عبد الوهاب بدرخان
لا معادلة ردع جديدة في الشرق الأوسط، لأن المواجهة بين إيران وإسرائيل أظهرت نقاط الضعف لديهما، بعدما أضطرّتا للأخذ بالضوابط التي فرضتها الولايات المتحدة عليهما. إذاً، فالردع يبقى أميركياً، أو غربياً بالمعنى الأوسع، وهو تأسَّس على تمكين إسرائيل من العربدة إلى حدّ “الإبادة الجماعية”، ودشّن الآن نهج لجم إيران بعدما ساهمت مظّلته في إسقاط معظم الصواريخ والمسيّرات الإيرانية خارج أجواء إسرائيل، سواء لحماية الأخيرة أم – كما قيل – لمنع حصول أضرار كبيرة، بشرية خصوصاً، من شأنها إشعال حرب إقليمية.
ما كان الأميركيون والبريطانيون والفرنسيون ليفعلوا الشيء نفسه بصواريخ ومسيرات إسرائيلية لـ”حماية” إيران ودرء الخطر عنها، لكنهم لا يريدون فعلاً نشوب حرب، بل إدامة التوتّر والاضطراب ورعايتهما. لذلك كانت تحذيرات جو بايدن واضحة وصارمة إلى حدّ أن بنيامين نتنياهو لم يتمكّن هذه المرّة من التمرّد عليها، مع أن العضوين “الوسطيين” في مجلس الحرب، بيني غانتس وغابي أيزنكوت، كانا مؤيدين لردّ فوري وقوي على الهجوم الإيراني، ثم تراجعا بعد تبلّغهما الموقف الأميركي. وفيما أمضت طهران أسبوعين من التراسل غير المباشر مع واشنطن لتحدّد طبيعة ردّها على قصف قنصليتها في دمشق، لم تحتجْ إسرائيل إلى أكثر من خمسة أيام، نظراً إلى سهولة التواصل، كي تكتفي أيضاً بضربة محدودة. وقد ساهم ضبط الردّين في توظيف الحدث لاستئناف خطة أميركية لإنشاء “تحالف إقليمي” يضمّ العرب وإسرائيل تعويضاً للأخيرة عن انكشافها، ولتعميق الانكشاف الإيراني.
في الحالين لم يفصح الطرفان عن نتائج هجوميهما على الأرض، لكن فُهم أنهما ركّزا على قواعد عسكرية، مع إبدائهما حرصاً متبادلاً على عدم استهداف المنشآت النووية. وكانت هناك إشارتان:
أولاهما أن مصادر إسرائيلية تحدّثت عن تأثر محيط مفاعل ديمونا بالقصف، غير أن الرقابة استطاعت كتم التفاصيل، أما المنطقة التي ضُربت في أصفهان فكان معلوماً أنها قلب مراكز البحث والتصنيع الحربي الإيراني، كما أنها قريبة من نطنز، كبرى المنشآت النووية.
والثانية أن الطرفين أكّدا وجود معطيات استخبارية لدى كلٍّ منهما عن الآخر، وعلى رغم إحباط الهجوم الإيراني، فإن الخبراء العسكريين لفتوا إلى أن إسرائيل في صدد خسارة “ميزة الردع” التي كانت تعتدّ بها، وفي المقابل أظهر الهجوم الإسرائيلي انكشافاً إيرانياً، تحديداً لأن المسيّرات التي استخدمت فيه “جاءت من الداخل عبر متسللين”، كما أفادت طهران، وهي برّرت عدم سعيها إلى الردّ بأن الهجوم “لم يأتِ من الخارج”. لم تكن تلك المرّة الأولى التي تقع فيها هجمات “من الداخل”، ولم يسبق أن سُجّلت في إسرائيل هجمات مماثلة على رغم تلميحات إيرانية إلى أنشطة نُفّذت داخل إسرائيل.
غير أن محدودية الردع هذه لا تخدع أحداً ولا تنفي أن الخطر يبقى كامناً ومتحفّزاً، وأن المنطقة باتت فعلياً بين طرفَين لا يؤمَن شرّهما وتهوّرهما. لدى إسرائيل ترسانة نووية معروفة وقد طالب بعض عتاة متطرّفيها بتفعيلها في الحرب على غزّة، لكن “الخطر الوجودي” الآتي من غزّة لم يكن واقعياً على رغم جدّيته. أما إيران فلمّحت أخيراً إلى أنها قد تغيّر “عقيدتها النووية”، فهل اقترابها من الحصول على “القنبلة” يدفعها إلى تنقيح “فتوى” المرشد علي خامنئي (2003) بتحريم استخدام سلاح الدمار الشامل، علماً أنه أسندها إلى الوازعين الديني والأخلاقي؟
أكّدت وقائع التفاوض النووي ومشاركة إيران فيه أنه لا يُؤخذ بالتعهّدات بل بالالتزامات. وبعد استخدامها هذا العدد من الصواريخ البالستية في الهجوم الأخير، تُطرح تساؤلات عن تصرفات إيران المحتملة نووياً في المستقبل.
