مع استمرار العدوان على غزة، أجرى سلاح الجو الإسرائيلي في مارس/آذار الماضي مناورة تدريبية بأجواء قبرص تحاكي هجوما جويا على إيران، كما وافقت تل أبيب على تدشين خط ملاحة بحري من ميناء لارنكا في قبرص إلى غزة لنقل المساعدات.
ويبدو أن اليونان وإسرائيل لا تزالان تحافظان على علاقتهما، التي لم تتأثر بما يحدث من مجازر في غزة، بخلاف ما حدث مع بولندا وإسبانيا اللتين تتحدثان عن قرب اعترافهما بدولة فلسطينية مستقلة.
وفي آسيا الوسطى، يكتفي النظام الأذربيجاني منذ بدء الحرب بالإدانة السطحية ليس إلا، كما يقول المُتخصص في السياسات الخارجية إلدار محمدوف، في حين أن النفط من أذربيجان لا يزال يتدفق إلى إسرائيل، وفي المقابل تتلقى باكو أسلحة متقدمة تُقدر قيمتها بمليارات الدولارات.
وهو ما يعيد للواجهة علاقة إسرائيل مع قبرص واليونان وأذربيجان التي تندرج ضمن عقيدة “المحيط الإسرائيلية” في نسختها الجديدة.
عقيدة المحيط القديمة
مع تأسيس دولة الاحتلال الإسرائيلي عام 1948، سيطرت عليها مخاوف تتعلق بغياب العُمق الإستراتيجي ومحدودية القوى البشرية، فرسم منظروها، وفي مقدمتهم بن غوريون، إستراتيجية تضمن تفوق إسرائيل على جيرانها عبر بناء قوة عسكرية متفوقة، بالاعتماد على دعم الدول الغربية الكبرى، وتتبنى سياسة خارجية تنظر إلى الدول العربية المجاورة مثل مصر وسوريا ولبنان والأردن والعراق كمصادر تهديد وجودي.
اعتبرت تل أبيب أن مواجهة التهديد، المتمثل في وجود جبهة عربية موحدة، يتطلب إقامة علاقات مع دول غير عربية في المحيط الإقليمي للتغلب على العزلة، واشتهر هذا النهج باسم “عقيدة المحيط”، وظل في طليعة الأجندة الدبلوماسية الإسرائيلية منذ خمسينيات إلى سبعينيات القرن العشرين.
كانت في مقدمة الدول المستهدفة بهذه العقيدة تركيا وإثيوبيا وإيران، فضلا عن بعض الأقليات الدينية والعرقية مثل الأكراد في شمال العراق، والمارونيين في لبنان. لكن نظرًا لأن هؤلاء الشركاء المفترضين سعوا للحفاظ على علاقات مستقرة مع الدول العربية، فإن بناء علاقات إسرائيل معهم اعتمد على الدبلوماسية السرية، وركّز على المجالين العسكري والاستخباراتي.
وبحسب الباحث جان سمعان في كتابه “عقيدة المحيط في السياسة الخارجية الإسرائيلية”، فإن باروخ أوزيل أول من صاغ عقيدة “المحيط” في كتابه “تحالف المحيط: سياسة مقترحة لإسرائيل” المنشور عام 1959، يشير فيه إلى أن تل أبيب قد وظفت سياسة الاحتواء الأميركية للاتحاد السوفيتي آنذاك في بناء علاقات سرية مع إثيوبيا وإيران وتركيا، بحجة مواجهة التمدد الشيوعي في الشرق الأوسط.
يرى أوزيل أنه بدون التعاون العسكري والاستخباراتي مع أنقرة وطهران وأديس أبابا، ستصبح إسرائيل معزولة أمام النفوذ المصري في حقبة القومية العربية التي تبناها الرئيس جمال عبد الناصر، والتي مثلت تهديدا لمصالح العواصم المذكورة.
ولذا قامت إسرائيل ببيع أسلحة متطورة للدول الثلاث، بل وساهمت في تدريب جيوشها وأجهزتها الأمنية، كما أتاحت لها قنوات تواصل مفتوحة مع واشنطن، وهو ما تناوله غابرييل شيفر وأورين باراك في كتابهما “شبكات الأمن الإسرائيلية”.
