أسامة أبو ارشيد
في عالم التحليل النفسي، ثمَّة عارض مرضيٌّ، ويتطلب علاجاً إكلينيكياً أو سريريّاً، يسمّى “Idealization”، أو “إضفاء المثالية” وإسباغها على شخصيات معينة في حياة فردٍ ما، قد تكون عامة، كعلماء ومفكّرين وسياسيين، أو خاصة، كالوالِدَين والأصدقاء، ثمّ التعرض لصدمة بهم وبمواقفهم، إن ثبت أنهم لم يكونوا على مستوى “المثال” الذي افترضه المعنيُّ فيهم. خطورة “إضفاء المثالية” على آخرين أنها تُخرجهم من سياقهم ونسقهم الإنساني النسبي، وترفعهم إلى مستوىً قريب من الكمال، إن لم يصل، في حالاتٍ، إلى القداسة، بحيث لا نعود نرى عيوبهم أو أننا نتغاضى عنها متعمّدين. وعند التعرّض لصدمة بهؤلاء “المثاليين” ووقوع افتراقٍ لديهم بين المبادئ والسلوك، نكون أمام ثلاثة أنواع من الردِّ من المصاب بِرُهابِ الترميز والتقديس للأفراد، فهو إما، أولاً، أن يعيش حالة إنكار ويستمر في دفاعه عمن يتخيّلهم “مثاليين” ملتمساً لهم الأعذار، مهما كان الانحراف عندهم. وإما، ثانياً، أن يعلي من شأنهم على حساب المنهج الذي رَمَزَهُم على أساسه ورفعهم إلى مستوى “المثال”، بحيث يصبح “المثال الفرد” المزعوم حكماً على الفكرة والمبدأ والموقف، لا العكس. وإما، ثالثاً، أن يكفر (المصاب بِرُهابِ الترميز والتقديس)، والذي يعاني عادة حسب التحليل النفسي الإكلينيكي في هذا السياق من الشعور بالدونية واحتقار الذات.. يكفر بالمشروع والمبادئ كلها وينقلب عليها.
ليس ما سبق كلاماً نظرياً أو سفسطة، ولا هو حتى كلام تقني، بل هو واقع نعيشه ونرى تجلياته وتعقيدات تَكييفهِ بشكل متكرّر وفي أكثر من صيغة. من ذلك، مثلاً، ذلك الجدل الذي ثار على مواقع التواصل الاجتماعي عن خطبة عرفة (السبت، 15 يونيو/ حزيران الماضي)، والتي ألقاها إمام المسجد الحرام وخطيبه، الشيخ ماهر بن حمد المعيقلي، في مسجد نمرة. في خطبته تلك، والتي تحمل رمزية هائلة في الإسلام، حيث يجتمع مئات آلاف الحجاج على صعيد عرفات، لم يتطرّق المعيقلي إلى الحال الكئيب والبائس والدامي الذي تحياه الأمة المسلمة. لم يتطرّق الشيخ إلى ما يجري من مجازر وإبادة وتجويع في غزّة. لم يتحدث عن مآسي ومخازي السودان وسورية، أين تُذبح الشعوب ويُعتدى عليها بأيدي بعض من أبنائها. غابت كذلك معاناة المسلمين في كشمير وميانمار، ولم يكن هناك حديثٌ عن القمع والفساد والنهب ومصادرة حقوق الشعوب العربية والمسلمة في بلادها. لم يحضُر أيٌّ من ذلك في خطبة الشيخ، اللهم إلا إشارة عابرة إلى غزّة في الدعاء التي كان أهلها يذبحون وهو يخطب. “ادعوا لإخواننا في فلسطين الذين مسّهم الضر وتألموا من أذى عدوهم سفكاً للدماء، وإفساداً في البلاد، ومنعاً من ورود ما يحتاجون إليه من طعام ودواء وغذاء وكساء”، هكذا قال المعيقلي. لستُ هنا في صدد تقويم الخطبة، ولكن اللغط الذي أثارته يحيلنا إلى إشكالية “إضفاء المثالية” وإسباغها على الفرد وجعله حكماً على المنهج والمبدأ بدل أن يكونا حكماً عليه.
