ماهر مسعود
يتلخّص الدرس الذي تعلّمته ألمانيا من تاريخها النازي – التاريخ الذي انتهى بالهزيمة والهولوكوست معاً في نهاية الحرب العالمية الثانية – من خلال الشعار الشهير والاعتذاري “Never Again” أو “لن تتكرر مرة أخرى”. فقد انغرست ذاكرة الهولوكوست في الضمير الجمعي الألماني مثل ذكرى مؤلمة تحتل صاحبها وتوجّه حاضره، وبقيت مثل شُطب في وجه الزمن وجرح لا يندمل، علامة لا تنمحي أو ندبة “Scar” لا يشير حاضرها إلا لماضيها الرهيب. ولذلك كلّه تحوّل الشعار إلى إشارة لخطيئة ألمانية لا يوازيها إلا الخطيئة الأصلية، بل إنها واقعياً وفعلياً ليست إلا نسخة علمانية عن الخطيئة الأصلية ذاتها.
تكمن عظمة الخطيئة الأصلية في المعنى المزدوج الذي تحمله، فهي أصلية تدل على الأصل والبداية التي لا سابق لها من جهة، لكنها أصلية أيضاً بمعنى أنها لا تتوقف عن إنتاج ذاتها على نحو جديد Original من جهة أخرى، أي تبقى متجددة دائماً ولا ينتهي مفعولها على الإطلاق ولا يتأثر بمرور الزمن. هذا بالضبط حال الخطيئة الأصلية الألمانية، حيث تبدو الجريمة النازية أصليّة بالمعنيين المذكورين أعلاه، لا قبل لها ولا نهاية لعقابها، متجددة دائماً وأبداً عبر الأجيال، وتبقى حيّة في الحاضر بقوّة “طقوس التربية والتعليم” التي حلّت محل “طقوس العبادة” الدينية القديمة، كما تبقى حيّة عبر سياسة الاستذكار و”دفع الديّة” أو الدَين الأخلاقي اللانهائي الحاكم للسياسة الألمانية. تلك الخطيئة هي فعلياً الماضي الذي لا يمضي في هذي البلاد الباردة.
يمكن صياغة الأمر على النحو التالي: إذا كان التاريخ البشري في السردية الدينية قد بدأ بخطيئة آدم وحواء، والتاريخ المسيحي بميلاد المسيح، فإن التاريخ الألماني بدأ بالهولوكوست. عقاب الإنسان في الخطيئة الأصلية التوراتية كان معرفة الألم والموت وخسارة العيش الأبدي في الجنة (حيث لا يوجد في الجنة موت ولا ألم)، والطريق الوحيد للتكفير عن تلك الخطيئة هو العبادة المطلقة لله الذي خانه أفضل ملائكته. أما التاريخ المسيحي (وهو التاريخ المُعتمد في الكوكب كله اليوم) فقد رسمه فعلياً صلب المسيح لا ميلاده، وكانت الخطيئة المسيحية هي ترك المسيح يُصلَب، لا مجرد عصيان الأمر الإلهي، ثم كان على أتباع المسيح أن يعيشوا تحت ثقل تلك الخطيئة ويمضون أزمانهم في سداد الدين اللانهائي للمسيح الذي افتداهم بموته مصلوباً. أما بالنسبة لتاريخ ألمانيا المعاصر فقد بدأ فعلياً مع خطيئة الهولوكوست، إنها اللحظة صفر في تاريخهم، أو هي ما يصفّر تاريخهم.
“يولد الألمان نصف نازيين” تقول لي صديقة ألمانية في نقاش حول الموقف الألماني وما يحصل في غزّة، ثم تتابع: “يتمّ التعامل معنا ضمنياً، بل ونُعامل أنفسنا من الداخل، كمتهمين دائمين بالنازية، وعلينا أن نمضي أعمارنا في تبرير تلك التهمة، علينا أن نثبت على نحو دائم أننا لسنا كذلك”، ثم أضافت: “أخبرني رجل إسرائيلي كان يتودد لي ذات مرة أنه لا شيء سيغير من حقيقة أنكم أبناء المضطِهدين وأننا أبناء الضحايا، أو كما قالت مرددة كلامه حرفياً: (you are the children of the oppressors and we are the children of the victims)”. وعندما تطرقنا للحديث عن تاريخ المنطقة العربية قبل وجود إسرائيل قالت: “لا أعرف شيئاً عن التاريخ الذي تتكلم عنه، فالتاريخ الذي نتعلمه في المدارس منذ الصفوف الأولى لا يركز إلا على الهولوكوست وعلى ما فعلته النازية باليهود، وعلى الحق التاريخي الذي يعود لآلاف السنين لليهود في فلسطين. كُنت في العاشرة على ما أذكر عندما بقينا في الصف الدراسي لمدة أربع ساعات نشاهد فيديوهات وأفلام وثائقية مرعبة عن الفظاعات ومعسكرات الاعتقال النازية، وأظن أنه ربما كان من الضروري والمفيد أن نعلم حول ذلك التاريخ، لكن في الحقيقة كان ذلك مرعباً بالنسبة لي كطفلة في العاشرة، وبالإضافة إلى ذلك، أظن أن أكثر ما نركز عليه في تاريخ الشرق الأوسط هو أن إسرائيل المعاصرة نشأت بعد الحرب العالمية الثانية مثلها مثل باقي دول المنطقة التي كانت تابعة للإمبراطورية العثمانية، فقبل ذلك لم يكن هناك دولاً مستقلة فعلياً، جميع الدول هناك حديثة ومن بينها إسرائيل، ولذلك فإسرائيل ليست محتلة لأرض أحد بل نشأت على أرضها التاريخية مثل الدول المحيطة بها”.
