تعددت التكهنات والتحليلات منذ الرد الايراني على الغارة الاسرائيلية على دمشق، بوابل من المسيرات والصواريخ الباليستية التي أُسقط أكثرها قبل دخول الأجواء الاسرائيلية، ولم تلحق الاخرى إلا أضراراً طفيفة.
وفي رواية مفصلة، نشرت صحيفة “الوول ستريت جورنال” اليوم ما اعتبرته تفاصيل “السباق المحموم داخل البيت الابيض لتجنب حرب شاملة في المنطقة”، اعتمد على مصادر رسمية وتسريبات لمسؤولين واكبوا تطورات اسبوع غيّر المعادلة في الشرق الأوسط بعد سنوات من حرب الظل بين ايران وإسرائيل وشهد أول مواجهة مباشرة بين العدوين اللدودين.
وكانت هذه المواجهة التي وفرت بعضاً من “حفظ ماء الوجه” للجانبين أطلقت سلسلة من السيناريوات ونظريات المؤامرة بدت اشبه إلى الأفلام الهندية وإن تكن اكتسبت بعض المنطق استناداً إلى الطريقة التي تدير بها الادارة الاميركية العلاقة مع ايران.
ولعل أبرز هذه السيناريوات ما اعتبره الكاتب الاميركي سيمور هيرش “حلاً عسكرياً لمشكلة سياسية”، قال فيه إن “البنتاغون هندس حرباً زائفة لمنع حرب حقيقية”، في ظل خوف من أن يكون رد رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو على هجوم ايراني ناجح بالمسيرات والصواريخ، كما في غزة، جامحا، وهو ما يمكن بسهولة ان يؤدي الى حرب في الشرق الاوسط.
وفي تفاصيل “الحرب الزائفة”، ينقل هيرش عن مسؤول أميركي أن فريق التخطيط في البنتاغون كان على تواصل مباشر مع نظرائه في اوروبا، ويوحي بأن هذه “الحرب” حصلت بتنسيق أميركي وأوروبي غير رسمي مع روسيا وإيران.
كذلك، نقل هيرش عن مصادر إسرائيلية إن مسؤولين ميدانيين أُبلغوا على الأرجح من ايران، أن الصواريخ التي سقطت قرب ديمونا لم تكن تستهدف المفاعل النووي.
قد يبدو لـ “سيناريو” هيرش بعض المعنى نظراً إلى المحصلة الصفرية للهجوم، إلا أنه يبدو خيالياً في ظل التوتر السائد والعداء المعلن بين أبطاله.
واستبعد خبراء عسكريون سيناريو هيرش وسيناريوات أخرى بدت لعباً بالنار على فوهة براكين نووية، واعتبروها غير واقعية.
المساعد السابق لوزير الدفاع الاميركي ميك ميلروي قال لـ”النهار العربي” إنه لا يعتقد أن ثمة حقيقة في رواية هيرش. وذهب إلى وصفها بأنها “نظرية مؤامرة”.
بدوره سخر القائد الاسبق للناتو ويسلي كلارك من السيناريوات التي تحدثت عن هجوم زائف، وأصر في حديث لـ”النهار العربي” على أن الهجوم الايراني كان يهدف إلى إلحاق أذى بإسرائيل، وأن الدفاعات الجوية الاسرائيلية والغربية وأخرى هي التي أحبطته.
ويقول أيضاً إن أصدقاءه الايرانيين يعتقدون أيضاً أن اسرائيل لم تهاجم أصفهان، وأن واشنطن هندست أمرا ما لحفظ ماء وجه آيات الله.
شريط الأزمة
لم يبق البيت الابيض بعيداً عن هذه السيناريوات. وفي رواية هي الاكثر تفصيلاً لما حصل قبل الرد الايراني وخلاله، استعادت “وول ستريت جورنال” شريط أزمة “بدأت في الأول من نيسان بهجوم شن فيه الإسرائيليون ضربة جريئة على ضباط إيرانيين في دمشق دون أي تشاور مع الولايات المتحدة، وانتهت بعدما ساعد تحالف من الجيوش الأميركية والأوروبية والعربية في صد الهجوم الإيراني، وأظهرت إسرائيل استجابة للدعوات الأميركية لضبط النفس”.
بعد وقت قصير من غارة دمشق، كان السفير الإسرائيلي في واشنطن مايكل هرتسوغ والملحق الدفاعي الإسرائيلي في البيت الأبيض حيث عقد مستشار الأمن القومي جيك سوليفان وغيره من كبار المساعدين مؤتمرا عبر الفيديو مع المسؤولين الإسرائيليين. وفي محادثة جانبية، أوضح هرتسوغ أن إسرائيل استهدفت قائد فيلق القدس في سوريا ولبنان محمد زاهدي وغيره من كبار الضباط الإيرانيين، حسبما قال مسؤولون أميركيون.
