خالد الحروب
يمكن الادّعاء أنه لم يسبق في أيٍّ من حروب التحرير الوطني في القرنين الماضيين أن تعرضت المقاومة التي تكافح الاحتلال والاستعمار إلى نقد شرس وعلني، ومنذ الأسبوع الأول من الحرب، كما تتعرّض له المقاومة الفلسطينية وقيادتُها في قطاع غزّة. لم ترافق الصراعات الطويلة ضد الاستعمار منصّات فيسبوك وتويتر أو إعلام كثيف وصورة ناقلة تصف وتنتقد حالات تحرّر الهند والجزائر وفيتنام والقارّة الأفريقية برمتها، وفي مقدّمتها جنوب أفريقيا، وكذا أميركا اللاتينية. اليوم الكل، سواء ممن يُسمون “النخبة” أو الناس العاديين، يمكنه توجيه النقد واللوم والتنظير، بل والتشهير بالمقاومة، في كتابة ملاحم شتائمية على الإنترنت تُوزّع لحظيّاً. لم يكن ظهر المؤتمر الوطني في دلهي، ولا المؤتمر الجنوب أفريقي في كيبتاون، ولا الفيتكونغ في هانوي، ولا قيادة ثورة الماو ماو في أرياف نيروبي في كينيا مكشوفاً للنقد وللطعن، كما هو حال المقاومة في قطاع غزّة. اللحظة الإعلامية الراهنة من حيث كثافة التغطية وقدرة الفرد على المساهمة الحية والمباشرة في نشر رأيه ليست مسبوقة في تاريخ البشرية. تعجّ صفحات التواصل الاجتماعي بكل الآراء، وفي مقدّمتها من ينتقد المقاومة، وتشتغل ماكينات الدعاية الإسرائيلية ووحدات التزييف بشكل مُذهل في قلب تلك الصفحات وعبر حسابات وهمية لا أول لها ولا آخر.
عمليا وموضوعيا، لم يتوقّف نقد المقاومة ولو يوماً واحداً، وكانت لافتته الكبيرة: ارتكبت “حماس” خطئية في السابع من أكتوبر، وتسبّبت في حرب الإبادة على قطاع غزّة، وما ترتب عليها في الضفة الغربية وحتى في الداخل. كُرّست منابر إعلامية وسياسية عديدة، فلسطينية وعربية، بغرض الحفر في تلك اللافتة الكبيرة، وإعادة تدويرها آلاف المرات. فضائيات ناطقة بالعربية اشتغلت وتشتغل على مدار الساعة، مثل “العربية” وأخواتها، لتناصر عملياً وخطابيا إسرائيل وحربها، وليس لها موضوع سوى تجريم المقاومة والطعن فيها. لو قُدّر لباحث دكتوراة رصد وتحليل الخطاب الإعلامي للفضائيات والمقالات في صحف عديدة في العالم العربي لربما وجد أن نصف تلك التغطيات جاء نقداً للمقاومة، قليله بنّاء ومخلص، وكثيرُه يندرج، بسوء نية أو جهل، في الدعاية الصهيونية ومقولاتها. فلسطينياً، من رأس الهرم الفلسطيني السياسي المخزي، أي الرئاسة الفلسطينية، والنقد لا يتوقّف، بل واعتبر “حماس”، أخيراً، شريكة في المسؤولية عن الحرب، بما يدعم الملفّ القانوني لإسرائيل في محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية.
إذا جاء صوتٌ يشتكي وينتقد من قطاع غزّة، ولكل صوت من هناك كلّ الحقّ في كل القول والنقد، تلتقطه وسائل ومنابر إعلام المناكفة والطعن في الظهر، وتشتغل عليه تحليلاً وتضخيما وتكبيراً. لا يقلّل أحدٌ من هول المأساة والكارثة التي هبطت على رؤوس أهلنا في القطاع، لكن من الخطيئة الوطنية شتم كل من يؤازر المقاومة على خلفية المأساة الإنسانية المروّعة. لم يعد مسموحاً القول إن ما تقوم به المقاومة حالياً، وما قامت به في العشرة أشهر الماضية، يقدّم صموداً أسطوريا في وجه أعتى قوة عسكرية في الشرق الأوسط، وداعميها الأميركيين والغربيين. المسموح به هو مواصلة اللطم والنحيب وفقط.
