حسن فحص
القنبلة التي تفجرت بوجه الرئيس في أول يوم من رئاسته وضعته أمام اختبار معقد
إيران التي تراقب آثار الحجارة التي رماها نتنياهو في بئر النظام، تسعى لكيلا تفيض مياهه عن الحد الذي يمكن استيعابه، وتعمل لكيلا يتحول سيلاً يجرف بكل مشاريعها وإنجازاتها والآمال المعقودة على المرحلة المقبلة داخلياً وخارجياً.
لا شك في أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اقتنص اللحظة التي وفّرتها زيارة رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية إلى العاصمة الإيرانية، ليعطي الأوامر بتنفيذ عملية الاغتيال وإخراجه من المشهد الفلسطيني، تحديداً الغزي.
فالتنفيذ في إيران لا يضع تل أبيب أمام أي تداعيات سلبية قد تنتج من تنفيذ هذا الاغتيال في أي دولة أخرى يقيم فيها أو يزورها أو زارها هنية، لا بل تسمح له بتوجيه ضربة أو صفعة للجهة التي يعتبرها مسؤولة بأشكال مختلفة عما حصل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وما أطلقت عليه “حماس” عملية “طوفان الأقصى”، على رغم حرص وتأكيد القيادة الإيرانية على عدم علاقتها بالتوقيت أو وجود أي دور لها في هذه العملية، وأن دعمها “حماس” لا يخرج عن سياق الاستراتيجية العامة للنظام في دعم كل الحركات المقاومة في منطقة الشرق الأوسط في فلسطين ولبنان وسوريا العراق واليمن.
التوقيت الإسرائيلي لعملية الاغتيال، سمح لنتنياهو برمي أكثر من حجر في البئر الإيرانية، وإذا ما كان الحجر الأول هدفه الرد على ما أعلنته طهران لجهة عدم مسؤوليتها عن عملية “الطوفان”، فإن نتنياهو أوصل رسالة إلى القيادتين الأميركية والإيرانية بأنه غير مقتنع بإخراج إيران من دائرة الاتهام بالمسؤولية عما حصل في غزة وبأن الموقف الدولي، تحديداً الأميركي الذي تماشى مع الرواية الإيرانية هذه انطلاقاً من حرص واشنطن على عدم توسيع دائرة الحرب وكبح جماح نتنياهو وفريقه المتطرف عن محاولة الحصول على ضوء أخضر أميركي وغربي بضرب العمق والمصالح الإيرانية، بخاصة أنه لم يسقط من اعتباراته أو استراتيجيته العمل على توجيه مثل هذه الضربة.
اغتيال هنية داخل العمق الأمني والاستراتيجي للنظام الإيراني وفي مكان من المفترض أن يكون الأكثر أمناً في قلب العاصمة طهران، يعني أن نتنياهو استهدف الأمن القومي والسيادة والكرامة والشرف الإيراني الذي فشل في الأقل في حماية ضيف على قدر كبير من الأهمية في سياق المشروع الإقليمي والاستراتيجي للنظام، فضلاً عن أنه وضع علامات استفهام كثيرة حول قدرة أجهزة النظام الاستخباراتية والأمنية في توفير الحماية لقادة النظام أنفسهم، موجهاً رسالة واضحة حول حجم الخرق الذي استطاع تحقيقه داخل هذه المنظومة التي تسعى إلى تقديم صورة عن نفسها بأنها الأقدر وصاحبة الذراع الطويلة، بخاصة في مواجهة جهازي “الموساد” الإسرائيلي والـ”سي آي أي” الأميركي.
وإضافة إلى عامل الصراع المفتوح بين تل أبيب وطهران، ومحاولات نتنياهو الدائمة لتوجيه ضربات محرجة ومؤلمة للنظام في طهران واستغلال أي فرصة مواتية لذلك، إلا أن التوقيت الذي اختاره لتنفيذ هذا الاغتيال، إذ رمى حجراً أمام الرئيس الإيراني المنتخب مسعود بزشكيان في اليوم الأول الذي أدى فيه اليمين الدستورية، قد يتحول إلى عثرة كبيرة أمام المشروع الطموح لهذا الرئيس، القائم على إعادة الاعتبار لسياسة الانفتاح والحوار مع جميع القوى العربية والإقليمية والدولية وصولاً إلى الولايات المتحدة طالما كان ذلك يصبّ في إطار تعزيز المصالح الإيرانية وتأمين منافعها الاقتصادية والسياسية والمالية.
