د-عبدالله تركماني
لقد كانت الثقافة كلمة مرادفة، في نظر بعض الاختصاصيين، لمجموع القيم والعادات والتقاليد والآداب والفنون والأساطير والدين، وجميع النظم التي تحدد سلوك الأفراد والجماعات وتوجهها، فتصبح هي نفسها – أي الثقافة – الطريقة التي يعبر بها مجتمع أو مجموع من المجتمعات عن نفسه مادياً ومعنوياً، وفي إنتاج وعيه الذاتي، الجمعي والفردي، لتشمل جميع الصيغ والتوجهات والتصورات والمنظورات والمبادئ الكبرى والحلول المحتملة، التي تترسخ لدى شعب أو جماعة من الجماعات، انطلاقاً من تفاعل هذه الجماعة الطويل مع البيئة المادية والطبيعية.. الخ
وبحسب الدكتور برهان غليون فإنّ هذه الطريقة هي التي تصوغ من خلالها الجماعة صورة وجودها، وشخصيتها والمعاني العميقة والمثل، التي تقود سلوكها وتوجهها، بوصفها معطى تاريخياً، الذي هو رأسمال حي، ترثه الجماعات جيلاً بعد جيل، وتعيد استثماره وتوظيفه لتبلور المواقف المطلوبة في مواجهة الظروف الجديدة التي تعترضها، وفهمها، وفي التعاطي معها أيضاً.
ومن كل هذا، فلنفهم الثقافة على أنها مجموعة القيم التي توجه الإنسان وتقدم له المعايير التي يوازن بها بين الأشياء والمواقف ليختار، أية هي طريقة حياة كريمة ومجدية.
وهكذا، توجد طريقتان لطرح علاقة الإنسان بالثقافة: أولاهما، أن نرسم خريطة العالم بوضع حدود ثقافية تلتقي جزئياً مع الحدود السياسية، فنعتبر الكون مجموعة من الحضارات المتواصلة منذ أمد بعيد، قائمة على جواهر ثابتة قد تشهد أنماطاً من الحراك والإصلاح، لكنها لا يمكن أن تتغيّر بغاية التجاوز والتطور، بل الإصلاح لا يعدو أن يكون عودة إلى نقاء الجوهر. ويصعب، في حال تبنّي هذه الرؤية، أن نتفادى النتيجة المتضمنة، وهي أنّ العلاقة بين المجموعات الحضارية علاقة صراع أساساً.
وثانيتهما، أن ننظر إلى الإنسان على أنه كائن واحد تعددت مميزاته الثقافية وانتماءاته القومية بسبب اختلاف بيئته وتجاربه وخبراته المتوارثة. فالإنسان عاجز عن أن يعيش منفرداً وأكثر عجزاً على أن يعيش مع البشرية جمعاء يفقه كل لغاتها ويتبادل التجارب مع كل أفرادها، لكنه إنما يوسّع مداركه شيئاً فشيئاً بأن ينتقل من الوعي بشخصه إلى الوعي بحلقات اجتماعية متدرجة في الانفتاح، من الأسرة إلى البيئة الأولى إلى المجموعة اللغوية، إلى حلقات أكثر تجريداً مثل الطائفة والأمة والوطن والإنسانية، يصنعها وتصنعه في آن واحد.
وعليه، فإنّ البشر لا يتصارعون على الماضي، بل على الحاضر والمستقبل، ولا يتنافسون على الجنة أو على مكارم الأخلاق، بل على الثروة والسلطة والقوة. ولكنهم، من خلال الحوار والتواصل فيما بينهم، يمكن أن يعيشوا فوق سفينة الأرض بتحابب واحترام متبادلين قائمين على مجموعة قواعد، من أهمها: احترام حقوق الآخرين وحرياتهم، والاعتراف والقبول بالاختلافات الفردية، وتعلّم كيفية الإصغاء للآخرين والاتصال بهم وفهمهم، وتقدير التنوّع والاختلاف الثقافي، والانفتاح على أفكار الآخرين وفلسفاتهم، والاعتراف بأنّ ليس هناك فرد أو ثقافة أو وطن أو ديانة تحتكر المعرفة والحقيقة.
في حين أنّ الانغلاق على الذات، الذي يشكل أحد أهم مصادر العنف تجاه الآخر، يستلهم مقولاته الأساسية استناداً إلى نظرية ” الاصطفاء ” التي تجعل شعباً دون سواه مختاراً ومفضّلاً، ومن الطبيعي أن تشكل هذه النظرية مصدراً مهما لاشتقاقات لاحقة – دينية أو عرقية – كالاستعلاء والتميّز والعنصرية، وغيرها من المقولات المضادة للتسامح، والتي ولدت من رحمها حركات العنف المؤدلج والمؤطر والمسيس، باعتباره الركن الأصلب من أحادية عقائدية مطلقة الصواب.
