دلال البزري
التقارير المنبّهة إلى احتمال قيام حركة حماس بعمليةٍ ما في “غلاف” غزّة كانت كثيرة قبل “الطوفان”؛ وذات مصادر متعدّدة، من استخبارات، جيش، أمن داخلي… وكل مرّة، كانت توضع هذه التقارير جانبا، تُهمل، وينساها المسؤولون. لماذا؟ لأن غطرستهم مزْمنة. يتصوّرون أن عدوهم لا يمكن أن يرتكب عملية كهذه، يُحسب لها ألف حساب، نظراً إلى قوتها الخارقة. وهذه عجرفة ضرورية لعقيدة إسرائيل، القائمة على تأمين “وطن” آمن لليهود الموزّعين في مناف قديمة. لكن “طوفان الأقصى” ضرب هذه الثقة في الصميم. وكانت صدمة إسرائيلية معْدية، جماعية وفردية. يتناول الآن علماء النفس الإسرائيليون أعراضها، يحاولون معالجتها، يعتبرونها سابقة. ولا يجدون العديد الكافي لها، بعدما هاجر كثيرون منهم إلى بريطانيا بحثا عن رواتب أعلى وعن أمان ظهرت ملامح اختلاله قبل “الطوفان”. فينادونهم، لعلهم يستجيبون لـ”الواجب الوطني” الإسرائيلي القاضي بالمعالجة النفسية لهذا الحدث “الصادم الشامل”، بحسب أحد كبار علماء النفس الإسرائيليين.
والحربُ التي نعرفها الآن لم تبخل بالعجرفة، البديهية المعلنة لحاكمها نتنياهو. يتفرّع منها ذاك “النصر المطلق”، المرفوع منذ بدايتها: “سنقتلع حماس”، “سندمّرها، سنعلّمها درسا… حتى النهاية”. ما زالت هذه الروحية سارية بعد ستة أشهر، من دون خطّة، ولا ورقة طريق ولا استراتيجية. فقط تكتيك القتل والتجويع والسجن وتوسّع المستوطنات في الضفة الغربية، وقتل أهلها عشوائيا، ومن دون حساب.
ومع ذلك، ابتعد “النصر” الموعود. بيّنت “حماس” عن قدرةٍ خارقةٍ على فرض أثمانٍ مرتفعة، على الاستمرار في القتال، على الجرْجرة في المفاوضات، على إثارة “الاضطرابات” في الضفة… وجديد تجليات فشل الجيش الإسرائيلي أخيراً كان في هجومه على مستشفى الشفاء في مدينة غزّة، ومحاصرة مرضاه واللاجئين إليه. وأين؟ في البقعة التي أعلن أنه حقّق فيها نجاحاً مبهراً بـ”القضاء على كل قدرات حماس”.
وكان الجيش يقول الحقيقة على الأرجح، إن قادة كتائب الشهيد عز الدين القسّام، وربما ضباطها، قد أصبحوا من فعل كان. ولكن ما لم يحسب له حسابا هو تفريخ مجموعات مقاومة جديدة، ليس معروفاً تماماً إذا كانت “حماس” تقودها، بحسب المعلومات الاستخبارية الإسرائيلية. إذ تخمن وتعترف بأن الذين يقاومون الجيش الإسرائيلي في مستشفى الشفاء قد يكونون، وقد لا يكونون، بقيادة حماس.
ثم، بالفظائع التي ارتكبتها، فقدت إسرائيل، ربما إلى زمنٍ طويل غير معلوم، حجّتها التاريخية، التي أسّست عليها كل مشروعية إقامتها منذ ثلاثة أرباع القرن على أرض فلسطين، من أنها تحمل شعبا مظلوما، عرف المحرقة، قُتل منه الملايين فيها، وقبلها البوغرومات والغيتوات في نواحي أوروبا المختلفة. شعب مظلوم، يحق له أن يعيش.
