حسن النيفي
تتصاعد دعوات السوريين، خاصة في مدن وبلدات الشمال وفي البلاد التركية وبلدان اللجوء الأخرى، مطالبة بضرورة إيجاد كيان سياسي قادر على تلمّس أوجاعهم ومقاربة التحديات التي تواجه مصيرهم، وأمين على تطلعاتهم، ولا يساوم على تضحياتهم ومستقبلهم في سوق المصالح الإقليمية أو الدولية.
ولا شك أن تصاعد تلك الدعوات غالباً ما يتزامن مع مستجدات سياسية في المنطقة تعود فيها القضية السورية إلى واجهة الأحداث، ليس باعتبارها قضية عادلة لشعب يعيش مأساة إنسانية كبرى منذ أكثر من عقد، وبالتالي باتت تستوجب حلاً عادلاً، بل باعتبارها محطة ينبغي عبورها لتلاقي المصالح الدولية الأخرى، فضلاً عن كونها – وفقاً لبعض الدول – باتت عبئاً على مستقبل العلاقات بين دول المنطقة.
وعلى الرغم من مشروعية تطلع السوريين إلى مظلة قيادية تتولى شؤونهم السياسية والحياتية، إلا أن هذه الدعوة غالباً ما تأتي في سياق مشحون يسوده الغضب والانفعال، الأمر الذي يجعل منها شكلاً من أشكال ردّات الفعل تجاه واقع مُزرٍ فاقت تداعياته طاقات المواطنين.
هذا يدفع إلى القول: إن تلك الدعوة حتى لو تحققت فلن تحمل في طيّاتها حلاً سحرياً لمشكلات راكمتها سنوات متعاقبة مليئة بالتراجع والخيبة سواء على المستوى السياسي أو الحياتي العام.
الخيبة المزمنة من الأطر الرسمية للثورة
تشير الإحصاءات الأولية إلى وجود ما يقارب ستة ملايين مواطن سوري يقيمون في المناطق والبلدات التي تقع تحت نفوذ الحكومة التركية عبر تنسيقها مع (الجيش الوطني). وإذا أضفنا إلى هؤلاء ما يقارب ثلاثة ملايين ونصف المليون مواطن يقيمون – كلاجئين – داخل البلاد التركية، فيكون العدد قد قارب تسعة ملايين ونصف المليون من المواطنين السوريين (ثلث سكان سوريا). من المفترض أن تكون المسؤولية الإدارية والخدمية والسياسية حيال هؤلاء تقع على عاتق الكيانات الرسمية للمعارضة، الائتلاف كقيادة سياسية أولاً، والحكومة المؤقتة كجهاز تنفيذي تابع للائتلاف، ليس بسبب مقتضيات الجغرافيا فحسب، بل لأن هؤلاء المواطنين هم – من الناحية الفعلية – حاضنة حقيقية للثورة أيضاً. إلا أن واقع الحال يؤكد، على مدى ثلاث عشرة سنة من عمر الثورة السورية، غياباً شبه تام لأيّة مسؤولية فعلية لتلك الأطر حيال المواطنين السوريين سواء ما يخص من هم داخل سوريا أو ممن يقيمون على الأراضي التركية.
وعلى الرغم من اتخاذ الائتلاف مقره الرئيسي في مدينة إسطنبول التركية، إلا أن القطيعة التي انتهجها بينه وبين السوريين لم تمكنه من المساهمة في مجرد استخراج وثيقة شخصية لأي مواطن سوري، باستثناء وثائق السفر المزورة التي اعتقل بسببها العديد من المواطنين السوريين في مطارات مختلفة. وكذلك وقف عاجزاً، بل متغافلاً عن جميع التجاوزات التي وقعت على السوريين من جانب السلطات التركية، سواء فيما يخص حالات الترحيل أو الاعتقال التعسفي. كان المبرر الدائم لغياب دور الائتلاف هو أن الغاية من وجوده بالأصل هي التمثيل السياسي للسوريين ولا صلة له بالقضايا الأخرى، وكأن السياسة شأن منقطع الصلة بشؤون الحياة الأخرى.
أما الحكومة المؤقتة، فعلى الرغم من حضورها الهيكلي الشكلي في الداخل السوري، وكذلك على الرغم من الأطر المؤسساتية التي حاولت إيجادها، كالوزارات ومؤسسات القضاء وجهاز الشرطة والأمن العام، إلا أن سلطتها الحقيقية وفاعليتها على الأرض محكومة بعاملين اثنين: أولهما المنسق التركي الذي يقوم بالإشراف المباشر على عمل المؤسسات وهو صاحب القرار الفعلي بما يخص عملها. وثانيهما الفصائل العسكرية التي ما تزال تعدّ نفسها فوق المؤسسات والقوانين، باعتبارها صاحبة القوة والسطوة التي لا تبيح لها التحكم بمقدرات الناس الحياتية والاقتصادية فحسب، بل بخياراتهم المصيرية أيضاً.