وبينما كان المسؤولون في واشنطن وإسرائيل ينتظرون رد طهران، توقع عدد قليل من المسؤولين الإسرائيليين أو الأميركيين أن تهاجم طهران إسرائيل مباشرة، وهو أمر لم تفعله من قبل، ورجحوا أنها ستحاول مهاجمة سفارة إسرائيلية خارج البلاد ردًا على ذلك.
وفي ما يبدو إشارة إلى ما تردد عن ابلاغ ايران واشنطن بعزمها على الرد على اسرائيل، أفاد مسؤولون أميركيون إنه بعد الغارة الجوية في سوريا، طلب الإيرانيون من سفارة سويسرا في طهران توجيه رسالة مكتوبة إلى الولايات المتحدة تلومها على الهجوم بلغة تهديد.
بعد يومين من الضربة الإسرائيلية لدمشق، أعرب وزير الدفاع لويد أوستن عن إحباطه في مكالمة هاتفية مع وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بأنه لم يذكر خطط العملية، على الرغم من أنه زاره في البنتاغون قبل أسبوع، حسبما قال مسؤول أميركي.
خطط سرية
وتسرد الصحيفة رواية كاملة للأحداث، بدءاً بتكثيف “البنتاغون” جهوده لحماية اسرائيل، وتفعيله خططاً سرية للغاية لمساعدة إسرائيل في الأزمات.
وتوجهت حاملة الطائرات يو إس إس أيزنهاور، من البحر الأحمر قبالة سواحل اليمن، إلى موقع قريب من إسرائيل حتى تكون في وضع يمكن الطائرات على متنا من الانطلاق لاعتراض أي طائرات بدون طيار يطلقها الحوثيون المدعومون من إيران.
في غضون ذلك، أجرى كبار مساعدي بايدن اتصالات هاتفية، وناشدوا الحكومات الأخرى أن تطلب من إيران عدم الرد. وطلب مدير وكالة الاستخبارات المركزية وليام بيرنز من نظرائه في أجهزة المخابرات في أوروبا وعواصم الشرق الأوسط وتركيا حض إيران على وقف التصعيد.
وتضيف رواية “وول ستريت جورنال” أنه حتى عندما رصد الضباط الأميركيون إيران وهي تنقل الصواريخ من مخازنها وتضعها على منصات الإطلاق، لم يكن حجم خطة الهجوم الإيرانية واضحًا بعد للاستخبارات الأميركية. وتوقعت بعض التقارير الاستخباراتية أن تستهدف إيران فقط المنشآت الدبلوماسية الإسرائيلية أو مواقع أخرى خارج إسرائيل.
وبينما كان بايدن يستضيف رئيس الوزراء الياباني في البيت الأبيض في 10 أبريل(نيسان)، سحبه أوستن جانباً للحصول على تصريح لتغيير مسار المدمرة يو إس إس كارني، وهي مدمرة كانت تتجه شرقاً نحو مينائها الرئيسي في فلوريدا. وانضمت إلى المدمرة الأمريكية USS Arleigh Burke، وهي مدمرة أخرى، في شرق البحر الأبيض المتوسط، بالقرب من إسرائيل بما يكفي لتتبع وإسقاط الصواريخ القادمة بصواريخ اعتراضية من طراز SM-3 والتي لم يتم استخدامها مطلقًا لإسقاط صاروخ باليستي في القتال.
وسافر فريق من العسكريين الأميركيين سراً إلى تل أبيب للعمل في مركز عمليات الدفاع الصاروخي مع نظرائهم الإسرائيليين.
ومع توقع أن تستخدم إيران طائرات بدون طيار، وصلت قوة كبيرة من الطائرات المقاتلة من طراز F-15E إلى المنطقة للمساعدة في إسقاطها. كما شاركت في العملية طائرات أخرى من طراز F-16 متمركزة في المنطقة. وتم وضع خطط لطائرات أخرى للدفاع عن مجالهما الجوي.
وتقول الصحيفة الاميركية إنه مع مرور أيام دون رد إيراني، افترض مسؤولو الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية أن إيران كانت تخطط لهجوم مباشر على الأراضي الإسرائيلية وأنه سيكون هائلاً. وكان السؤال هو متى سيأتي الرد وما هي الأهداف.