بعد أيام على “الطوفان”، كانت البروباغندا الإسرائيلية تدور حول مظلوميتها التاريخية هذه: النازيون، المحرقة، الهولوكوست، هتلر. تريد للعالم ان يقتنع بأنها هي الضحية، وكاد العالم أن يصدق. إلى أن بدأت ترتكب المجزرة تلو الأخرى، المحرقة تلو الأخرى، التجويع، الترويع… بما يهزّ الضمائر الغافية. وغطست إسرائيل في بحر الذنوب ورماله، لم تعد تفتح سيرة الهولوكوست. ولا بقية العالم معها. وهذا درسٌ إنساني مفيد. من أن الضحية يمكن أن تتحوّل إلى جلاد، أن الضحية التي تتحوّل إلى جلاد، تمحي بنفسها تاريخ مظلوميتها.
العزلة الأخلاقية الدولية نتيجة هذا التحول في المظلومية أو سببه. صورة إسرائيل في العالم، المعادي والمصادق لها، هي في أدنى درجاتها. والدياسبورا اليهودية تدفع ثمن تلطّخ هذه الصورة. غالبية هذه الدياسبورا تحمل الجنسية الأميركية (ستة ملايين وقليل، مقابل مليون وقليل موزّعين في أنحاء العالم، أوروبا خصوصاً). وليس معروفا كمْ إسرائيلي من بينهم أيضاً. ولكن المؤكّد أنها كانت ذات سطوة وهيبة ونفوذ، بلوبياتها وصورتها وموقعها.
ولكن الآن: ما تسمّيه إسرائيل، اللاسامية، خالطة فيه بين العداء لإسرائيل والعداء لليهود… اللاسامية إذن، آخذة بالصعود في أميركا وأوروبا. كُنسٌ أو مؤسسات يهودية، مطاعم، جامعات، منازل وحتى أفراد يضعون الكيبا على رؤوسهم، أو يعلقون على رقبتهم قلادة نجمة داود. كل يوم يخرج علينا الإعلام بنسبة تزايد تعبيرات العداء لهم… على الأقل، لم يعُد يهود الدياسبورا يأمنون عل أنفسهم، بعدما كانوا يشدّون ظهرهم بإسرائيل. وإذا استمرّ الحال على هذا المنوال فإن انقلابا سيحصل، أو على الأقل تعديلٌ في الميزان: من منظمة إيباك التي كانت العمود الفقري للسياسة الإسرائيلية داخل الإدارة الأميركية، لصالح منظمتين يهوديتين، “أصوات يهودية للسلام”، و”إن لم يكن الآن”، الآخذتين بالصعود بعدما تطورت مواقفهما الفلسطينية أثناء هذه الحرب.
الحجة الثانية، أو الشرعية الثانية الأساسية التي تأسّست عليها لإسرائيل، الديمقراطية والحداثة. تلك الجاذبية الخارقة التي ولدتها ظروف النشأة، وبقيت عليها ثلاثة أرباع القرن. الغفلة الأولى كانت أن هذه الديمقراطية هي بين أهل بيتها، أي اليهود. ومن الطبيعي بصفتها محتلة ألا تطاول هذه الديمقراطية الشعب الذي تحتلّ أرضه. ديمقراطية في فقّاعة ذات غلافٍ رقيقٍ لم يكن أئنا إلا لمن يودّ النظر.
عشية “الطوفان”، تعرّضت هذه الفقاعة لمحاولات تمزيقها من السلطة الحاكمة، وهي ائتلاف من يمين متشدّد الى يمين مسياني (نوع من “داعش” يهودي، مع فارق العلنية). وذلك عبر مشروع قانون قدّمته إلى البرلمان، الكنيست، يتحوّل القضاء بموجبه إلى منفِّذ لتعليمات الأحزاب الحاكمة. أي القضاء على استقلال القضاء بقانون وربما دستور. وخلال تسعة أشهر، نزل الإسرائيليون الشارع، وأضرب الضباط والجنود، وأقيمت الفعاليات والندوات وأطلقت الصرخات، التي وصلت إلى آذان جو بايدن. وهذا الأخير كان ممتعضا من نتنياهو، قائد المشروع، وتتسرب عن لسانه تعليقات قلّة انسجامه مع نتنياهو…
وكان تقرير مجموعة “في – ديم” المتخصّصة بالمؤشّرات الديمقراطية في مائتي بلد، أن إسرائيل فقدت صفتها “ديمقراطية ليبرالية”، وتحوّلت إلى ديمقراطية “انتخابية”، مثل البرازيل وبولونيا، ففي هذه الديمقراطيات، يحقّ للمواطن التصويت على من يحكمه. ولكن كل ما تبقى ممْتنع: أي الالتزام بمعايير العدالة، بحقوق الأقليات، بحرية التعبير وبدولة القانون.
