناحية أخرى ظلت الصراعات العربية- العربية على تبعية بعض الفصائل الفلسطينية لها مستمرة، على نحو أدى إلى ضعف متنام لمنظمة التحرير الفلسطينية، والطابع المحافظ لحركة فتح كبرى الفصائل الفلسطينية وشيخوخة قادتها التاريخيين، وفشلهم فى إنجاز عمليات بناء مؤسسي فعال لأجهزتها، فى الضفة وقطاع غزة بعد أوسلو وإلي الآن .
استمرت الصراعات السياسية داخل الفصائل، والظهور السياسى الفعال لحركة حماس والجهاد الإسلامى، بعد فوزها في انتخابات المجلس التشريعي ب 74 مقعدا بينما حصلت فتح علي 45 مقعدا في 29يناير 2006 ، والانفصال السياسى بين السلطة الفلسطينية، والحركة، ومعها قطاع غزة بعد المواجهات المسلحة بين فتح وحماس في 10 ، 15 يونيو 2007 .. لا شك أن عدم الكفاءة، والفساد السياسى ، وشيخوخة غالب القادة للسلطة فى الضفة الغربية أدى إلى تمدد إيديولوجيا حماس داخل بعض مكونات المجتمع الفلسطينى فى الضفة الغربية. وظفت السياسة الإسرائيلية الصراع البينى بين حماس والجهاد والسلطة، إلي المزيد من تهميش القضية الفلسطينية، وإفشال الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لاتفاق أوسلو، من خلال تكثيف إنشاء المستوطنات فى الضفة الغربية!
مع صعود بعض الأجيال الجديدة فى قيادات الدول العربية الميسورة تحولت اهتماماتهم نحو التنافس حول بناء أدوار ، ونفوذ إقليمى داخل بعض دول العسر العربية، وخاصة بعد تفاقم المشكلات الاقتصادية والسياسية، وعدم الاستقرار فى أعقاب الربيع العربى المجازى ، وانتفاضاته الجماهيرية، وعدم تحقق أهدافه فى أحداث تعديلات هيكلية فى النظم السياسية العربية، من خلال تحولات ديمقراطية ، وإصلاحات سياسية واقتصادية، واسعة النطاق!
مع أزمة دول ونظم ومجتمعات العسر، تنامى الإنجاز فى عهد الرئيس الأمريكى السابق “دونالد ترامب”، الاتجاه إلى تطبيع بعض دول اليسر مع إسرائيل وإقامة علاقات ديبلوماسية، وسياسية، واقتصادية فيما عرف باتفاق إبراهام! دول أخرى ميسورة نفطيا، كانت لديها علاقات غير رسمية مع إسرائيل، مع هذه التغيرات السياسية تم تهميش وتراجع المسألة الفلسطينية عربيا إلا من خلال الخطاب السياسى الرسمى العام الذى يطالب بإيجاد حل عادل لها، فى إطار حل الدولتين، ومبادرة السلام العربية.
مع تنامى فشل اتفاقية أوسلو وترتيبات الحكم الذاتي الأنتقالي ، وعجز السلطة الفلسطينية عن تحقيق إنجازات فى الضفة الغربية، وفى مسار التسوية، نظرا لغطرسة اليمين الإسرائيلى، واليمين الدينى المتطرف، وحروب إسرائيل مع حماس، تنامت العلاقات الإيرانية- الحمساوية، من حيث الدعم، والتدريب، والتسليح، فى ظل سياسة ايرانية ترمى إلى لعب دور إقليمى كبير، فى قلب المنطقة العربية، فى إطار التنافس الثلاثى الإيرانى، الإسرائيلى، التركى، والسعى الإيرانى لامتلاك السلاح النووى، وتوظيف بعض الأزرع الإقليمية من الفواعل السياسية ما دون الدولة -حزب الله فى لبنان، وحماس فى قطاع غزة، وجماعة أنصار الله الحوثى فى اليمن والمليشيات الشيعية في العراق – في عملية توظيف القضية الفلسطينية سياسيا، فى شرعنة علاقاتها مع هذه الفواعل السياسية، وأيضا فى تقديم دورها الإقليمى بوجه إسلامى سياسى خارج الفقه الشيعى السياسى، والمذهبى خاصة فى دعمها لحماس لأثبات انها لا تمايز بين الشيعة والسنة .
