عبد الوهاب بدرخان
عندما كرّر الأمين العام لـ”حزب إيران/ حزب الله”، للمرة الثانية خلال شهور، أن حزبه “سيقاتل بلا ضوابط وقواعد وأسقف” (إذا هاجم العدو الإسرائيلي لبنان)، فإن المؤكّد أن لبنان واللبنانيين لم يكونوا في ذهنه في تلك اللحظة. ولم يكونوا كذلك في أذهان إسرائيليين عديدين، حكوميين وعسكريين، واظبوا على المطالبة بعملية عسكرية ضد “الحزب” وبـ”استنساخ غزّة في بيروت”. وعندما قال زعيم “الحزب” حسن نصرالله أخيراً إنه “لن يكون مكان في الكيان بمنأى عن صواريخنا ومسيّراتنا” قابله جمهوره بالهتاف والتهليل، فهل خطر في بال أي منهم أن أي مكان في لبنان لن يكون أيضاً بمنأى عن صواريخ العدو، بل هل تذكّروا وسط الهتافات تلك البلدات والقرى الجنوبية التي دُمّرت وغَدت الآن أشبه بغزّة التي يخوض “الحزب” حرباً “لمساندتها”، أم أن إطلاق مثل هذه التساؤلات بات يُعتبر “انهزامياً”؟
منذ الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 لم يمضِ يوم من دون أن يَعِد قادة إسرائيل سكان الشمال بإعادتهم الى بيوتهم وأعمالهم، ولم يتوقف السكان عن الاحتجاج على تلكّؤ الحكومة في القيام بواجبها وذهبوا الى حدّ التلويح بـ”الانفصال” ما لم يكن هناك تحرّك لإنهاء نزوحهم. تحت هذا الضغط، ووسط استطلاعات رأي مؤيدة بل محرّضة، أعلن الجيش أنه وضع الخطط لعملية عسكرية تتضمّن دخولاً برّياً الى الأراضي اللبنانية. في المقابل، وعلى رغم أن لبنان لا يزال غارقاً في أزمته الاقتصادية الخانقة، فإن “حزب إيران” تجاهل الإجماع أو حتى التأييد الوطني واتخذ قراراً بـ”مشاغلة العدو” دعماً لغزّة باسم “وحدة ساحات المقاومة”، أي باسم إيران ومن أجل مصالحها الاستراتيجية. ومع تدحرج “المشاغلة” الى تصعيد، واقتراب التصعيد من حافة الحرب، صار النازحون الجنوبيون، واللبنانيون جميعاً، مطالبين بالصمت، لئلا يُخوّنوا ويُشهَّر بهم.
طوال الشهور الثمانية الماضية تمكّنت الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران من إبقاء المواجهة في جنوب لبنان ضمن ما سمّيت “قواعد اشتباك”، لكنها خُرقت مراراً، اسرائيلياً أولاً ثم من جانب “الحزب”، وعلى جانبي الحدود أصبحت هناك مساحات واسعة من الأرض المحروقة ومئات الأبنية المدمّرة.
مع بداية الحرب على غزّة طلبت واشنطن من إسرائيل التركيز على مقاتلة “حماس” في القطاع وحظّرت عليها القيام بعملية عسكرية ضد لبنان، وما لبثت أن توصّلت الى تفاهم غير معلن مع إيران على عدم توسيع نطاق الحرب. لكن طهران التي حذّرت من توجيه ضربة كبيرة الى “حزبها” اللبناني لم تكن لتوافق على هدف “القضاء على حماس” كما حددته إسرائيل وأيدته واشنطن، لذلك ضاعف “الحزب” هجماته بالصواريخ والمسيّرات بعدما باشر الإسرائيليون حصار رفح لاقتحامها وللضغط على “حماس” كي توافق على هدنة موقّتة لتبادل الأسرى، إذ إن طهران طالبت على الدوام بوقف الحرب على غزّة ومن المؤكّد أنها تدعم “حماس” في إصرارها على أن تتضمن أي صفقة تبادل وقفاً “نهائياً” لإطلاق النار.