وفي سياق آخر قالت: “أتذكّر شخصياً أنه عندما فازت ألمانيا بكأس العالم بعد الألفية الثانية كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها شباناً يجتمعون في الساحات رافعين علم ألمانيا، وكان ذلك غريباً جداً حيث لا نحتفل عادة بالعلم الوطني كونه دلالة على الذاكرة القومية التي نريد الهرب منها جميعاً. وأذكر عندما حضرت مرة إحدى الحفلات بعد فوز فريقنا وكنت أرتدي سواراً في يدي عليه العلم الألماني، تلقيت عتباً أقرب إلى التوبيخ من معظم الأصدقاء، ثم قمت بخلعه مباشرة وأنا أقول لهم بخجل وشعور بالعار وأموء كقطّة (ولكننا فزنا). كان علينا الاحتفال دون أي صخب ودون أي تعبير قومي (Nationalistic) مثلما يفعل الإيطاليون أو الفرنسيون الذين يملئون الشوارع والبيوت والساحات بالأعلام والأغاني الوطنية والاحتفالات التي تأخذ طابعاً (قومياً)”.
إن الثقل الاجتماعي والسياسي للخطيئة يُظهِر بالفعل مدى الإصرار الألماني على عدم تكرار الجريمة، لكن الإصرار القهري على جلد الذات وعقابها لا يمنع فعلياً تكرار الماضي بقدر ما يُفعِّل ويُحفّز “مكر التاريخ” بالمعنى الهيغلي، حيث يأخذ التاريخ ممرات سرية عندما يكرر نفسه، فكلما زادت قوة المنع والكبح كلما زادت مسارب الانفلات وقنواته السرية الطامحة للظهور. وما ينطبق على التاريخ الجمعي ينطبق أيضاً على التاريخ الفردي، حيث يعرف كل دارس متعمق لعلوم النفس أن العار الذي تمنع ظهوره في الوعي، يسلك مسارب لاواعية ليظهر في السلوك بأقنعة مختلفة.
وعندما ننظر إلى التاريخ الفعلي للبشر بالمعنى الفلسفي، فلا شيء سيبدو أكثر سذاجة من تلك الـ Never Again الألمانية، حيث لا نحتاج إلإ لقليل من المنطق فقط لكي نرى مباشرة عدد الطرق التي تُبدي تهافت تلك العبارة. لننظر مثلاً إلى مقولة ماركس الشهيرة “التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة ومرة على شكل مهزلة”، (وهل يمكن النظر إلى التعامل الألماني الرسمي مع الإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل في غزّة إلا بوصفه مهزلة؟). أليس التاريخ المأساوي للهولوكوست هو ذاته التاريخ الذي يتكرر على شكل مهزلة بالنسبة للألمان ذاتهم. الألمان الذي قاموا هم ذاتهم بالمجزرة في المرة الأولى، وباتوا يهزأون بها؛ بل يهللون لها على المستوى السياسي، هذه المرة!