من هنا المواقف السياسية العربية بعد عملية طوفان الأقصى لم يتجاوز غالبها، سوى خطاب التنديد بالعدوان على قطاع غزة، والمطالبة بهدن أو وقفات إنسانية ، ثم مع تزايد عدد ضحايا الحرب من المدنيين – 22 ألف قتيل ، وقرابة 60 ألف جريح والأرقام في تزايد مضطرد يوميا – المطالبة بوقف إطلاق النار، والدعوة إلى حل الدولتين، وتقديم بعض المعونات الأغاثية!
عدم فعالية غالب الدول العربية فى ممارسة ضغوط فعالة على الموقف الأمريكى الأوروبى الداعم لإسرائيل يعود إلى تراجع أشكال التضامن العربى إلى محض عبارات، فى الخطاب السياسى الرسمى مع استثناء محدودة.
لا شك أن مشكلة بناء الدولة الوطنية فى الغالبية العظمى من البلدان العربية، لاتزال هى التحدى الهيكلى لهذه المجتمعات الانقسامية نظراً لطبيعة تكوين السلطات السياسية، والنظام السياسى الشمولى والتسلطى الذى حاول من خلال استراتيجية بوتقة الصهر بناء التكامل، والاندماج الوطنى من خلال أجهزة القوة، دون أن يفتح الأبواب أمام حلول إصلاحية فى النظام والسلطة تؤدى إلى أبنية مؤسسية تشاركية، تسمح لكافة المكونات الاساسية أن تعبر عن مصالحها، وثقافاتها من خلالها! خاصة فى ظل تفاقم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، فى مجتمعات غير مستقرة، وإقليم مضطرب. مشكلة بناء الدولة الوطنية أدت إلى هيمنة نظم للتنشئة الاجتماعية والسياسية تركز فى عقود ما قبل الربيع العربى المجهض، وما بعده على السياسات السلطوية، والإيديولوجية، فى التعليم ومناهجه المقررة، وفى جهاز الدولة الإيديولوجى، علي هامشية الفكرة العربية الجامعة، والعروبة الثقافية، ومن ثم المسألة الفلسطينية، على نحو أدى إلى تراجع الوعى الجمعى بالقضية الفلسطينية لدي الغالبية الساحقة للأجيال الجديدة منذ عقد التسعينيات من القرن الماضى، وحتى عقدى الألفية الجديدة، وإلى الآن! من هنا شكلت عملية طوفان الأقصى، وحرب الإبادة الجماعية، والتطهير العرقى الإسرائيلى صدمة للوعى الجماعى لأجيال الألفية (زد/ gz) الذى استيقظ على حالة جحيمية، وعنصرية لليمين، وقادة اليمين الدينى المتطرف فى نظرتهم للإنسان الفلسطينى، ولثقافة المقاومة، والمقاومين، وروح الصمود الجماعية رغم الموت والألم والجروح والإصابات. بعض اليقظة العروبية والفلسطينية لدى بعض الأجيال الشابة العربية تبدو ظاهرة ، وانهارت معها بعض من الصورة الأخلاقية الأمريكية والأوروبية، حول القيم الإنسانية، وحقوق الإنسان، ومن ثم ستؤدي الحرب الوحشية والدعم الأمريكي والغربي إلى فجوات إدراكية جماعية إزاء النموذج الغربى نسبيا، وأيضا إلى تداعى، وانكسار ثقافة التطبيع والسلام التى تم الترويج لها أمريكيا وأوروبيا، وإسرائيليا، والخطاب السياسى المحمول عليها، ومعه الجماعات التى روجت للتطبيع والسلام، مع دولة كل سياساتها العدوانية والاستعلائية ضد السلام العادل، وتطبيق قانونى الحرب، والدولي الإنسانى، وقرارات الشرعية الدولية –242 والقرارات المتصلة- وضد إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس على الأراضى المحتلة بعد 5 يونيو 1967، وتسعى إلى محو القضية الفلسطينية العادلة.
المصدر: الأهرام