د.عبد الله تركماني
محنة الأمة، التي نشأت نتيجة خطايا النظم ومعاناة الشعوب العربية، هي اليوم الدافع الأساسي ومصدر الإلهام الحقيقي لكل الأفكار الإيجابية وكل التوجُّهات العصرية المطلوبة حتى نصبح يوما بحق ” خير أمة أُخرجت للناس “. فهل سنبدع حلولاً ووسائل جديدة للتغيير مستلهمين القيم التي أعلنها ربيع الثورات العربية في موجتيه 2011 و2019، وبالتالي ممارسة دورنا في المسيرة العالمية متأثرين وفاعلين؟ وهل ستذهب سدى دروس الاحتلال الأمريكي للعراق وتداعيات كارثة غزة؟ وهل ننتظر المزيد من محاكمات صورية لسجناء الرأي والضمير؟ وهل ستحتاج الحكومات العربية لكوارث أخرى لتتعلم أنّ لا شيء يعلو على حرية المواطن التي هي أساس بناء المجتمعات الحديثة وتقدمها؟ وربما يكون السؤال الصعب الذي يواجهنا اليوم هو: كيف نعيد المعنى إلى قضايانا ونبني حداثتنا ونثبت الأمل بدل اليأس، وأن نبدأ التفكير بأقل ما يمكن من الانفعال وأكثر ما يمكن من العقل لتحديد معالم مشروع نهضتنا الجديدة؟
لقد آن الأوان لكي نتحرك نحو الإصلاح الجاد والتفكير الشامل والابتعاد عن العشوائية السياسية، إنه وقت للصحوة المطلوبة والرؤية الغائبة والرشد المنتظر. فقد حان الوقت للتغيير، لبدء الطريق نحو التخلص من التبعية والتهميش وإعادة إنتاج الفقر والتأخر والتفاوت والجهل والتسلط والتفكك، وذلك بالاعتراف بانهيار عصر عربي، بأنظمته وأحزابه ومؤتمراته وعقائده، وإجراء مراجعة شاملة للشعارات الكبيرة المعتمدة على أفكار تجاوزها الزمن، ونقد للذات، والبدء بقبول وفهم الوقائع العالمية الجديدة وانعكاساتها المحلية، ووضع حلول للحاضر والمستقبل لا تُستحضر من مفاهيم الماضي إلا بمقدار ما تنطوي على جدوى للحاضر والمستقبل.
ولعلَّ مما سبق يتضح أنّ هنالك زاوية أخرى يجب إدخالها في المعادلة القائمة وهي المجتمعات العربية وإراداتها، وإبراز ما يمكن أن تقوم به في تحديد مصير المستقبل الذي ستكون عليه المنطقة العربية. فمن الأمور التي ينبغي التركيز عليها في هذه المرحلة وبعيداً عن الشعارات الكبرى التي لم نستطع تحقيقها تكمن في:
(1) – نشر ثقافة الحقوق والكفِّ عن التذكير بالواجبات التي حفظتها شعوبنا العربية عن ظهر قلب، والاستعاضة عنها بثقافة الحقوق والواجبات مجتمعة، حتى يكون كل منها داعماً للآخر.
(2) – بثِّ روح المشاركة الوطنية وفتح مجالاتها أمام كل إنسان في العالم العربي، فهو مشارك أساسي في بناء مجتمعه، وهو عامل حاسم في تنمية ورقيِّ البلد الذي ينتمي إليه، وذلك عن طريق تفعيل دوره في كافة أوجه النشاط القائم في محيطه. كل ذلك يمكن أن يتحقق بإعطائه الفرصة للمشاركة الحرة في العمل الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي، وكذلك تشجيع العمل التطوعي وإبراز آثاره الإيجابية.
(3) – إعطاء الشعوب مزيداً من الحرية في اتخاذ قراراتها وفق تصوراتها الخاصة وكذلك نقدها لما يدور حولها، وخصوصاً في الأمور ذات العلاقة المباشرة بها ناهيك من الأمور الكبرى التي قد تحدِّد مستقبلها، سواء في المنتديات العامة أو وسائل الإعلام المتعددة، وعدم اقتصار الخوض في هذه الأمور على جهات معينة ذات توجهات معروفة مسبقاً، فلم يعد المجال مقتصراً على وجهة النظر الواحدة، فالحياة العامة أرحب ويمكن أن تستوعب أكثر من وجهة نظر.
(4) – إرساء مبادئ العدالة في المجتمع بجميع شرائحه وطبقاته، فالكل أمام القانون سواء، والكل مساءل عن تصرفاته، الكل تطالهم يد القانون، لا استثناء، فالقاعدة القانونية وضعت عامة مجردة، لم يُنظر عند وضعها إلى شخص من تطبَّق عليه أو مركزه في المجتمع. وكذلك تفعيل دور رقابة المواطن لما يدور حوله ومساءلة القائمين على الشأن العام عند تقصيرهم في أداء أعمالهم، بل وإحالتهم إلى الجهات الرقابية والقضائية لاتخاذ ما تراه مناسباً تجاههم.
(5) – إعادة النظر في سياسات التربية والتعليم المبنية على التلقين والكم وليس الكيف، الذي عطَّل عقول الناشئة والاستعاضة عنه بأسلوب الإقناع والحوار والمشاركة حتى تكون هذه العقول على إيمان بما تتعلَّم وتتربى عليه، كما أنّ هذا الأسلوب يعطيها القدرة على الإبداع والابتكار، بل أنه يساعدها عندما تنتقل إلى حياتها العملية على تطوير أدائها وتنمية مهاراتها لأنها نشأت على ذلك.
إنّ المطلوب في هذه الأيام الحاسمة من تاريخنا المعاصر أن ننتقل من حالة التنظير إلى حالة الفعل الإيجابي بالسعي لتشكيل توافقات وطنية داخل كل قطر عربي، أو ما يمكن تسميته بـ ” الكتلة العربية الواحدة من أجل التغيير ” حيث يعطى هذا التجسيد العربي من الصلاحيات ومن القدرات ما يؤهله من القيام بعملية إصلاح سياسية شاملة، تهدف إلى صياغة رؤى فكرية معاصرة تتعايش مع العصر لبناء مؤسسات المجتمع المدني وإرساء قواعد دولة الحق والقانون وانتهاج الديمقراطية مساراً والتعددية ثراء وإغناء للحياة العربية، واعتماد الحرية متنفساً إنسانياً للتعبير والنقد البنَّاء والمشاركة الخلاقة، وإشاعة روح البحث العلمي في كل ميدان من الميادين وإتاحة المناخات الصحية التي تفجِّر طاقات المبدعين من أبناء الأمة.
إنّ ما يحتاج إلى التغيير هو أفكارنا بالذات، بمرجعياتها ومسبقاتها وأحكامها، فمقولاتنا وسياساتنا التي تجسِّد علاقتنا بوجودنا هي منشأ الخلل كما يتجلَّى ذلك في غير وجه من وجوه حياتنا، أي هي مصدر مصائبنا وكوارثنا، وهي التي تعمل ضدنا وتنصب الأفخاخ لنا، على نحو يجعلنا نزداد ضعفاً وتراجعاً. الرهان هو أن نتغيَّر في ضوء المتغيِّرات، فكراً وعملاً، رؤيةً ومنهجاً، سياسةً واستراتيجيةً، لإحداث تحويل مثلث الوجه، بحيث نتغيَّر به عما نحن عليه، لكي نحوِّل الواقع ونسهم في تحويل سوانا عبر مشاركتنا في إعادة صياغة العالم. وذلك يتوقف على قدرتنا على تشغيل عقولنا المصادَرة وصرف طاقاتنا المشلولة واستغلال مواردنا المنهوبة بصورة مثمرة، فعَّالة وراهنة، بما نخلقه من الوقائع أو نحققه من الإنجازات أو نحدثه من التحوُّلات في غير مجال من مجالات الحياة. وليس لنا إلا العمل على صرف طاقاتنا وصنع حياتنا بتحويل علاقتنا بثوابتنا المعيقة وهويتنا العاجزة ونماذجنا الثقافية المستهلكة. علينا أن نمارس التفكير بصورة نقدية وحرة، مرنة ومفتوحة، مركَّبة وتداولية، مبتكرة وخصبة، مثمرة وفعَّالة، من غير مصادرات أو مسبقات، أو دون تهويل وتهويم وتشبيح، بحيث نكون قادرين على تغيير أنماط تعاملنا مع الذات ومع الغير أو المعرفة والثروة أو مع المعنى والقوة، لكي نكون بشراً مستعدين للتعامل مع ما هو متحرك ومتسارع أو مع ما هو متغيِّر وطارئ أو مع ما هو لامعقول ومفاجئ، بل مع ما هو مرعب من الكوارث التي نصنعها بحمقنا وجهلنا وجنوننا.