واعتمادا على وثائق للخارجية الإسرائيلية رُفعت عنها السرية، يكشف سمعان أن إسرائيل دعمت تركيا في أزمة قبرص مقابل دعم عبد الناصر للانفصاليين من القبارصة اليونانيين بالأسلحة، كما رأت أنقرة وتل أبيب في وحدة مصر وسوريا (1958-1961) تهديدا مشتركا لهما، حيث تواجد الجيش المصري المجهز والمدرب على يد السوفيات على حدودهما.
وواكب ذلك انقلاب عبد الكريم قاسم في العراق عام 1958، وهو ما زاد مخاوف دخول العراق ضمن النفوذ المصري السوفياتي.
وبحسب مايكل بيشكو، في دراسته التي نشرها بعنوان “إسرائيل وإثيوبيا: من علاقة خاصة إلى علاقة عملية”، فإن إسرائيل استغلت مخاوف إثيوبيا ذات الأغلبية المسيحية من جيرانها المسلمين، ومن قلقها من نفوذ عبد الناصر في الصومال وإريتريا وجيبوتي، واتخذت من أديس أبابا قاعدة للأعمال السرية الإسرائيلية في القارة الأفريقية، وبالأخص جمع المعلومات عن باب المندب وعن الأنشطة المصرية في القرن الأفريقي والبحر الأحمر.
ويؤكد ضابط الموساد السابق يوسي ألفر في كتابه “المحيط: بحث إسرائيل عن حلفاء في الشرق الأوسط” على أن الموساد نقل بانتظام إلى الإيرانيين تقارير استخباراتية عن أنشطة مصر في الدول العربية، والتطورات في العراق، وساهم مع طهران في دعم التمرد الكردي شمال العراق ضد بغداد.
كما تعاون الموساد والسافاك في الملف اليمني عبر دعم القوات الملكية بالذخيرة في مواجهة مصر الداعمة للجمهوريين، وفي المقابل حصلت تل أبيب على النفط من إيران عبر خط أنابيب إيلات-عسقلان، مما أتاح لها تجنب المرور عبر قناة السويس.
وبحسب كيرستن شولز في كتابه “دبلوماسية إسرائيل السرية في لبنان”، فقد عملت تل أبيب على بناء علاقات سرية مع حزب الكتائب الماروني في لبنان، عبر الزعم بوجود تهديد مشترك يتمثل في وجود أغلبية عربية سنية تهدد الهوية الذاتية لكل منهما.
وهو ما تزايد مع انتقال قيادة منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن إلى لبنان بعد أحداث أيلول الأسود عام 1970، والتخوف الماروني من تغيير البنية الديموغرافية للبنان، ووصلت العلاقة ذروتها إثر غزو لبنان عام 1982، وتتويج بشير الجميل رئيسا للبلاد.
لكن اغتيال الجميل وتورط الكتائب في مجازر صبرا وشاتيلا والانسحاب الإسرائيلي من بيروت جعل تل أبيب تراجع علاقتها بحزب الكتائب لتراه كـ”مليشيا تجر إسرائيل لحروب طائفية مضرة”.
تراجعت عقيدة المحيط الإسرائيلية إثر تطورات غير متوقعة، بدأت مع وفاة الإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي عام 1974، وتوجه خلَفه نحو موسكو، ثم الإطاحة بشاه إيران في ثورة شعبية ضخمة عام 1979.
ولحق ذلك تدهور العلاقات مع تركيا في عهد حزب العدالة والتنمية، وكذلك ساهم اتفاق السلام مع مصر عام 1979، ثم مع الأردن عام 1994، في إزالة الدول العربية المجاورة من خارطة التهديدات ذات الأولوية في المنظور الإسرائيلي.
النسخة الجديدة من عقيدة المحيط
تغيّرت البيئة الأمنية لإسرائيل في العقد الأول من القرن الـ20 إثر سقوط نظام صدام حسين مع غزو العراق عام 2003، ثم دخول سوريا في نفق اقتتال داخلي عقب اندلاع الثورة عام 2011، وبرزت تحديات أخرى من الحليفين السابقين إيران وتركيا.
