د. جيمس دورسي*
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
عقيدة الضاحية، وصور الدمار الذي لحق بغزة، ومنشورات جنود الجيش الإسرائيلي على وسائل التواصل الاجتماعي، وتصريحات المسؤولين والسياسيين والشخصيات الدينية والنقاد، تدعو كلها إلى الشك في تأكيدات إسرائيل على أن جيشها هو واحد من بين الجيوش “الأكثر أخلاقية” في العالم.
* * *
التاريخ يعيد نفسه، وإن كان مع تعديل طفيف. وقد ردد استنطاق المتحدث باسم جيش الدفاع الإسرائيلي، دانيال هاغاري، علنًا، لتعهد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في حرب غزة بتدمير حماس، صدى رسالة الجيش قبل ثلاثة عقود إلى رئيس الوزراء آنذاك، إسحاق رابين، خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى في أوائل تسعينيات القرن العشرين.
في ذلك الوقت، قال رئيس الأركان اللفتنانت جنرال دانيال شومرون للسيد رابين: “يمكننا أن نحل هذا، ولكن ليس بثمن أنت أو نحن مستعدون لقبوله. إن هذه مشكلة سياسية. وعليك أنت أن تحلها”.
هذه المرة، قدم السيد هاغاري حجة مماثلة بشأن حماس. قال السيد هاغاري: ”إن فكرة تدمير حماس هي ببساطة ذر للرماد في أعين الجمهور… حماس هي فكرة، حماس هي حزب سياسي… وكل من يعتقد أننا نستطيع القضاء على حماس مخطئ”.
من الواضح أن الجيش ورئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، على خلاف حول رفض السيد نتنياهو التخطيط لكيفية حكم غزة بمجرد انتهاء الحرب. وقد حذر ضباط كبار من أن إسرائيل تخاطر بفقدان المكاسب التي حققتها في الحرب. ويتهم منتقدو نتنياهو رئيس الوزراء بأن لديه مصلحة في إطالة أمد الأعمال العدائية.
يؤكد الاحتكاك القائم بين الجيش والسيد نتنياهو على حقيقة أن جيشي التجنيد الإجباري للسيد هاغاري والسيد شومرون هما وحشان مختلفان تمامًا.
عكست القوات المسلحة للسيد شومرون رأي جمهور إسرائيلي متعاطف مع حل سياسي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، على الرغم من الجهود الوحشية التي بذلها الجيش لقمع الانتفاضة. وكانت أيامه هي أيام اعتراف “منظمة التحرير الفلسطينية” بإسرائيل والتخلي عن الكفاح المسلح وإبرام “اتفاقات أوسلو”.
كانت تلك هي الأيام عندما انضم حزب “شاس”؛ الحزب المحافظ المتطرف، إلى حكومة رابين اليسارية بقيادة حزب العمال قبل الاتفاقات. ويقتبس الصحفي أنشيل فيفر من ديفيد لانداو، رئيس التحرير الراحل لصحيفة “هآرتس” اليومية الإسرائيلية، قوله في العام 1993: “الحريديم (المحافظون المتطرفون)، بقيادة ’شاس‘ في ذلك الحين، كانوا في طليعة تحرك إسرائيل نحو السلام والمصالحة الإقليمية”.
واليوم، يشكل “شاس” جزءا من حكومة نتنياهو القومية المتطرفة والمحافظة للغاية.
وبالمثل، فإن جيش السيد هاغاري هو قوة مسلحة جعلها أكثر وحشية أكثر من نصف قرن من احتلال الأراضي الفلسطينية الذي يهدف إلى الإذلال والإكراه والترهيب.
إنه جيش يلتزم بعقيدة “الضاحية”، التي صاغها لأول مرة في العام 2008 الجنرال غادي آيزنكوت، رئيس الأركان السابق الذي استقال مؤخرًا مع وزير الدفاع السابق، بيني غانتس، من عضوية حكومة الحرب المنحلة الآن التي شكلها نتنياهو.
وتضفي “عقيدة الضاحية”، التي سميت على اسم معقل ميليشيا “حزب الله” الشيعية اللبنانية في بيروت، الشرعية على الدمار الهائل للبنية التحتية المدنية في مواجهة العنف السياسي والمقاومة المسلحة. وقد حولت إسرائيل جزءًا كبيرًا من الضاحية إلى كومة من الأنقاض خلال حربها مع “حزب الله” في العام 2006.