على الرغم من كل ما سبق، والفضاء المفتوح والنقد والتشهير الذي لا ينتهي، ترتفع وتائر التشاكي بأن هناك من “يحرّم نقد المقاومة”. يُقام نصبٌ كامل من التحريم الافتراضي الوهمي ثم يجري الهجوم عليه وتحليله وتفكيكه وممارسة بطولة وهمية ضدّه. لا يُقال لنا من هو الذي يحرّم نقد المقاومة؟ وكيف يحرّم ذلك؟ ولنفرض أن أحدهم انتقد بل وشتم كل من ينقد المقاومة و”حرّم نقدها”، هل يقود ذلك آليا إلى انصياع من يريد ممارسة النقد والتزامه الصمت؟ لا أحد يمنع أحداً أو يحرَّم عليه قولُ ما يريد ونقدُ من ينقد. بيد أن جوهر ما ينطوي عليه التشاكي من “تحريم نقد المقاومة” هو رفض نقد النقد ليس إلا. يقوم جوهر الرأي المؤيد للمقاومة على التوقيت: لا فائدة الآن من نقد ما حدث في أكتوبر وما قامت به “حماس”، فقد وقع الفأس في الرأس، والنقد والمحاسبة يؤجّلان إلى ما بعد الحرب. النقد المطلوب والبناء والحقيقي الآن للمقاومة ولغيرها هو ما يقدّم أفكاراً وبدائل عملية يمكن تطبيقها اليوم قبل الغد، للتسريع في إنهاء المجزرة والإبقاء على الناس، والحفاظ على الفلسطينيين. أيُّ نقدٍ راهنٍ لا يقدّم بدائل عملية، يمارس رياضة وبهلوانات كتابية محلّقة في الفضاء، لا معنى له ولا طائل منه.
سوف يتصيّد كثيرون السطرين الأخيرين للقول: انظروا، إنه يحرّم نقد المقاومة، على عكس ما يدّعي. هنا أعبّر عن رأيي، وليعتبره من يعتبرُه كما يعتبرُه، وإذا رآه تحريماً يلزمه بالإنصياع والسكوت وعدم النقد، فذلك يمنح هذا الكاتب سطوة وسلطة لم يحلُم بها، ولا يريدها. لا تضع هذه السطور كل نقدٍ للمقاومة وكل الأقلام في سلة واحدة. عديدون نياتهم مخلصة وسليمة وحنقهم مبرّر. لكن هناك منابر عريضة يصعب أساساً تحديد المشتغلين فيها حقاً من وراء الستار.
بعد نُصب التحريم الافتراضي الذي تُعلق عليه الشكاوى، هناك نُصب خطيئة السابع من أكتوبر، والتي، تكراراً، تظل تُعزف في كل مقالة او منشور. ما هو الجديد الذي تضيفه مئات المقالات التي تكرّر الفكرة نفسها وتقول القول نفسه منذ الأسبوع الأول بعد تلك الهجمات في صباح ذلك اليوم؟ كرّر بعض الكتاب هذا النقد في عشرات المقالات: أخطأت “حماس” وجرّت على الغزّيين الويلات. بعد عشرة أشهر من حرب الإبادة، تظلّ هذه الفكرة “العبقرية” تتردّد من دون ملل في الكتابات، بالطريقة نفسها، وبكسل لافت يكشفه التكرار غير المبدع حتى في الأسلوب والتعبير. السؤال هنا: ما الذي ينبني عملياً على هذا النقد، وعلى تكرار الفكرة نفسها في غضون أتون المعركة؟ ماذا يقدّم لنا، وما هي الإضافة الجديدة؟ وللمضي أيضاً مع من يُساجل، لنتفق افتراضا على أن ما حدث كان خطأً، حسنا، وماذا بعد؟ ماذا نفعل وكيف نسير إلى الأمام بعد الاتفاق على هذه النقطة؟
في الحروب والمعارك الكبيرة ليس هناك مناطق رمادية: هناك العدو وهناك الذات الجمعية. من يقف في المنطقة الرمادية يقف عمليّا مع العدو مهما كانت التبريرات. إسرائيل، وأميركا، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وكل سفلة العالم وأشراره، ومعها أنظمة التطبيع العربية، تريد القضاء على حركة حماس وكل المقاومة الفلسطينية. هذه هي الخريطة اليوم، وهذا هو الاصطفاف. الشامتون والمتشفّون والآملون بالتخلص من المقاومة كلٌّ لأهدافه يقفون في المعسكر الآخر. عندما تنتهي الحرب، من حقّ الجميع أن يحلّل وينتقد، ومن حقّ الشعب أن يحاسب الجميع، وفي مقدّمتهم المقاومة و”حماس” في خياراتها واستراتيجياتها من خلال انتخابات حرّة ونزيهة.
المصدر: العربي الجديد