بين 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023 و18 حزيران (يونيو) 2024 خاض المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين وساطة لتهدئة جبهة جنوب لبنان، طارحاً أفكاراً لحلّ إشكالات حدودية لقاء وقف إطلاق النار. لكن “حزب إيران” أصرّ على أن المواجهة في الجنوب مرتبطة باستمرار الحرب على غزّة، ولم تنجح الزيارات الأربع لهوكشتاين في تعديل هذا الموقف. أما إسرائيل فاعتمدت الفصل بين الجبهتين ضمن معادلة “إما الحلّ الدبلوماسي (مع لبنان) أو الحلّ العسكري”. ومن الواضح الآن أن الحل الدبلوماسي لم/ ولن يشقّ طريقه، إذ يتضمن تفاصيل لم يعد “الحزب” مستعداً لقبولها (مثل إبعاد مقاتليه عن الحدود)، خصوصاً أنه يشعر بأنه في موقع قوّة وأنه حقّق ميزة “ردعية” وجعل من ترسانته الصاروخية لغزاً مقلقاً لا يمكن لإسرائيل وحلفائها أن يتجاهلوه. وحين عرض أخيراً فيديو “بنك الأهداف” وصولاً الى حيفا، وبعدما حذّر نصرالله قبرص من تقديم تسهيلات لإسرائيل خلال الحرب، بدا “الحزب” حريصاً على طرح معادلة “الدمار مقابل الدمار” التي تبقى كارثية بالنسبة الى لبنان تحديداً.
إذن، تحوّلت الحرب من احتمالٍ كامن الى خطر وشيك، وتداخلت فيها تعقيدات الخلاف بين حكومة إسرائيل والإدارة الأميركية، وقد حذّرت الأخيرة من تدخّل إيراني مباشر في الحرب، إذا وقعت، ما سيضطرّ الولايات المتحدة بدورها “للعودة الى عمق الصراع” وهي في خضم موسم الانتخابات الرئاسية. هذا لم يمنع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو من دفع الابتزاز الى أقصاه، إذ افتعل أخيراً أزمة مع واشنطن وحذّر من أن “تأخير شحنات الأسلحة يقرّب حرباً شاملة مع حزب الله في لبنان”. ومع أن واشنطن نفت الادعاءات بتأخير الإمدادات العسكرية، وهو ما يعرفه نتنياهو جيداً، إلا أنه واصل حملته – الموجّهة أصلاً ضد جو بايدن شخصياً – ملوّحاً بإشعال الصراع مع إيران (وهذا هدف دائم له) وبتجاوز الحظر الأميركي على مهاجمة لبنان. وإذا نفّذ ابتزازه فإنه سيضمن صراعاً طويلاً لا يمكن الولايات المتحدة أن تبقى بمنأى عنه، كما يضمن أيضاً مكوثاً أطول في الحكم مع زمرة المتطرّفين الذين ينفّذون أجندة الاستيطان والمستوطنين في الضفة الغربية ويدفعون بنتنياهو الى الخيارات القصوى بالنسبة الى غزّة ولبنان.
أكد نصرالله في خطابه الأخير جاهزية “حزبه” لكنه قال إنه لا يسعى الى “حرب شاملة”، وبالتالي فهو يحبّذ إبقاء المواجهة على حالها الى أن يُتّفق على وقف الحرب في غزّة، بحيث تبقى “حماس” قادرة على إدارة القطاع. لكن المزاج في إسرائيل تبدّل وأصبح أقرب الى عملية عسكرية يقول خبراؤها إنها قد تستمر نحو سبعة شهور. وقد ساهم الجيش والمحللون القريبون منه في ترجيح خيار “الحرب الواسعة” ضد لبنان، سواء لأن “حزب الله أصبح في ذاته تهديداً استراتيجياً” أم لأن “الأهمية الاستراتيجية” باتت مبرّرة بوجود إيران وسعيها الى تفعيل “وحدة الساحات” واختبارها في الحرب، وهو ما أشار اليه نصرالله أيضاً.
لذلك يميل المستوى العسكري في إسرائيل إلى الإسراع في إنهاء العملية العسكرية في رفح وتعزيز صفقة الهدنة وتبادل الأسرى بهدف التركيز على حرب في لبنان “لاستعادة الردع هناك”، إذ بات يقال إن الشمال “هو الأساس الآن”… وقد لفت موقف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الى خطورة الوضع بقوله إن تصعيد الخطاب العدائي من الجانبين “يوحي كما لو أن هناك حرباً شاملة وشيكة”، مستخلصاً أن “العالم لا يتحمل تحوّل لبنان إلى غزة أخرى”.
المصدر: النهار العربي