تنص العقيدة على أنه في الحروب غير المتكافئة التي يسيطر فيها العدو على أراض مأهولة بالسكان الداعمين له، يكون تدمير البنية التحتية ومنازل المدنيين بقوة غير متناسبة شيئاً أساسياً وضرورياً.
وبينما تتصاعد التوترات مع “حزب الله” هذا الأسبوع، أكد الرئيس التنفيذي لـ”منتدى الدفاع والأمن الإسرائيلي”، المقدم (احتياط) يارون بوسكيلا، على أن “هذا هو الوقت المناسب بالضبط لاتخاذ إجراءات ضد ’حزب الله‘ ولبنان كدولة، ومهاجمة البنى التحتية المدنية… نحن في حالة حرب. وأي هدف داخل لبنان يسبب ضغطًا على المجتمع اللبناني هو هدف مشروع. يمكن أن يكون مطارًا ومناطق طاقة وغيرها”.
وفي كانون الأول (ديسمبر)، هدد نتنياهو بأنه “إذا اختار ’حزب الله‘ بدء حرب شاملة، فإنه سيحول بمفرده بيروت وجنوب لبنان… إلى غزة”.
عندما أعلن الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ بعد عشرة أيام من هجوم حماس في 7 تشرين الأول (أكتوبر) أن “هناك أمة بأكملها مسؤولة”، فإنه كان يردد صدى ما قاله أفيغدور ليبرمان، الذي أعلن عندما كان وزيرًا للدفاع في العام 2018: “لا يوجد أبرياء في غزة”.
كان السيد ليبرمان قد تحدث بينما أطلقت القوات الإسرائيلية الغاز المسيل للدموع والذخيرة الحية على المتظاهرين السلميين إلى حد كبير على الجانب الغزي من الحدود. وتشير تصريحات هرتسوغ وليبرمان إلى أن تطور البيئة الإسرائيلية، التي ترفض رؤية الفلسطينيين كبشر وتضفي الشرعية على اللغة العنصرية والإبادة الجماعية تعود إلى ما قبل هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر). وهذه بيئة يشجعها الحاخامات المتشددون والسياسيون القوميون المتطرفون.
تفاخر غانتس، وزير الدفاع السابق، الذي ينظر إليه على نطاق واسع على أنه رئيس الوزراء المقبل المحتمل، بأن هناك ”أجزاء من غزة أعيدت إلى العصر الحجري” خلال حرب العام 2014 عندما كان رئيسا للأركان.
وتضع هذه البيئة في السياق مقاطع فيديو لجنود إسرائيليين وهم يحتفلون بموت سكان غزة والدمار الذي لحق بالقطاع، ويسخرون من المدنيين الأبرياء، والتي تردد صدى تصريحات الإبادة الجماعية التي يدلي بها القادة والسياسيون الإسرائيليون.
في أحد مقاطع الفيديو التي تم تسجيلها في القطاع والتي عادت إلى الظهور مؤخرًا، يقول المقدم دافيد ليفي، قائد لواء جفعاتي والمحارب القديم في الضفة الغربية، إن هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) نفذته “الحيوانات العربية التي تمشي على ساقين، من الذين يطلق عليهم في كذبة تاريخية اسم فلسطينيين… وحدها الإبادة الكاملة فقط هي التي سترسل الرسالة إلى بقية الذين يرغبون في أخذ روح الأمة الإسرائيلية”.
وبالمثل، لا يهتم أعضاء حزب “الليكود” الذي يتزعمه نتنياهو بأن يجعلوا كلماتهم أكثر لطفًا. قال عضو الليكود في الكنيست، (البرلمان الإسرائيلي)، أرييل كيلنر، إن حرب غزة “ستكون انتصارًا عندما يخسرون الأرض. عندما يتحول ’بيت الإسلام‘ إلى ’بيت اليهود‘. لن يكونوا قادرين على إنكار النصر. سيكون ذلك انتصاراً، انتصاراً حقيقياً”.
إن عقيدة الضاحية، وصور الدمار الذي لحق بغزة، ومنشورات جنود الجيش الإسرائيلي على وسائل التواصل الاجتماعي، وتصريحات المسؤولين والسياسيين والشخصيات الدينية والنقاد، تدعو إلى الشك في التأكيدات الإسرائيلية على أن جيشها هو من بين الجيوش “الأكثر أخلاقية” في العالم.
