علي أنزولا
عام 2010، كتب الصحافي الأميركي الأكثر شهرة توماس فريدمان، في عموده بصحيفة نيويورك تايمز، أنّ رئيس وزراء إسرائيل، آنذاك، الذي لم يكن سوى بنيامين نتنياهو، يقود بلاده مثل من يقود سيّارته وهو تحت تأثير الخَمر، ودعا أميركا إلى نصح صديقها نتنياهو بالقول له “إنّ الأصدقاء لا يتيحون لأصدقائهم قيادة سيّاراتهم تحت تأثير الكحول، والحال أنّكم وفي هذه الأثناء تقودون الأمور تحت تأثير الخمور. لقد فقدتم أيّ اتصال بالواقع”. وقبل أسبوع، كتب كبير مراسلي “نيويورك تايمز” في أوروبا، ستيفن إيرلانغر، واصفاً إسرائيل بأنّها أصبحت دولةً مارقةً، وقال إنّ نتنياهو أصبح شخصاً خارجاً عن القانون، يتحدّى الجميع، بمن فيهم أصدقاؤه وحلفاؤه، ويقود المنطقةَ كلّها إلى حرب إقليميةٍ مدمّرةٍ من أجل الحفاظ على نفسه في السلطة. ويضيف الكاتب نفسه أنّ الحرب الطويلة أدّت إلى تمزيق البلاد، فيحاول اليمين المُتطرّف إضعاف المؤسّسات الرئيسة، والتسلُّل إليها. كما اهتزّ الانضباط داخل صفوف الجيش، وأصبح أشخاص مُتطرّفون أمثال مجرمي الحرب؛ بنيامين نتنياهو، ويوآف غالانت، الذي وصف الفلسطينيين بالوحوش، ووزير الأمن القومي، المستوطن إيتمار بن غفير، وهو مجرم مُدان، والمُتطرّف بتسلئيل سموتريتش، الذي يَعتبر أنّ قتل مليوني فلسطيني جوعاً أمر “عادل وأخلاقي”… أصبح هؤلاء يمثّلون وجه “إسرائيل” الحقيقي في العالم.
في ظرف 14 سنة تحوّل السائق السكران مُجرماً “خارجاً عن القانون”، والسيارة التي كان يقودها أصبحت “دولةً مارقةً”، ومنذ أكثر من عشرة أشهر وهذا المجرم يقود دولةً مارقةً ترتكب الجريمةَ تلو الأخرى، والمذبحةَ تلو الأخرى، تقصف وتدمّر، وتُخرِّب وتحرق وتجرف، وتقتل وتعتقل وتُعذّب وتُشوّه، وتعدم المرضى والجرحى في المستشفيات، وتغتال وتنبش القبور، وتُحاصِر وتُجوِّع وتُعطِّش، تفعل ذلك كلّه على مرأى ومسمعٍ من العالم، لأنّ جُلّ الدول الغربية دعمتها وساندتها مادّياً وسياسياً وإعلامياً، وشجّعتها على الانتقام بدعوى الدفاع عن النفس، والدول التي لم تدعمها صمتت أو أغمضت أعينها عن جرائمها، وحتّى تلك التي احتجَّت وندَّدت واستنكرت، وشجبت وقطعت علاقاتها معها، لم تُؤدِّ مواقفها، رغم نبلها وشجاعتها، إلى وقف الجرائم التي ما زالت تتكرّر يومياً، طقساً جنونياً، مخلّفة وراءها الموت والدمار.
وكلّما طال أمد الهجوم الوحشي الإسرائيلي على غزّة، وتفاقمت الأمور، أصبح الجيش الإسرائيلي أكثر عنفاً ووحشيةً، يُمارس القتلَ العمد لأكبر عددٍ من السكّان، خاصّة في أوساط الأطفال والنساء، في إطار خطّتة لتنفيذ سياسة التطهير العرقي، والتدمير المُمنهج للبنية التحتيّة المدنيّة حتّى يصبح القطاع غيرَ صالحٍ للسكن، ودفع سكّانه الصامدين إلى اليأس. ومع ذلك، لا يبدو أنّ هناك من هو قادرٌ على وقف حرب الإبادة الجماعية التي تُرتكَب يومياً، في تجاهلٍ تامٍّ للمعايير الأساسية للقانون الإنساني، ممّا دفع المحكمة الجنائية الدولية إلى المطالبة بإصدار مُذكِّرتَي اعتقال لكلّ من رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ووزير أمنه غالانت، لم تصدرا حتّى يوم الناس هذا. ومع ذلك، لا يبدو أنّ هذا يزعج زعماء “الديمقراطية” الغربية، وفي رأسهم الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي يستند دعمُه غيرُ المشروط لإسرائيل إلى التزامه “الصهيوني” الصريح منذ أكثر من نصف قرن.