لكن ماذا عن الطرف الثالث، الأميركي؟ تشهد تجارب العقود الثمانية الماضية أنه لا يُركن إليه لإبعاد أو معالجة أو إنهاء المخاطر التي يشكّلها الطرفان الآخران. إذ إنه لا يختلف عنهما في كونه لا يوثق به، وإنه يواصل التلاعب معهما بأمن المنطقة وبحجج زئبقية لا مصداقية لها، فهو يمنح إسرائيل “حقّاً مطلقاً في الدفاع عن نفسها” ويغطي بل يساهم عملياً في ارتكابها “الإبادة الجماعية” في قطاع غزّة ويهبها أسلحة فيما هي تخطط لتفجير الوضع في الضفة الغربية وتستعدّ لعملية عسكرية قد تتسبب بدمار كبير في لبنان، كما أنه يوحي بالسعي إلى عدم توسيع نطاق الحرب خارج غزّة، ويلوّح بـ”دولة فلسطينية” لا يريدها ولا تريدها إسرائيل بل يشهر “الفيتو” تلو الآخر ضدّها في مجلس الأمن، ثم إنه يتفاوض سراً مع إيران وهي تتباهى بأنها تفاوضه بشروطها وبطريقتها فتتقدّم بعلمه في برنامجها النووي وتحافظ بموافقته على ميليشياتها وتشاغله في البحر الأحمر لتمرّر من خلاله هيمنتها على “أمن المنطقة”…
ليلة الهجوم الإيراني أعيد الالتفاف الغربي حول إسرائيل، وافتُعلت ثانية هستيريا أنها في “خطر وجودي” تمهيداً لما سيأتي. لم يختلف اثنان على أن الهجوم كان لمصلحة نتنياهو، إذ خفّف الضغوط الداخلية والخارجية الراغبة في رحيله. وحرص البيت الأبيض على تنبيهه إلى أن أميركا دخلت في مواجهة “شبه مباشرة” مع إيران وجيّرت “النصر” لإسرائيل، وبالتالي طلب منه أن لا يردّ على إيران لكن “لها الحق في الدفاع عن نفسها”، أي أنها تستطيع الردّ، لكن عليها أن تتشاور مع البنتاغون، أي أن واشنطن تحبذ الردّ ولو محدوداً ومدروساً، لأن “التوازن” لم يختلّ بعد لمصلحة إيران. وخشية أن لا تكون هذه الصيغة مُرضية ومطمئنة لإسرائيل، فقد تجنّدت عواصم الغرب لفرض عقوبات جديدة على إيران، وقدّم بايدن إليها أسلحة بقيمة مليار دولار، عدا 26 ملياراً وافق عليها الكونغرس، فيما أبدت واشنطن استعداداً لتخفيف شروطها بالنسبة إلى “عملية رفح” بحجة أن “حماس” أفشلت مفاوضات الهدنة وتبادل الأسرى، كما ذرّت الرماد في العيون بعقوبات فرضتها على مستوطنين بما لا يتناسب إطلاقاً مع اشتداد العنف الذي يمارسونه ضد الفلسطينيين بحماية سلطة الاحتلال وبأسلحة مرخّصة من إيتمار بن غفير.
أدّى تبادل الهجمات إلى إغراق الحرب على غزّة في أزمة إقليمية. إذا صحّ ما قيل بأن إيران أرادت وقف تلك الحرب، عبر التلويح بتوسيع نطاقها، فإنها أخطأت الهدف تماماً، وهو لم يكن صحيحاً أصلاً. على العكس، شجعت الولايات المتحدة والحلفاء الغربيين على الدفع إلى إنهاء الحرب وفقاً للأهداف الإسرائيلية، وأهمها هزيمة “حماس”. أما استعادة الرهائن فغدا منذ زمن مجرد ذريعة لمواصلة الحرب وتغطيتها، بدليل أن مفاوضات الهدنة والتبادل تعثّرت وقد تنسحب قطر من دور الوساطة فيها لمصلحة تركيا… إذا وافقت أميركا وإسرائيل.
المصدر: النهار العربي