ترمز “نيتساه يهودا” (خلود يهودا)، وهي وحدة دينية قومية متطرفة تضم في عضويتها مستوطنين من الضفة الغربية والتي انتقدتها إدارة بايدن وطالبت بمحاسبتها، إلى التحول في الجيش الإسرائيلي، والذي يقطع شوطًا طويلاً، إلى جانب “عقيدة الضاحية” في شرح سلوك إسرائيل الحربي.
تعكس وحدة “نيتساه يهودا”، المرتبطة بانتهاكات متعددة للقانون الدولي أثناء خدمتها في معظم فترة وجودها في الضفة الغربية، التأثير المتزايد للقوميين المتطرفين والمحافظين المتشددين في الجيش. وقد لعبت المدارس الدينية المدعومة من الحكومة، أو “ييشيفوت هسدير”، التي يوجد جزء عسكري في مناهجها، دورًا في تعليم الكثيرين في سلك ضباط القوات المسلحة الإسرائيلية على مدى أكثر من عقدين.
خلال حرب غزة 2008-2009، أثار الجنرال عوفر وينتر، القائد السابق في لواء جفعاتي وخريج مدرسة هسدير الدينية، مشاعر الاستياء من خلال وصف تلك الحرب بأنها تنفيذ لـ”الإرادة الإلهية”.
وكان السيد وينتر يقود قواته في الصلوات داعيًا: “يا الله، يا رب إسرائيل، اجعل مهمتنا تنجح، لأننا على وشك خوض معركة من أجل شعبك، ضد عدو يلعن اسمك”.
في مرحلة ما، عرضت مدرسة بيني ديفيد الدينية للإعداد قبل الجيش اقتباسًا على جدارها من قبل أحد المعلمين فيها، الحاخام جوزيف كالنر، والذي يقول بأن “جميع اليهود العلمانيين خونة ويمكن للدولة أن تفعل أي شيء لمعاقبتهم، بما في ذلك وضع رصاصة في رؤوسهم”.
وفي الآونة الأخيرة، نصحت الشرطة الإسرائيلية، التي يشرف عليها وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير، مكتب المدعي العام بتعليق قضية ضد الحاخام إلياهو مالي.
وتلقت منظمة “شيرات موشيه يشيفا” التابعة للسيد مالي، وهي من مؤيدي إعادة التوطين الإسرائيلي الدائم لغزة على أسس دينية، دعماً حكومياً بقيمة 800.000 دولار أميركي في العام 2023.
تهدف المدرسة الدينية التي يديرها السيد مالي في يافا إلى تجريد الفلسطينيين الذين ما يزالون يقيمون في ما يعرف اليوم باسم “الضاحية الجنوبية لتل أبيب”، والتي كانت ذات يوم المدينة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في فلسطين، من ملكيتهم.
في حديث له في آذار (مارس) في مؤتمر لييشيفوت هسدير، جادل السيد مالي، مستشهدًا بالكتاب المقدس، بأن “القاعدة الأساسية التي لدينا عند خوض حرب مقدسة، في هذه الحالة، غزة، هي عقيدة ’عدم ادخار روح واحدة‘. والمنطق من وراء هذا واضح جداً. إذا لم تقتلهم، فسيحاولون قتلك. مخربو اليوم هم أبناء الحرب السابقة الذين أبقيناهم على قيد الحياة”.
وتابع السيد مالي: “إرهابيو اليوم هم أبناء العملية السابقة التي تركتهم أحياء. النساء هن بالأساس من ينتجن الإرهابيين. ليس الصبي البالغ من العمر 14 أو 16 عامًا فقط، والرجل البالغ من العمر 20 أو 30 عامًا هو الذي يحمل سلاحًا ضدك ولكن أيضا جيل المستقبل. ليس هناك في الحقيقة أي فرق”.
*د. جيمس دورسي Dr. James M. Dorsey: زميل أقدم في كلية س. راجاراتنام للدراسات الدولية، والمدير المشارك لمعهد ثقافة المشجعين بجامعة فورتسبورغ، ومؤلف مدونة “العالم المضطرب لكرة القدم في الشرق الأوسط” The Turbulent World of Middle East Soccer، ومؤلف كتاب يحمل العنوان نفسه، وكتاب “التحولات السياسية المقارنة بين جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا”، بالشراكة مع الدكتورة تيريسيتا كروز-ديل روزاريو. من كتبه القادمة، “الرمال المتحركة”؛ و”مقالات عن الرياضة والسياسة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا”.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Israeli military isn’t what it once was
المصدر: الغد الأردنية/– (موديرن دبلوماسي)