المهدي المبروك
يبرّر كارل ماركس إغفاله القوة الاجتماعية للطلبة بأنهم لا يحتلّون موقعاً في قوة العمل، ويظلّون على هامش نمط الإنتاج. إنّهم يدرسون ولا علاقة لهم بأدوات إنتاج ولا برأسمال. هم، بهذا المعنى، طفيْليون لا يُنتجون، وهم، أيضاً، عالة على أسرهم والمجتمع، عادةً. ظلّ الرهان في التيارات الماركسية وأحزابها، السرّية أو العلنية، المنتشرة في مختلف الدول آنذاك، عقوداً عديدة، على الطبقة العمّالية، وأضافت إليها النسخة الماويّة (ماوتسي تونغ، 1976)، الفلاحين، في حين اجتهد المفكر الإيطالي البارز أنطونيو غرامشي (1937) في صياغة توليفة ضمّت العمال والمثقفين، في كتلة تاريخية ألقى عليها كلّ طموحاته حتّى أعياها، في بلد لم تكن له تشكيلاته طبقية واضحة، حتّى المفكرون الذين سبقوه، عوّل جلّهم على “النخبة”، فكاد المفهوم أن يكون ابتكاراً إيطالياً خالصاً.
غير أن الأمر سيتغير تدريجيّاً مع أحداث مايو (1968)، التي هزّت فرنسا، ثمّ انتشرت لتشمل مجتمعات غربية عديدة. كان حراكاً بارزاً، حتّى إنّ العلوم الاجتماعية، على غرار علم الاجتماع والعلوم السياسية، لم تتردّد في إعلان ميلاد ما ستُعدّ، لاحقاً، حركات اجتماعية جديدة (قطعت تماماً مع إرث الحركة العمالية (القديمة) التي كانت تتوهّم أنّها تحتكر وحدها تمثيل الاحتجاج الاجتماعي)، ستولّد الحركة النسوية وحركات الملوّنين والحركات البيئية، والحركات المناهضة للسلاح النووي … إلخ. غير أنّ علينا أن ننتبه إلى أنّ هذه السردية السائدة تغفل أحياناً الحركة الطلابية الأميركية التي ناهضت الحرب على فيتنام، وتحالفت مع طيفٍ واسع من التيارات الديمقراطية، وحركة الحقوق المدنية، التي أطلقها السود قبل ذلك بكثير. كان التمييز العنصري واغتيالات القادة، علاوة على اغتيال الرئيس جون كيندي (1963) إلخ، قد أنضجت مناخاً مواتياً للاحتجاج الطلابي المتحالف مع حركات احتجاجية أوسع، شملت الفئات المشار إليها. لا يمكن أن نقارن الحركتين اللتين اندلعتا في فضاءين جغرافيَّين سياسيَّين مختلفَين، ولكن تذهب دراساتٌ عديدة إلى اعتبار الحركة الشبابية الفرنسية والأوروبية عموماً “فانتازيا” شبابية، لها خلاف جيلي مع الشيوخ، والنزعات الأبوية في التربية والسياسية، في حين كانت تحرّكات الطلاب في أميركا مشدودةً إلى نزعة شاعرية سياسية إنسانية مناهضة للحرب والعنف الإمبريالي، عموماً. وبغضّ النظر عن دقّة هذا التوصيف، رجّت الحركة الضمير الأخلاقي والأدبي الإنساني، الأميركي تحديداً، فحُوكم عديدون من رموز هذه الانتفاضة على الحرب، ومن أشهرهم الملاكم محمد علي كلاي.
في العالم العربي، ظلّت كل تونس ومصر استثناءَين في إنتاج حركة طلابية كان لها دور كبير في إسناد حركة التحرّر الوطني، رغم أنّ السبعينيات ستكون ربيع هذه الحركات، في البلدين وفي بلدان أخرى، غير أنّ وقوع الانقلابات العسكرية، وصعود أنظمة تسلّطية في بلدان عربية أخرى (سورية، والعراق، والمغرب، وليبيا) سيسحقان كلّ محاولات التمرّد الشبابي والطلابي عموماً. ففي ليبيا أُعدم مئات الطلاب شنقاً في الحرم الجامعي تحت هتافات أنصار العقيد معمر القذّافي (1977). لأسباب عديدة ضعفت كلّ الحركات الطلابية في العالم بأسره، لعلّ أكثرها أهمّية بروز نزعات فردانية في أوساط الشباب. “البرجزة” التي لحقت بفئات الطلاب في بلدان غربية عديدة ناجمة عن ارتقاء الأوساط الاجتماعية المُفْقَرَة التي تحدّر منها الطلاب، ولاحقاً، سينتمي الطلبة إلى فئاتٍ هي أقرب إلى البرجوازية الصغيرة، والرفاه الاجتماعي، الذي سيشمل الطلاب لاتساع مظلّة التغطية الاجتماعية وأشكال الرعاية الموجّهة إليهم، فضلاً عن تراجع حركات التحرّر الوطنية، وذيوع الإسلاموفوبيا، وكل أشكال مناهضة العرب وبلدان الجنوب إلخ، كلّها عوامل ستضعف التحركات الطلابية.
غير أنّ الأمر لا يمكن أن يجري في خطٍّ لا ينقطع، ودليل ذلك أنّ الطلاب الأميركيين يقدّمون مثالاً مخالفاً كلّ التوقعات التي تقول بـ”نهاية الاحتجاج الطلابي”. ينخرط الطلاب الأميركيون حالياً في سياق محلّي خالص، بعد انتفاضات عدّة، لعلّ أكثرها أهمية “احتلوا وول ستريت” و”لا أستطيع التنفّس” (إثر مقتل جورج فلويد ماي على يد قوات الشرطة الأميركية في مايو/ أيار 2020). ستكون هذه الذاكرة ذخيرة مهمّة للاحتجاج الجاري حالياً، خصوصاً إذا أخذنا بالاعتبار هذا الانفتاح الطلابي على قضايا إنسانية خارج فضائهم المحلّي الخالص، على اتساعه. فإذا كان الطلاب في أوروبا قد انطووا على ذواتهم وانكمش فيهم الكوني، فإنّ الطلاب الأميركيين يثبتون، مرّة أخرى، بعد رفضهم الحرب على فيتنام، أنّهم يستأنفون بهذه القضية النبيلة، غزّة، إنسانيتهم الواسعة، فهي قضية جديرة بكلّ هذا الاحتجاج، حتّى ولو كلّفهم ذلك كثيراً من العنف البوليسي، والطرد، ومختلف أشكال التحرش الأدبي الأخرى، التي يمارسها الإعلام الموالي لـ”اللوبيات” الصهيونية.
المصدر: العربي الجديد