ولم تترك هيئة الأمم المتحدة الأمر معلقاً بدون تحديد، فأعلنت سنة 1995 سنة عالمية للتسامح، وأصدرت في 16 نوفمبر/تشرين الثاني في ختام المؤتمر الدولي للتسامح إعلان مبادئ كونياً، أكد على الالتزام بمواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمعاهدات والاتفاقيات المتصلة به. ودعا الدول إلى ” تأصيل سياسة التسامح في قوانين وثقافة المجتمع لمكافحة مظاهر التعصب الديني والقومي والعرقي وكراهية الأجانب، والإقصاء والإبعاد والتهميش والتمييز ضد الأقليات الوطنية والدينية والعمال الأجانب والمهاجرين واللاجئين، وأفعال العنف ضد حرية الأفراد في إبداء الرأي والتعبير الحر وكل ما يهدد الديموقراطية والسلام “.
وهكذا، فإنّ التسامح يتطلب دوماً انفتاحاً فكرياً على الآخر، هدفه الحقيقة كفضيلة أخلاقية ينبغي زرعها وإحاطتها بالرعاية والعناية حتى تنمو وتزدهر. وهناك نقطتان رئيسيتان تشيران إلى معنى التسامح بصورة عامة: أنه يقوم على تفهم وإدراك موجه من الضمير لاحترام الرأي الآخر وفهمه، وأنه يقوم على مبادئ وقوانين المجتمع المدني التي تضمن حقوق الانسان.
إنّ حوار الثقافات ليس ممكناً فحسب بل هو ضروري داخل كل ثقافة على حدة وبين كل الثقافات، لإرساء قواعد جديدة لمعالجة النزاعات والاختلافات عوض الأساليب القديمة المتمثلة في الحرب والتعصب والإرهاب. كما أنّ هذا الحوار فضلاً عن كونه ممارسة يختص بها الإنسان فإنه السبيل الوحيد لضمان التعايش والتعدد، وهو ما يقتضي الاحترام الكامل لتنوع الثقافات وخصوصياتها المختلفة ورفض كل شكل من أشكال الهيمنة والعنف والأحادية.
ثمة حاجة حقيقية وماسة للالتقاء في منتصف الطريق، وذلك لن يكون ممكناً دون الوعي بأنّ تفكيرنا النمطي الذي نشأ ضمن قوالب جاهزة يحتاج إلى إعادة بناء مختلفة تمكّننا من أن نضع أنفسنا وغيرنا أمام المسائلة النقدية الدائمة التي تحول دون الانفجرات الطارئة والمدمرة التي تلوح في أفق عالمنا، فلا نرى اليوم سواها.
وعليه يجب أن يكون العامل الثقافي، من خلال التبادل الذي يتيحه، في أساس الشأن السياسي. إنّ الديموقراطية لا ترتكز فقط على قانون العدد، بل على الثقافة أيضاً، وحماية الأقلية من طغيان الأكثرية، بقبول الاختلاف، في حين تقوم الديكتاتورية على الطبيعة التوتاليتارية ورفض المختلف. إنّ الانتقال من الديكتاتورية إلى الديموقراطية هو الانتقال من البدائية إلى الثقافة.
إنّ الحوار الثقافي بين الدول والشعوب هو حتماً بديل عن وسائل العنف والقوة، فليس هناك من وجه مقارنة أو مقاربة بين حوار السلاح وحوار العقول. هو مشروع طويل الأمد، مشروع حضاري، فالحوار بحد ذاته حضارة ورقي لا يحسنه إلا أهله ممن يتمتعون برحابة الصدر وسعة الأفق والحلم والحكمة ورجاحة العقل. هي مسؤولية إذن وليست سفسطة مثقفين أو مجرد ثرثرة أو متعة مجادل. نتحاور لنتعارف ونتفاهم، هذا هو المشروع البديل عن العنف، والشطط في استخدام القوة، والقهر، والظلم.
وفي هذا السياق بات مطلوباً تبلور حركة إنسانية تعمل على مواجهة ظاهرة انتشار التعصب والتطرف، حركة تشمل عناصر تعلّي الإنساني على الفئوي والطائفي، عناصر تتسم بالشجاعة والقدرة على النقد البنّاء والفعل الإيجابي لمصلحة البشرية جمعاء. إننا بحاجة إلى من تتوافر لديه المشاعر الإنسانية الراقية التي تتعامل مع البشر جميعاً بصرف النظر عن لونهم وعرقهم ودينهم وطائفتهم.
هنا تبرز أهمية إعادة الاعتبار لصوت الإسلام السياسي المعتدل الذي يؤمن بمعايير الدولة الحديثة، الذي هو في الوقت نفسه صوت ملايين المسلمين الذين لم تتح لهم خلال العقود الماضية فرصة التعبير الكافي عن آرائهم وتطلعاتهم.
ومما لا شكَّ فيه أنّ حوار الثقافات، على الرغم من ضرورته ومن أهميته، لا يكفي إذا بقيت الدول الكبرى تمارس سياسات استعمارية توسعية على حساب شعوب عالم الجنوب، وتستمر في محاولاتها تجاهل الشرعية الدولية وأيضاً تطبيق سياسات الكيل بمعيارين، كما هو الحال حالياً بالنسبة لسياسات الغرب تجاه العديد من القضايا وفي مقدمتها المظلمة الفلسطينية والسورية.
إنّ ما يهمنا، في هذه المقدمات، هو إعادة طرح السؤال بشكل جديد: ما هي المسارات الممكنة لترويض الغرائز الجماعية كي تشيّد الحضارة الإنسانية خارج الاستعمال الهمجي للعنف؟