لعل المعاناة المريرة من ديمومة البؤس بأشكاله الحياتية والأمنية والسياسية دفعت المواطنين على الدوام إلى الاحتجاج والتعبير عن الاستياء والسخط الشديد على شتى أشكال التجاوزات أيّاً كان مصدرها، إلا أن جميع أشكال الحراك الشعبي التي جسّدت غضب الشارع في وجه كيانات الأمر الواقع سواء تمثلت بالفصائل العسكرية أو المؤسسات المدنية الأخرى، ورفضه التجاوز على حقوق المواطن، ظلت على الدوام مشدودةً إلى قناعة داخلية بأن رفض التجاوزات والسلوك المشين للأطر السلطوية إنما مبعثه الحرص على إصلاحها لترتقي إلى المستوى الذي تدّعيه من تمثيل للثورة. وما كان لأشكال الحراك بمجمل حالاتها أن تصل إلى حالة الانفجار إلا حين يشعر الناس بأن من ائتمنوه على تطلعاتهم ومفاصل مصيرهم وتحمّلوا جوره وتجاوزاته قد بدأ بخذلانهم.
لعلها هذه حال سكان الشمال السوري اليوم، وكذلك حال السوريين داخل البلاد التركية، حين يواجهون مشاريع إقليمية قد تودي بقضيتهم وتغامر بمصيرهم، بل ربما أعادت رقابهم إلى السكين التي كانت السبب بتشريدهم وطردهم من بلادهم. في الوقت ذاته لا يجدون من تلك الأطر أو الكيانات التي تحكمهم وتدّعي تمثيلهم من يدافع عن مصائرهم في تلك الظروف المصيرية الحاسمة. إذ إن تزامن الاعتداءات العنصرية على السوريين في مدينة قيصري وامتدادها إلى مدن أخرى مع تجدّد دعوة الحكومة التركية إلى التطبيع مع نظام الأسد كان إيذاناً واضحاً بأن بواعث الانفجار الشعبي باتت وشيكة على الاشتعال، وربما زاد في سرعة اشتعالها صمت الكيانات القيادية وفي مقدمتها الائتلاف، ذلك الصمت الذي لا يمكن تفسيره في هذا الظرف العصيب سوى بأنه تأكيد لدوره الوظيفي الذي انتهجه منذ لحظة تأسيسه، وما يزال أميناً لهذا النهج.
بين خذلان الساسة وهزيمة المثقفين
لئن جاز الذهاب إلى أن دعوة كثير من السوريين إلى إيجاد كيان قيادي جديد يتولى أمرهم ما هي إلا تجسيد لحالة الخيبة والإحباط والخذلان الناتج عن عطالة الأطر الرسمية للثورة، ما أدى إلى طغيان الشعور باليتم السياسي لدى الجمهور العام، فإن السؤال الذي قد يحضر ببال كثيرين يتمحور حول غياب دور المثقفين السوريين الذين تكتظ بهم مراكز البحوث والمعاهد البحثية والمنظمات ذات التمويل الهائل والصحف والمواقع المكرسة للأسماء البراقة. ألا يمكن لهؤلاء أن يمارسوا دوراً من شأنه أن يكون كابحاً لانحطاط السياسة، ومؤازراً لحق شعبهم في الدفاع عن حقوقه المصيرية؟ واقع الحال يؤكد أن كثيراً من المثقفين ما يزالون قائمين على شأنهم الثقافوي لكن في سياقات أخرى، لعلّها – من وجهة نظرهم – أكثر ارتقاءً عن الشأن الحياتي المباشر، وأكثر عمقاً من الظواهر الشاغلة للرأي العام.
يعتقد أكثرهم بلا جدوى العمل بوادٍ غير ذي زرع، إذ اكتشف هؤلاء – بغتةً – أن ثورة السوريين حملت عوامل فشلها من بنيتها ذاتها، المتمثلة تارةً بهيمنة النزوع الديني وتارةً أخرى بتأصل النزعات العرقية والطائفية والمذهبية، وحيناً برفض العلمانية، ناهيك عن غياب الوعي الحداثي وتجذر الإرث المعرفي التقليدي.
بناءً على هذا التصور، ربما تأتي مسؤولية نظام الإبادة الأسدي من المسائل أو الأسباب اللاحقة وليست هي الأصل في الخراب المجتمعي العام.
لذلك يرى هؤلاء أن الجدوى الحقيقية تكمن في العمل على تأسيس مشروع تنويري عام يمكن أن يفضي إلى إنتاج أو تصنيع نخب ثقافية وسياسية قادرة على النهوض بالثورة. بل إن هذه النخب – وفقاً لأصحاب هذا الرأي – هي من سيقوم ليس بإيجاد القيادة فحسب، بل بإيجاد المجتمع أيضاً. لعلّ ما هو جدير بالتنويه أيضاً، أن سكان الشمال السوري باتوا موضع اتهام من جانب كثير من المتثاقفين، تارةً بسبب الطابع المحافظ لهؤلاء السكان، ومرةً لأنهم يخضعون لسلطة فصائل إسلامية لا حول لهم ولا قوة حيال تسلطها.
علماً أن عدداً من هؤلاء المثقفين كان قد استغل بل واستثمر منابر الثورة في بداياتها لتسويق بضاعته التي لم يسمع بها أحد من قبل، ولكنه سرعان ما تنصل منها حين تعثرت وأصبح الاستمرار في مضمارها يوجب التضحية أكثر مما يغري بالمغانم.
يمكن التأكيد على أن بمقدور الساسة الرسميين والمثقفين التنويريين أن يتحاشوا أي معترك سياسي مباشر ويعززوا نخبويتهم بذريعة تحاشي الانجرار وراء الخطابات والشعارات الشعبوية، ولكنهم في الوقت ذاته لن يكون بمقدورهم تحاشي الانجراف بوابل أي انفجار مصيري حاسم إن حصل في قادم الأيام.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا