باستمرار كان المرحوم ميشيل كيلو يردد ” لماذا نختلف حول جلد الدب قبل اصطياده ” ويحمل ذلك الدعوة لتوحيد كل الجهود الوطنية السورية باتجاه التغيير الوطني الديمقراطي، الذي يعني استبدال النظام السياسي القائم بنظام سياسي وطني ديمقراطي، يطلق الحريات ويعيد بناء الدولة السورية على أساس المواطنة والديمقراطية وحقوق الانسان.
ويبدو أن البعض يذهب لفهم ما سبق باعتباره دعوة لتخلي التيارات السياسية عن فكرها السياسي، وإفراغ ذلك الفكر، واستبداله بالأهداف المرحلية كما سبق عرضها. بل ويشعر بالضيق حين تعبر تلك التيارات عن رؤيتها الفكرية – السياسية معتبرًا أن ذلك يأتي في غير التوقيت الملائم مما يكرس الانقسام في الساحة الوطنية.
من الضروري وضع ذلك التفكير على محك النقد، وأول ما يمكن قوله في ذلك الصدد أن المطلوب في سورية هو بناء جبهة وطنية تضم مختلف التيارات التي تؤمن بالديمقراطية، ليس فقط كطريقة لتداول السلطة، ولكن كنمط حياة سياسية متكاملة تشمل الحريات العامة والخاصة ودولة المواطنة المتساوية الحقوق للجميع، بغض النظر عن مذاهبهم وقومياتهم، وحياد الدولة تجاه الأديان والمعتقدات. ومثل تلك الأهداف ينبغي أن تكون القاسم المشترك الذي تبنى أية جبهة على أساسه.
لكن هل يعني ذلك بالضرورة أن يتخلى الجميع عن خلفياتهم الفكرية والفكرية – السياسية ويضعونها جانبًا على الرف قبل دخولهم مثل تلك الجبهة؟
مثل تلك النظرة يمكن أن تكون مجرد فهم خاطئ لفكرة الجبهة الوطنية.
فمن حق كل تيار فكري سياسي أن يحمل أفكاره معه ويعبر عنها بالطرق الديمقراطية ولكن خارج إطار العمل الجبهوي المشترك.
بل إن المصادرة على ذلك الحق قد تكون امتدادًا للعقل الاستبدادي مغلفة بغلاف جديد.
فالجبهة الوطنية لا تعني الذوبان الفكري السياسي في أهداف المرحلة الراهنة. وانعدام الفروق في الخلفيات الفكرية – السياسية.
هي تعني فقط تحديد إطار للعمل السياسي المشترك لإنجاز أهداف المرحلة.
أيضًا: فسورية بحاجة لرؤية لما بعد اليوم التالي.
مثل تلك الرؤية لا يمكن أن تأتي من الأهداف المشتركة للمرحلة الديمقراطية فقط.
وهذه الرؤية لن تتشكل بين لحظة وضحاها، بل عبر نقد للمراحل السابقة واستخراج الأفكار الحية وترك الأفكار الميتة والخاطئة وتجاوز كل ذلك فيما يتناسب مع العصر وضرورات المستقبل.
ليس هناك أي تناقض بين دراسة الفكر السياسي للمراحل السابقة من تاريخ سورية الحديث والعمل لإعادة انتاج فكر سياسي أكثر ملاءمة للعصر وللمستقبل وبين الالتزام بمهام المرحلة الراهنة والأهداف المشتركة للعمل الجبهوي .
ولتجاوز أي سوء للفهم ينبغي أن نحث الخطى نحو بناء إطار سياسي ” وثيقة مشتركة ” لما يمكن أن يكون أساسًا لجبهة وطنية عريضة أولًا، لأن افتقاد مثل ذلك الإطار يعيدنا باستمرار للخلط بين حق كل تيار سياسي في عرض رؤيته الفكرية وبين الالتزام بالبرنامج الوطني الديمقراطي للمرحلة الراهنة.
بل إن العمل الجبهوي يستلزم تحديد التخوم بين مختلف التيارات السياسية فالمسألة ليست مسألة إذابة للفروقات وإنتاج جبهة حزبية الطابع تحتكر الحياة السياسية منذ الآن.
وبعد بناء مثل ذلك الإطار ” الوثيقة المشتركة ” يصبح واضحًا أين حدود العمل المشترك الذي لا يحتمل تدخل الخلفيات الفكرية وأين يمكن لكل تيار فكري سياسي عرض أفكاره ومناقشتها دون أن يتهم بكونه يحرف العمل الوطني ويخلق الانقسام داخله.
وهكذا يمكن أن تبدأ سورية حياة سياسية غنية حتى قبل اصطياد جلد الدب، لكن باحترام قواعد الديمقراطية التي هي نمط حياة وليست فقط طريقة للحكم.
المصدر: موقع ملتقى العروبيين