والحرب على غزّة تعطي لهذا التقرير أمثلة إضافية عن هذا الضمور الديمقراطي: قمع اليهود أنفسهم، بوضع الرقابة على الإعلام، نشر السلاح على نطاقٍ واسع بفضل جهود القياديين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، تقليص حرّية التعبير الفردية، شراسة مواجهة التظاهرات المسموحة، منع العرب الإسرائيليين من التظاهر، إقصاء من الجامعات للأساتذة العرب الذين يعبرون عن تضامنهم مع أهل غزة، التشدد الفائق بالسجون، وصور الرجال العراة من الغزيين على ظهر شاحنة، مراقبة دقيقة لمواقع التواصل، حتى القديم منها، السماح بقانون صادر عن الكنيست، للجيش والمخابرات بقرصنة الأجهزة المشكوك بأمرها من دون علم أصحابها إلخ.
على مستوى “القيادات”: صحيحٌ أن المحكمة العليا الإسرائيلية أبطلت بندا مهمّا من مشروع نتنياهو وصحبه بالقضاء على القضاء. ولكن النخر بالديمقراطية يتم على مستوى أدنى أيضا، في فروع حكومية وفي القطاع الخاص. مشاريع قوانين، قوانين صريحة، أو تمريرات غامضة…. مثل رقابة رئاسة الوزراء على كل شيء، او تسلّل رجال الأحزاب الدينية إلى لجان التخطيط والبناء، التي يرأسها وزراؤهم. تغلغل خفيض لرجال هؤلاء أيضا في الوزارات الأخرى “غير الممسوكة”. استقالة ضبّاط الشرطة الإسرائيلية بعدما تمادى إيتمار بن غريف بالتدخل في أنشطتها الأمنية. توقيف تعيينات إدارية في قيادات الجيش لأنها لا تروق لوزير المال بتسلئيل سموتريتش… شيء يشبه المحاصصة المعهودة عندنا.
هذا كله وسط وحدة وطنية مهتزة. أبرزها أزمة الحسيديين الأرثوذكس، والتي تضيف جرحا آخر إلى نرجسية “الوطنية الإسرائيلية”. منذ قيام إسرائيل ولليهود الأرثوذكس مدارس تموّلها الدولة، كما تمول بقية حياتهم، إذ لا عمل لهم غير القراءة والتأويل. يدرس فيها التلامذة التوراة، ليكونوا حاخامات لاحقا. وهم أصحاب عقيدة تمنعهم من الحرب وحمل السلاح، يشكّلون حوالي 10% من سكّان إسرائيل، وعدد الشباب الصالحين منهم للخدمة العسكرية يتجاوز الستين ألفا. كانت الأصوات المحتجة على هذا الإعفاء من الدم خافتة في السابق. ومع الحرب ارتفعت، وبلغت مستوىً حكومياً. يؤيدها وزير الدفاع غالانت، وزعيم الأقلية بنيت. ويراوغ فيها نتنياهو، مع أنه أكثر الراغبين باستمرار المقتلة الغزية، أي الأكثر حاجة إلى العديد.
كل شيء تاريخي في هذه اللحظة، كلّ شيء يبطن أسئلة ويولّدها. الفشل التاريخي لإسرائيل، وضياع روحها، حجّتها، شرعيتها، وميزتها الحداثوية… وكلها كانت نقاط جذبٍ للغرب. وكلها جرّت معها سخطاً هائلاً تجاه هذا الغرب.
التاريخي الآخر، انفجار فلسطين بوجه العالم نفسه، الغربي، الحيوي، ذي التأثير على مجريات حكامه. صورة فلسطين منذ بداية إسرائيل، أي تاريخها وحاضر أبنائها، مصيرهم، شتاتهم، شخصياتهم… أصبح الآن تحت الرادار الدقيق لهذا الرأي.
بعد ذلك تبقى الأسئلة. عن المستقبلين، القريب والبعيد. نكتفي بطرح واحد منها: لو أُزيح نتنياهو، ماذا ستكون سياسة إسرائيل؟
المصدر: العربي الجديد