علي أنوزرلا
شهدت جامعة في الدار البيضاء واقعة أثارت جدلا واسعا في المغرب، عندما رفض عميد إحدى كلياتها تكريم طالبة متفوّقة لأنها كانت تعتمر الكوفية الفلسطينية. وأظهر مقطع فيديو متداول على منصّات التواصل محاولته إزالة الكوفية من على كتف الطالبة، لكنها تمسكت بها تضامنا منها مع غزّة. وأثار رفض العميد تكريم الطالبة استياء كبيرا وعاصفة من الاستهجان في المغرب، انتقدته موقفاً غير مفهوم وغير مقبول. وممن علقوا على الواقعة الوزير والقيادي السابق في حزب العدالة والتنمية، الإسلامي، مصطفى الرميد، الذي وصف عميد الكلية بأنه “جبانٌ لا يستحق العمادة”، بل “ومتجرّد من الإنسانية ولا يستحقّ الاحترام”. وفي هذه الحالة، ليس وضع الناقد أفضل من وضع المنقود، فالرميد كان وزيرا للعدل ووزيرا لحقوق الإنسان في حكومتين ترأسّهما حزبه بين 2012 و2021، وفي الحكومة الثانية كان بمثابة نائب رئيس الحكومة رئيسه في الحزب سعد الدين العثماني، الذي وقّع أمام الملك محمد السادس على اتفاقات التطبيع المشؤومة مع الكيان الصهيوني. ولم يخرُج الرميد، في حينه، ليصف رئيسه في الحزب والحكومة بـ”الجبان”، لأن تلك الاتفاقات هي التي شجّعت على التطبيع مع كل أشكال التصهين التي يجسّدها اليوم مسؤولون مغاربة كثيرون، كما أن الرميد لم يمتلك هو نفسه الشجاعة ليعلن استقالته من الحكومة التي باركت التطبيع. وبعد أن التزم “صمتاً” أربع سنوات، ربما خوفا على المنصب والمزايا، عاد اليوم ليكشف للرأي العام المغربي أنه كان ضد التطبيع وضد توقيع حزبه على الاتفاقات التي شرعّته، وفي الوقت نفسه يدافع عن الموقف الرسمي بشأنه، بما أنه يدرك أن القرار هو قرار القصر وليس الحكومة. لذلك، دعا إلى النظر إليه “ضرورة سواء كانت تلك الضرورة حقيقة أو مفترضة”، كما قال، ويحمّل المسؤولية في ذلك للجزائر!
هل هناك جبن أكبر من هذا الذي يعتري صاحب هذا الموقف، الذي كان عضوا نشيطا في “المؤتمر القومي الإسلامي”؟! كان على الرميد أن يتحلى بالشجاعة، خاصة بعد أن لفظته السلطة، هو وحزبه، من دهاليزها، وقد استنفدت صلاحيتهما، كما قال هو نفسه، ويعتذر عن الجريمة التي ارتكبوها في حق الشعبين المغربي والفلسطيني عندما زكّوا التطبيع الذي بات ينهش المجتمع المغربي مثل سرطانٍ خبيث يَفُتُّ فِي عَضُدِهِ وينخرُه من الداخل، لا أن يدافع عما يسمّيه “التطبيع البارد”، الذي يزكّي تطبيع الحكام ويبرّره، ويدعو الشعوب إلى الاحتجاج للتنفيس عن حالة الاحتقان داخل المجتمعات، معتبرا نظام عبد الفتاح السيسي في مصر أكثر تجسيدا لما يصفه بـ”النظرية الذكية” للتطبيع مع التطبيع!