لقد تحوّل نتنياهو وحشاً حقيقياً، مثل وحش فرانكشتاين، يعبث في عالم مجنون، ومسؤولية وقف هذا الوحش تقع على حلفاء إسرائيل الغربيين، وفي مقدمتهم الولايات المتّحدة، فالسائق الذي كان ثملاً عام 2010، أصبح اليوم مجرماً منفلتَ العقال. وفي المرتبة الثانية تقع مسؤولية ما يجري، وما يُهدّد المنطقة من مخاطر، على الأنظمة الرسمية العربية، التي طبَّعت أغلبها مع هؤلاء المجرمين، ومسؤولية هذه الأنظمة المُطبِّعة، ترقى إلى مستوى المشاركة في الجريمة، لأنّ لا شيء، سياسياً وأخلاقياً ودينياً وقانونياً واقتصادياً، يسوّغ استمرار حفاظ هذه الأنظمة على علاقات بلدانها مع دولةٍ مارقةٍ يقودها مجرمون وسفلةٌ وسفّاحون متعطّشون للدماء.
لقد كان واضحاً منذ بداية العدوان الصهيوني على غزّة أنّ الأمر لا يتعلّق بـ”الدفاع عن النفس”، كما أنّ ما يجري الآن أبعد ما يكون من الحرب، وإنّما هو انتقام وحشي تغذّيه مُعتقداتٌ توراتيةٌ وأيديولوجيا عنصريةٌ، ويقوده فاشيّون صهاينةٌ لتنفيذ خططهم الجهنمية، المتمثّلة في الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، لإرغام الفلسطينيين على مغادرة آخر ما تبقّى لهم من أرض داخل بلاد أجدادهم، وسيأتي اليوم الذي يتمدّد فيه الوحش الإسرائيلي نحو أراضٍ عربيةٍ أخرى، وعندها لن ينفع أن يُقالَ إنّنا رأينا الخطر الفاشيّ الصهيونيّ قادماً ولم نأبه به، أو إنّنا صمتنا ولم نحرّك ساكناً لوقفه… لم نصرخ، لم ندقّ ناقوس الخطر، أو بالأحرى، لم نقرع جدار الخزّان، لأنّ أغلب الأنظمة العربية اليوم أصبحت تعيش محبوسةً داخل خزّانٍ كبيرٍ من الخوف والخنوع والانبطاح، ومع ذلك لا تتحرّك، ننتظر موتها البطيء أو الانفجار العظيم الذي سيدمِّرها لا محالة عندما يقع.
إسرائيل اليوم، تحت قيادتها المجنونة، وبتأييد من أغلبية شعبها المُتطرّف والعنصري والحاقد، تشبه “وحش البحر” في سِفْرِ رؤيا يوحنا في العهد الجديد من الكتاب المُقدَّس، وحش اجتمعت فيه صفات أشرس الحيوانات حتّى فاقها جميعها في وحشيته “أُعْطِيَ سُلْطَانًا عَلَى كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَأُمَّةٍ “، لدرجة أنّ العالم المخدوع سَيسْجُد له “فَسَيَسْجُدُ لَهُ جَمِيعُ السَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ”، هكذا تقول رؤيا يوحنا.
في شهر مارس/ آذار الماضي، غرّد الكاتب الفرنسي اليهودي، جاك أتالي، الذي سبق له أن شغل منصب مستشار الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران، واصفاً نتنياهو بأنّه مجرم ستّ مرّات. أولاها، لأنّه قتل عشرات الآلاف من الأبرياء في غزّة. وثانيتها لأنّه أصبح يُشكّل خطراً على الدعم الذي ظلّت تحظى به إسرائيل منذ عام 1948. وثالثتها لأنّه لم يُحرّر المحتجزين. ورابعتها لأنّه سمح لـ “حماس” بأن تظهر في موقع الضحية. وخامستها لأنّه قدّم الذرائع لجميع المعادين للساميّة. وسادستها لأنّه قدّم صورةً سيئةً عن القيم الديمقراطية الغربية. وخلص أتالي إلى القول إنّ المكان الوحيد الذي يليق به اليوم هو السجن. لكن كلّ ما يفعله الآن نتنياهو يهدف إلى الإفلات من مصيره المحتوم هذا، وإذا لم يدخل السجن عاجلاً، فسوف يحرق المنطقة كلّها، عملاً بمنطق شمشون “عليَّ وعلى أعدائي”. ولا غرابة أنّ شمشون من بني إسرائيل، وأن نهايته، كما في الأسطورة، ستكون في مدينة اسمها غزّة، يسكنها شعب يُسمَّى “شعب فلستين” (!)
المصدر: العربي الجديد