وتحولت إيران إلى تهديد وجودي لإسرائيل على خلفية مشروعها النووي، بالإضافة لدعمها فصائل المقاومة الفلسطينية، وبالأخص حركة حماس بعد سيطرتها على قطاع غزة عام 2007، وأيضا علاقتها بحزب الله اللبناني.
كما انتكست العلاقات مع تركيا إثر حادث اقتحام السفينة مافي مرمرة، الذي أدى إلى مقتل 10 مواطنين أتراك على يد الجيش الإسرائيلي خلال محاولتهم فك الحصار بحرا عن غزة.
ولموازنة التهديدات المستجدة، بحسب سمعان، برزت عقيدة المحيط مجددا تبحث عن تحالفات جديدة، وهنا جاء دور أذربيجان لمواجهة التهديد الإيراني، واليونان وقبرص في مواجهة تحدي تركيا.
ففي حين كانت اليونان وقبرص صديقتين لمصر، كانت هناك الصداقة التركية الإسرائيلية، لكن دشنت أثينا علاقات دبلوماسية كاملة مع تل أبيب بحلول عام 1990، إثر توسع التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل، ووقعتا اتفاقية تعاون عسكري عام 2009.
ومع تدهور العلاقات التركية الإسرائيلية، توسعت العلاقات الإسرائيلية اليونانية، لتشمل التعاون الأمني والسياحة ومشاريع مشتركة لاستكشاف وتصدير الغاز الطبيعي.
وفي عام 2011، تأسس مجلس وزاري مشترك لتعزيز برامج التعاون المختلفة، ثم انضمت قبرص للجانبين لتأسيس آلية تعاون ثلاثي، وقد صرح وزير الطاقة الإسرائيلي عوزي لانداو عام 2012 قائلا “في الشرق الأوسط، الذي يتعرض حاليا لزلزال هائل يمتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج، فإن محور اليونان وقبرص وإسرائيل سيوفر مرساة بالغة الأهمية للاستقرار”.
ويشير سمعان إلى أن إسرائيل اعترفت بأذربيجان عام 1992 إثر استقلالها عن الاتحاد السوفياتي، وساعدتها في تطوير قواتها المسلحة، وقدمت لها طائرات بدون طيار وأنظمة صاروخية، وطورت طائراتها المقاتلة ودباباتها الموروثة منذ الحقبة السوفيتية، مما ساهم لاحقا في استعادتها إقليم قره باغ.
كما عملت إسرائيل عبر لجنة العمل السياسي الأميركي الإسرائيلي “أيباك” على التوسط بين باكو وواشنطن في مواجهة اللوبي الأرميني في الولايات المتحدة، وفي المقابل فازت تل أبيب بحليف مجاور للأراضي الإيرانية، وحصلت من باكو على 40% من استهلاك إسرائيل من النفط.
أوراق ضغط
وتسعى إسرائيل بعودتها إلى عقيدة المحيط مجددا إلى تبديد مخاوفها من العزلة، ورغبتها في امتلاك أوراق ضغط تجاه الدول التي ترى فيها تهديدا، ولكن النسخة الجديدة جاءت أضعف من النسخة القديمة، فاليونان تفتقد القوة العسكرية أو النفوذ السياسي الذي تمتلكه تركيا في الشرق الأوسط، كما تعاني أثينا من أزمات مالية متكررة.
أما أذربيجان فتتيح الوصول إلى جنوب القوقاز وحدود إيران، لكنها لا تقدم بديلا لحليف مثل إيران الشاه، فهي دولة صغيرة يصعب أن تحقق توازنا في مواجهة طهران.
لقد تحولت عقيدة المحيط من كونها تحالفا يهدف إلى موازنة تهديد القومية العربية في العهد الناصري، لتصبح بعد اتفاقية السلام مع مصر والأردن، وغرق العراق وسوريا في أزمات داخلية، بمثابة إستراتيجية تحوط تبحث عن حلفاء جدد دون التقيد بحدود جغرافية معينة، وتهدف للتغلب على شعور تل أبيب بالعزلة.
وهنا تبرز خطورة اتفاقيات أبراهام التي تعمل على دمج إسرائيل في محيطها العربي مع تجاهل تام للقضية الفلسطينية.
المصدر: الجزيرة + مواقع إلكترونية