ليس هذا دفاعاً عن “العميد الجبان”، فمثله هناك مسؤولون مغاربة كثيرون جبناء يسيّرون مؤسّسات دستورية ووزارات وإدارات كبيرة، وجامعات وكليات ومدارس عليا، وكذلك مجالس علمية، مثل المجلس العلمي الأعلى الذي يعتبر بمثابة “دار الإفتاء” ويرأسه الملك، بل ورؤساء أحزاب بينها من يصنّف نفسه “معارضا”. ومع ذلك، لم نسمع من أيٍّ من هؤلاء موقفا معارضا أو مناهضا للتطبيع، وإنما “اجتهادات” في إيجاد تبريراتٍ فجّة لكل أشكال التصهين المستفزّة للشعب المغربي المناهض للتطبيع، في وقت يٌقتَل فيه الفلسطينيون الأبرياء في مجازر بشعة يرتكبها الكيان الصهيوني في تحدٍّ لكل القيم الكونية والأخلاق الإنسانية والقوانين الدولية والشرائع الدينية.
ليست واقعة جامعة الدار البيضاء الأولى ولن تكون الأخيرة، فقد سبق لرؤساء جامعات في الدار البيضاء والقنيطرة أن منعوا فعالياتٍ للتضامن مع الفلسطينيين، وأغلقوا أبواب الجامعات وقطعوا عنها الكهرباء وأعلنوا أيام الفعالية عطلة مدفوعة الأجر من أموال دافعي الضرائب، لتبرير إغلاق الجامعة وتعليق الدراسة فيها. وقد قرض كل هذه “الإجراءات الاحترازية” جبن هؤلاء المسؤولين، وأحدث قرار اتخذه مسؤولون جامعيون خوفا من طلبة جامعتهم المناصرين للفلسطينيين صدر عن جامعة محمد السادس في بنكرير، التي ألغت حفل التخرّج لأن الطلبة أصرّوا على حضور الحفل وهم يعتمرون الكوفية الفلسطينية. وفي المقابل، تَفتَح جامعات ومعاهد ومدارس عليا كثيرة أبوابها لأنشطة يحضرها صهاينة، ومن بينها من وقّع شراكات مع جامعات صهيونية!
رؤساء جامعات مغربية، المفترض أنهم يمثلون نخبة النخبة في مجتمعهم، هم ضد التطبيع، لكنهم لا يجرؤون على التعبير عن آرائهم بحرية، ويمنعون الفعاليات والأنشطة المناهضة أو المنتقدة له في جامعاتهم، وجو الخوف داخل الجامعات والمؤسّسات التعليمية، وسبق أن تحدّث عنه الكاتب في مقال سابق، يدفع الأساتذة والباحثين إلى القبول بالأمر الواقع. فلا يُعقل طوال عشرة أشهر من المجازر وحرب الإبادة في غزّة الشهيدة، لم تنعقد في أيٍّ من الجامعات المغربية ندوة أو محاضرة أو فعالية تتناول هذه الحرب التي هزّت العالم وسوف تغير وجهه. لا يتعلق الأمر بعدم متابعة الجامعة المغربية ما يحدُث، ولا بعدم استيعابها خطورته ومدى تأثيره مستقبلا على جميع المستويات في العالم، وإنما بهاجس الخوف الذي أصبح مهيمنا على الجامعات المغربية والعاملين فيها وطلبتها.
الجبن يعمي ويصم ويبكم ويذل، يعمي عن رؤية الحقّ، ويصم عن سماع صوته، ويبكم عن الصدح به، وفي الأخير يذلّ صاحبه، هذا ما أكد عليه كل من عبد الرحمن الكواكبي في كتابه “طبائع الاستبداد”، وإيتيان دي لا بوسيه في كتابه “العبودية الطوعية”، “الذل” وَ”الاستكانة” وَ”الخضوع” و”الخوف” و”الجبن”، كلها طبائع الشعوب الخانعة التي تصنع طغاتها بأيديها لتقدّسها وتعبدها. لذلك، مناهضة التطبيع ونقده والتعبير بكل الأشكال عن رفضه هو بداية تحرير الشعب من الجُبن الذي يكبله ويخنق صوته، ولهذا تخاف السلطة وأعوانها وخدّامها من مناهضي التطبيع حتى لو اعتمروا كوفية فلسطينية!
المصدر: العربي الجديد