لا بدَّ لنا من التخلِّي عن جميع الممارسات وأشكال التمييز بين المواطنين، سواء ما كان منها طائفياً أو حزبياً أو دينياً أو مذهبياً أوعشائرياً أوعائلياً أو قومياً، والعودة بشكل فعلي من دون تلاعب أو خداع، إلى قواعد الممارسة الوطنية القائمة على المساواة بين جميع الأفراد أمام القانون وتكافؤ الفرص والاحتكام إلى القضاء النزيه وإلغاء الفساد والعبث بمصالح المواطنين، وإلغاء كل الامتيازات التي تتمتع بها فئات معينة على حساب المواطنين جميعاً وعلى حساب الوطن بأكمله. إنّ معيار الوطنية ينبغي أن يكون اليوم العودة إلى منطق المساواة والعدالة والحرية وحكم القانون.
إنّ التقدم له طريق واحد، يبدأ من نقطة الاتفاق على هدف، وأن تكون للهدف فلسفة يُبنى عليها، وما الذي نريد أن نصل إليه ونحققه؟ وما هي إمكاناتنا ومواطن قوتنا؟ وما الذي ينقصنا؟ وكيف نعوِّضه ببدائل لدينا أو لدى غيرنا؟ وذلك في إطار منظومة عمل لها مدى زمني، تراجع فيه خطوات التنفيذ، ويراجع تقويم الأشخاص المكلفين بها.
إنّ الذين يعملون من أجل التقدم وفق مفهوم المشروع الوطني، يربطون عملهم بموقفهم في مكافحة التراخي، فمن أراد ألا يضيع منه الهدف، لابدَّ أن يحمل إصراراً استراتيجياً على بلوغ متبغاه، مهما تكن الصعوبات. وإذا كانت هناك نية حقيقية لصياغة فكر استراتيجي جديد للتعاطي المجدي مع كل التحديات فإنّ البداية الحقيقية يجب أن تنطلق من كفاءة النظام السياسي وشروط تحقيق هذه الكفاءة، التي تتمثل أولاً وقبل كل شيء في وجود درجة عالية من الثقة المتبادلة والارتباط القوي بين الحاكمين والمحكومين.
إنّ الوطنية لم تعد مقبولة بلا مضمون ديمقراطي، والديمقراطية تصبح أكثر فأكثر الأساس لعلاقات إنسانية على المستوى المحلي والعالمي وبديل عن الأفكار القومية الانعزالية والماركسية الشمولية والإسلاموية الإرهابية أو المتخلفة. إنّ سقوط مفهوم الوطنية القديم الذي يعتمد مقاومة الغريب أو الأجنبي أو ” الكافر” لمجرد أنه غريب، هو لصالح مفاهيم وطنية جديدة ترى حدود الوطن في حدود المواطن الحر.
فهل سنتمكن من محو الأمية وتأمين مقعد دراسي لكل تلميذ؟ هل سنقضي على الرشوة وأنواع الفساد؟ هل سنعمل على تشكيل رأي عام فاعل؟ هل سننعم بانتخابات شفافة ونزيهة؟ هل سنترك للإعلام الحرية اللازمة ونسمح له بالعمل حتى ولو تعارض مع مصلحة زعيم أو رئيس؟ هل سنضع قوانين عصرية تعطي المرأة كامل حقوقها المدنية؟ هل سنتجرأ على مناقشة قوانين الأحوال الشخصية وجعلها اختيارية؟