فواز حداد
الأقرب إلى اليقين أنّ الإنسانية قضيّة واضحة وبسيطة، لا تحتاج إلى نقاش، ولا يختلف عليها اثنان. تلعب الإنسانية أدوارها بكلّ ما يختصّ بالبشر، يُضفي النظر من خلالها الموثوقيّة على ما يرجى من غايات نبيلة، يتجلّى بتوخّي الحياد في أحكامنا حول ما يحصل من نزاعات. وربما نستطيع، براحة ضمير، اتخاذ موقف لا نجد مانعاً من الإعلان عنه، لبراءته من الهوى، ما دامت الإنسانية هدفنا، من دون الانحياز إلى جنسية، أو عرق، أو لون، أو دين. وإذا كان للإنسانية دين، فالحقيقة العارية.
اكتشف المفكّرون حقوق الإنسان، فاندلعت الثورات بتأثيرها، إن لم يكُن بوحيٍ منها. لم يطل الوقت، عندما عانت البشرية من التلاعب بها، وافتقدت إليها في السنوات اللاحقة، وإن أعاد جيل جديد من المفكّرين اكتشافها والتأكيد عليها، بينما كانت سياسات الدول تهملها لئلّا تُصبح عائقاً أمام طموحاتها، وتُبرهن بأعمالها الرائدة وراء البحار على تجاهُلها. كان في التخلّص منها توطئة لتيسير أطماعها في الغزو وتسهيل سعيها إلى الهيمنة. كان اختراع الاستعمار من نتائج استبعاد الإنسانية، تحقَّق باحتلال قارّات ونهبها، وتجارة الرقيق واستغلال البشر، فغدت حضارة التقدُّم، حضارةَ السيطرة المطلقة، ما أدّى حتى إلى فرض العقائد كنعمة إلهية من حضارة متفوّقة على شعوب وثنية جاهلة وإرغامهم عليها.
لم تُصبح الإنسانية قصّة معقّدة، وبلوغها حدّ الاستعصاء، إلّا في النظر إلى الخير والشرّ من منظار استعماري، فكان في غيابها حضور للأنانية والجشع، وحدها المصالح حدّدت مفهوم الإنساني، رغم انتفائه، بتحويله إلى حسابات ربح وخسارة. لم يعُد الخير في الحضارة إلّا في السطو على مقدّرات البلدان المستعمَرة، ما أتاح إبادة الملايين من دون شعور بالذنب، باعتبار الآخر ليس إنساناً.
ما يجري في العالم، يمكن تبسيطه، لا تشذّ عنه الكثير من الدول والحكومات ومراكز القرار والقوى الفاعلة في المجتمعات، يتمحور حول ما يمكن تشبيهه بجريمة تقع على شعب، فتُسارع دول كبرى إلى التدخّل فيها، فلا تعود الجريمة إلّا ذريعة للاستثمار، لا تكلّف أكثر من إنكارها أو نفيها او إخفائها، وطالما أنّ الانحياز إلى الضحية لا يعود بالفائدة، تصبح تبرئة المجرم وسيلةً لاعتماده عميلاً لها، وهو ما يفسّر وجود رؤساء مستبدّين في الحكم مدينين بطغيانهم إلى دول يقدّمون الخدمات لها، مقابل بقائهم في السلطة، بينما شعوبهم تُسلب، وثرواتهم تُنهب.
هناك اليوم على الأقلّ ثلاث أزمات كبرى، ولا يعني تحديدها إهمال غيرها، كما لا يوجد أزمات صغيرة، إذ كلّها كبيرة، كما السودان مثلاً. وإنما نركّز على ما يُدعى بالكبرى لأنّها استفحلت، كما لتعدُّد المتورّطين فيها، وهي القضية الفلسطينية، والقضية السورية، وقضية أوكرانيا، لم تجد حلّاً لها في الأمم المتّحدة، وتُركت لصراعات الكبار، روسيا وأميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، وبعض الدول الإقليمية مثل “إسرائيل” وإيران، وطبعاً ما هبّ ودبّ من جيوش ومليشيات ومرتزقة، على حساب مئات الآلاف من الضحايا.
هذه القضايا مرشَّحة لتُصبح معمّرة، فالفلسطينية نحو ثلاثة أرباع القرن، والسورية دخلت في العقد الثاني، وأوكرانيا في بداية العقد الأوّل، قضايا بلا حلّ، تُخلّف يومياً نزيفاً في الأرواح، عدا الخراب، والفاقة، والجوع، والتشرّد.
ليس ثمّة بدعة في الحديث عن الإنسانية، فمنذ بدأ البشر رحلتهم في هذا العالم وهُم يبحثون عن فكرة هادية تؤسّس للعيش بينهم، من دون صراعات عبثية، تصبح مع الوقت وحشية وهمجية، تفتقد إلى العقل. إذا لم تؤتِ الإنسانية مفعولها، فلن تزيد عن أكذوبة تتداولها الدول في الأمم المتّحدة، ووسائل الإعلام، وتنتقل إلى الشعوب والأفراد، من دون نصيب لها على الأرض.
الإنسانية قضيّة يُعوَّل عليها، لكن من فرط ما أصابها من فساد، أصبح تناولها لا يعني سوى اللغو بها، إلى حدّ بات إصلاحها يحتاج إلى إصلاح العالَم. إنّ الرجاء ليس من الحكومات وإنّما من هذه الأجيال الجديدة الناشطة في كلّ مكان، تحمل في داخلها إحساساً إنسانياً مفعماً بالعدالة، على أمل التأثير فينا نحن البشر، وفي حال استحال علينا جميعاً العمل على أن يكون هذا الكوكب مكاناً صالحاً للعيش بسلام، فلسنا أهلاً للبقاء.
* روائي من سورية
المصدر: العربي الجديد