ووصل قائد القيادة المركزية الأمريكية، الجنرال إريك كوريلا، إلى إسرائيل في 11 أبريل(نيسان)، لتسريع الخطط المقررة بالفعل لزيارة المنطقة بسبب الهجوم الإيراني الوشيك. أراد كوريلا البقاء في إسرائيل خلال الهجوم الإيراني، لكن أوستن أمره بالخروج، خوفًا من أن تبدو الولايات المتحدة متواطئة في أي رد إسرائيلي. وواصل كوريلا المشاركة في المداولات من الأردن.
وبوصول بايدن إلى ريهوبوث بيتش بولاية ديلاوير، في وقت مبكر من مساء يوم الجمعة 12 أبريل(نيسان) لقضاء عطلة نهاية الأسبوع، كانت خطة الهجوم الإيرانية قد أصبحت أكثر وضوحاً. ويقول الناطق باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي: “لقد حصلنا على معلومات استخباراتية أفضل وأكثر ثباتًا حول التوقيت المحدد”.
عاد بايدن فجأة إلى العاصمة ذلك المساء. وعندما بدأ الهجوم ليلة السبت، قام المسؤولون الأميركيون في غرفة العمليات والبنتاغون بتتبع الموجات الثلاث من الأسلحة التي غادرت المجال الجوي الإيراني، وعبرت العراق والأردن، متجهة نحو إسرائيل. وقال مسؤولون في الإدارة إنه حتى مع التحذير المسبق الذي تلقوه، فإن حجم القصف كان بمثابة صدمة.
وقال مسؤول كبير: “أعتقد أن هذا (الهجوم)كان في أعلى مستوى لما كنا نتوقعه”.
أكثر من 150 طائرة بدون طيار هجومية أطلقتها إيران أولاً – وهي واحدة من أكبر الأسراب المستخدمة في وقت واحد في القتال – ستستغرق من خمس إلى سبع ساعات للوصول إلى إسرائيل. ثم جاء أكثر من 30 صاروخ كروز للهجوم الأرضي، بزمن طيران يتراوح بين ساعتين إلى ثلاث ساعات. وكانت آخر الصواريخ الباليستية التي يمكن أن تصل إلى إسرائيل في غضون 12 دقيقة فقط.
وقد حدد الإيرانيون توقيت الإطلاق بحيث تصل الأسلحة في وقت واحد، في محاولة للتغلب على دفاعات إسرائيل. لقد تجنبوا الأهداف المدنية لصالح الأهداف العسكرية، مثل قاعدة نيفاتيم في صحراء النقب، حيث تتمركز مقاتلات إسرائيل المتقدمة من طراز إف-35.
نجحت مجموعة من الأنظمة الدفاعية التي قام كوريلا وآخرون على عجل في الأيام التي سبقت الهجوم، في صد أكبر هجوم شهدته إسرائيل منذ عقود. ولم يحاول أحد من قبل اعتراض هذا العدد الكبير من الصواريخ الباليستية دفعة واحدة. اعتقدت واشنطن أن قواتها والقوات الإسرائيلية قادرة على التعامل مع 50 صاروخًا باليستيًا، لكن أكثر من 100 منها كانت مغامرة مجهولة النتائج.
واعترض نظام أرو الإسرائيلي معظم الصواريخ الباليستية، في حين أسقطت المدمرتان الأميركيتان في شرق البحر الأبيض المتوسط عدة صواريخ أخرى. واعترضت بطارية أميركية مضادة للصواريخ من طراز باتريوت في أربيل بالعراق صواريخ أخرى.
وفي هذه الأثناء، أسقطت مجموعة من الطائرات الأميركية والبريطانية والفرنسية والإسرائيلية المسيرات الايرانية.
وبعد أن خرجت إسرائيل سالمة تقريبا، تحول البيت الأبيض من الدفاع عن حليفته إلى كبح جماحها. وأجرى بايدن ونتنياهو الساعة التاسعة ليل 13 نيسان بتوقيت واشنطن مكالمة طويلة.
في وقت مبكر من يوم 19 أبريل ، ردت إسرائيل باستهداف موقع عسكري واحد في محافظة أصفهان الإيرانية. وبينما كان الهجوم محدودا، فقد أظهر أن إسرائيل قادرة على التغلب على الدفاعات الجوية الإيرانية والضرب في عمق أراضي خصمها، وهو تحذير لا لبس فيه بعد هجوم طهران الفاشل على إسرائيل.
وخلافاً لضربة دمشق التي أشعلت الأزمة قبل 19 يوماً، أعطت إسرائيل هذه المرة للولايات المتحدة إشعاراً مسبقاً قبل دقائق قليلة من هجومها المحدود. وتجنب البيت الأبيض، على الأقل لبعض الوقت، الدخول في حرب أوسع نطاقا.
المصدر: النهار العربي