“
لنتجاوز هنا الذين لا يتقنون إلا فن الشتم واختزال الناس في موقف أو بضع مواقف وإغفال الخير الأعم عندهم. ليس هذا مكان مناقشة تلك العقلية المسكونة بالأمراض والعُقَدِ والنزق، من دون إغفال خطورتها، وضرورة التنبيه إليها في سياقٍ مستقل. ما يهمّنا هنا مناقشة أحد أطراف النقيض المتطرّف الآخر الذي يتخندق وراء “رمزيةٍ” مُدعاةٍ لمن نصّبوهم هم أنفسهم “مثالاً” وحكماً على المنهج والمبادئ والمواقف. مباشرةً تصدّى هؤلاء للردِّ، كثير منهم بصلف وعناد، على المنتقدين لمستوى خطبة عرفة. لم يحرّك المهووسون بالترميز والتقديس لمن هم ليسوا أهلاً لهما الغيرة على ما يمثله الشيخ المعيقلي، بل شخص المعيقلي نفسه إماماً للمسجد الحرام وقارئاً، ذا صوت جميل، لكتاب الله عزَّ وجل. في غمرة هذا تناسى هؤلاء ما يأمر به القرآن الكريم، الذي رُفِعَ ذكر المعيقلي بفضله، من وحدة الأمة وحرمة دمائها وتكافؤها. وهم لم يلقوا بالاً إلى جلالة الموقف وعظمته ورمزيته، إذ إنه خطب من حيث خطب الرسول عليه السلام “خطبة الوداع” يوم عرفة، وكان مطلعها: “أيّها الناس، اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا. أيّها الناس، إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا (يوم عرفة)، في شهركم هذا (شهر ذي الحجة المحرم)، في بلدكم هذا (مكة المكرمة). ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد”. أتُرى، أجعل المعيقلي ومن يصرّون على “إضفاء المثالية” عليه وعلى من هو مثله القرآن وسيرة الرسول الأكرم حكماً عليهم أم العكس؟
مرّة أخرى، ليس هدف هذا المقال الانتقاص من قدر أحد ولا اختزال أحدٍ في موقف أو بضع مواقف، وإنما التنبيه إلى أنه لا بد من محاكمة الشخصيات العامة على أرضيّة تمسّكها والتزامها بما تدعو إليه وما تمثله، وليس محاكمة الأفكار والمبادئ والمواقف على أساس من يدّعي تمثيلها. بغير ذلك، تسقط قيمة المنهج والفكرة والموقف في سبيل الحفاظ على قيمة “المثال الفرد” المزعوم. حتى الرسول عليه السلام خضع للميزان والمنهج نفسيْهما. “تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ. وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ. لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ” (الحاقة: 43-47). وكذلك: “وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ” (آل عمران: 144). وكما جاء في الأثر عن عليٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه: “لا تَعْرِف الحقَّ بالرجال. اعرف الحق تعرف أهله”.
هناك من سيقول، مجادلاً عن علماء ومفكّرين وسياسيين ومؤثرين، ممن يسقطون في اختبار المواقف: “تفهّموا ظروفهم والضغوط الممارسة عليهم، ولا تختزلوهم في موقف هنا وموقف هناك!”. من ناحية، يمكن تفهّم ذلك جزئياً، لكن التعميم منطق سقيم، إذ بذلك لن يبقى من الدين والمبادئ والقيم والمواقف شيء. ثمَّ إن ذِكْرَ الشخصيات العامة علا بين الناس بما يفترض أنهم يمثلونه من منظوماتٍ قيميةٍ وأخلاقيةٍ ومواقفية. واستتباعاً، ليس من العدل أبداً أن يكونوا رابحين دائماً، حين يحسنون وحين يسيئون.
التقديس والترميز، حيث لا ينطبقان، وفي “إضفاء المثالية” وإسباغها على شخصيات عامة وجعلها حكماً على الفكرة والمبادئ والمواقف والقيم، حتى حين تنحرف عنها، منهج وسلوك خطير. إن في ذلك نحتاً لأصنام وصناعة لها، وكأنه لا يوجد لدينا ما يكفي من أصنام ترزح صدورنا تحت وطأتها الثقيلة.
المصدر: العربي الجديد