لا شك هنا في أن تأكيد طهران على استمرار الحوار غير المباشر مع واشنطن في المرحلة الانتقالية التي تلت مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان، والمعلومات التي تحدثت عن لقاءات ثنائية مباشرة بين الطرفين والتي شكلت الأرضية الصلبة للرئيس المنتخب للحديث عن سياسته الحوارية من أجل إعادة إحياء الاتفاق النووي وإنهاء العقوبات الأميركية، إضافة إلى تسريبات إيجابية عن الإدارة الأميركية في هذا الشأن، كلها شكلت مصدر قلق لنتنياهو وفريقه من إمكان أن تقطف إيران ثمار التطورات التي تشهدها الساحة الفلسطينية وحرب غزة والإقليم على حساب الموقف الإسرائيلي، بالتالي كان لا بدّ لنتنياهو من أن يقطع الطريق على هذا المسار ولو كان في مرحلته الأولى.
لذا، فإن إخراج إيران من دائرة الهدوء ودفعها باتجاه الانفعالية من خلال هذه العملية لردّ مفتوح على جميع الاحتمالات بما فيها الحرب الشاملة، فتتجاوز في آثارها ما كان يريده في عملية استهداف القسم القنصلي للسفارة الإيرانية في دمشق مطلع أبريل (نيسان) الماضي، يساعدناه على قطع الطريق على أية ضغوط قد تمارسها عليه واشنطن في أي تسوية محتملة وتفرض عليه القبول بوقف لإطلاق النار في حرب على غزة، ويسمحان له بالإبقاء على حال التوتر القائمة في الإقليم خلال الفترة الضائعة التي تمر بها أميركا نتيجة انشغالها بالحملات الانتخابية، مما يعطيه الفرصة للرهان على عودة دونالد ترمب إلى الرئاسة من جديد وما يعنيه ذلك من تغيير في آليات القرار الأميركي تجاه ما يجري في فلسطين.
وبغض النظر عن الأهداف التي سعى وراءها نتنياهو من الحجارة التي رماها في البئر الإيرانية، ومهما كانت طبيعة ردّ طهران على هذا الاستهداف لأمنها القومي وسيادتها، فإن هذه العملية قدّمت خدمة جليلة لتيار داخل المشهد السياسي الإيراني، تحديداً التيار الخاسر في السباق إلى رئاسة الجمهورية. هذا التيار الذي شعر ويشعر بصورة جدية بحجم التحدي الذي قد يخلقه الرئيس الفائز بزشكيان لكل سرديته السياسية والعقائدية والأيديولوجية التي بنى عليها مشروعه السياسي بالوصول إلى السلطة.
فالدعم الواسع الذي بدأ يتبلور خلف الرئيس الجديد والرغبة الكبيرة للمرشد الأعلى للنظام في إنجاح هذه التجربة التي تساعد على تفكيك الأزمات الاجتماعية والثقافية العقائدية التي يواججها النظام على المستوى الداخلي، وإعادة تفعيل المسار الحواري والانفتاحي على المستوى الخارجي، هذا الدعم، إضافة إلى حال الرضا الشعبي الواسعة على رؤية الرئيس في إدارة ملفات البلاد، باتا يشكلان قلقاً حقيقياً للتيار المتشدد الخاسر دفعه إلى إعادة ترتيب أوراقه والبحث عن آليات مختلفة لإفشال الرئيس الجديد.
إلا أن عملية الاغتيال، تحولت بالنسبة إلى التيار المتطرف بمثابة الحجر الذي رماه نتنياهو عنهم في وجه بزشكيان وطموحات المرشد بإعادة ترميم الصورة الخارجية لإيران. فالقنبلة التي تفجرت بوجه الرئيس في أول يوم من رئاسته وضعته أمام اختبار معقد، في التوفيق بين مشروعه السياسي والتزام مقتضيات السيادة القومية، بخاصة أنه يشغل في الوقت نفسه منصب رئيس المجلس الأعلى للأمن القومي، وأن أي خطوة غير مدروسة في مستوى الرد على الاعتداء الإسرائيلي قد تطيح بكل الطموحات التي حملها وحملته إلى الرئاسة، وتحقق بالتالي، رغبة التيار المتطرف الذي يدفع باتجاه عرقلة أي عملية حوار حول الملف النووي مع الولايات المتحدة، ويدعو إلى توجيه ضربة قاسية لإسرائيل بغض النظر إذا ما أدت إلى حرب شاملة التي تعتبر مطلباً لهم لأنها تصبّ في دعم رؤيتهم العقائدية والأيديولوجية والسياسية.
إيران التي تراقب آثار الحجارة التي رماها نتنياهو في بئر النظام، تسعى لكيلا تفيض مياهه عن الحد الذي يمكن استيعابه، وتعمل لكيلا يتحول سيلاً يجرف بكل مشاريعها وإنجازاتها والآمال المعقودة على المرحلة المقبلة داخلياً وخارجياً.
المصدر: اندبندنت عربية