وعندما نضع الـ Never Again تحت عدسة فلسفية نيتشوية أكثر عمقاً من العين الماركسية، ستبدو كمقولة مضادة للعود الأبدي عند نيتشه، لكن عندما نفهم العود الأبدي على أنه عود أبدي للاختلاف لا للمطابق والمشابه، سنرى كيف تتكرر الإبادة الجماعية واقعياً، لا رمزياً، في التاريخ، كل مرة في مكان، وبحق شعب مختلف. فالإبادة لم تتوقف عن التكرار في التاريخ، من أمريكا إلى أفريقيا إلى آسيا، كررها الألمان أنفسهم في ناميبيا وفي ألمانيا ذاتها ضد اليهود، وتُعاد الآن في فلسطين بدعم ألماني مباشر وغير مباشر. الإبادة الجماعية تكررت بأسماء متعددة وأصابت جماعات مختلفة، لكنها حدثت دائماً بشكل ممنهج، ودائماً بنزع الإنسانية المطلق عمّن تتمّ إبادتهم. وهذا يكون معناه الفلسفي هو أن فرادة الهولوكوست هي مجرّد فرادة مشابهة لكل الفرادات الأخرى، فلكل إبادة أدواتها ووسائلها المختلفة عن الأخرى، لكنها جميعاً إبادات، وجميعها فريدة. وهذا بالمحصلة يحيلنا إلى انحدار وسقوط أخلاقي هائل لأصحاب الـ Never Again (على العكس تماماً من الترفّع الأخلاقي الذي يدّعونه لأنفسهم) وذلك بالضبط لأنهم يرون تكرار ما فعلوه هم أنفسهم Again لكنهم لا يفعلون شيئاً لوقفه، بل على العكس، يشجعونه ويبررونه ويوقعون شيك أبيض على دعمه. بل الأسوأ أنهم يجعلون أي تعاطف مع من تتم إبادتهم هو جريمة كراهية ضد المعتدين ومعاداة للسامية! في الواقع، ليس هناك عماء أخلاقي أكثر قوة من عماء الذين لا يشكّون بصوابية أخلاقهم.
انبنت معاداة السامية في ألمانيا؛ بل في أوروبا كلها، على أصول دينية، بالتأكيد، لكن تطبيقها الواقعي قام دائماً على الوضع الأقلّوي لليهود في أوربا، والوضع الأقلوي لا يأخذ فقط معنىً دينياً، بل اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً بالدرجة الأولى. والذي دفع ألمانيا النازية إلى الجريمة التي انتهت بالهولوكوست، كان هو تحميل الأقليات الأضعف في المجتمع وزر جميع المصائب والشرور التي عاناها بعد الحرب العالمية الأولى، ولذلك اتجهت الجرائم النازية نحو كل الأقليات، الرومان والغجر والشيوعيين والاشتراكيين وأصحاب الإعاقة، بالإضافة إلى اليهود، لكن لم يمتلك أحد سردية تاريخية يسهل التلاعب بها والتحريض ضدها والصعود على أكتافها مثل الأقليّة اليهودية، ولذلك كان اليهود الضحية الأسهل، والأكثر استثماراً في الدعاية النازية لدفع المجتمع نحو التجانس الأكثري تحت حكم هتلر.
إذا دققنا جيداً، سنجد أن كل الأنظمة الديكتاتورية وحركات اليمين العنصري في العالم تريد “المجتمع المتجانس” وتنبني على طرد الأقليات المتنوعة والمختلفة خارج الوطنية، وتبني سياساتها على العداء لتلك الأقليات، توحيد المجتمع و”الأمة” ضد الخطر الذي يتهددها من الخارج الذي يصبح داخلاً. البريكسيت في بريطانيا جاء على هذا الأساس، وصعود ترامب في أمريكا جاء بالضبط تحت شعار التوحيد لجعل أمريكا “great again”، مودي في الهند، نتنياهو في إسرائيل، بشار الأسد في سوريا (ولا قيمة للاعتراض بأن الأسد ذاته أقلية، فالأكثرية دائماً في أي مجتمع هي أكثرية سلطة، سواء كانت دينية أم غير دينية، والسلطة هي من يضع المعيار العام “الأكثري” في المجتمع، ولذلك الأسدية أكثرية في سوريا حتى لو كانت أقلية عددياً)، أما حزب البديل اليميني في ألمانيا، فينتصب كأكبر شاهد في التاريخ على مدى سهولة تغيير الإسم والشكل والهدف ونوع الأقلية، مع بقاء المضمون واحد. فقد حوّل هذا الحزب النازي ببساطة عداءه التاريخي لليهود بوصفهم أقلية من خارج المجتمع والعرق الآري الألماني، نحو عداءه للأقلية المهاجرة، المسلمة تحديداً. وببساطة أكثر سينيكية وانحطاطاً، حوّل عدوه الأصلي إلى حبيبه الأقرب، وبات حزب البديل هو حامل شعلة حب اليهود وطرد معادين السامية خارج ألمانيا. لكن الأدهى من ذلك هو أن خطاب الحزب اليميني المتطرف بات بمعنى ما مضمراً في مجمل الخطاب الرسمي الألماني في دفاعه عن إسرائيل. هل هناك سخرية سوداء، بل مهزلة تاريخية، أشد انحطاطاً من تلك المهزلة؟
ليس هناك ما هو أسوأ من الدرس الألماني إلا الفعل السياسي الخاطئ الذي أنتجه تعلّم ذلك الدرس، وليس العماء الأخلاقي والسياسي الألماني عن المأساة الحاصلة في غزة، إلا تكراراً ومساهمة ألمانية فيما وعدوا أنفسهم بألا يكرروه مرة أخرى تحت شعار الـNever Again.
المصدر: رابطة الكتاب السوريين