حسن نافعة
نظريّتان تسعى كلٌّ منهما إلى تفسير ما يجري هذه الأيام في منطقة الشرق الأوسط، وكلتاهما تتمحوران حول طبيعة العلاقة التي تربط الولايات المتّحدة والكيان الصهيوني. ترى الأولى أنّ ما يجري في المنطقة هو من تصميم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في المقام الأول، لأنّ معظم تحركاته يستهدف بوضوح جرّ الولايات المتّحدة للمشاركة معه في حرب ضدّ إيران. وترى الثانية أنّ نتنياهو، رغم التسليم الكامل بتطرّفه وعناده، لا يستطيع القيام بمبادرات تتعلّق بمصير الحرب والسلام في الشرق الأوسط إلا بعد التشاور مع الإدارة الأميركية القائمة، والحصول منها على تصريح مسبق، أو على موافقة ضمنية في الأقلّ، كي تصبح جاهزة لمباركتها أو للمشاركة فيها أو لتحمّل ما قد ينجم من تلك المبادرات من تبعات، ما يعني أنّ الولايات المتّحدة هي الصانع الحقيقي لما يجري كلّه في هذه المنطقة. وبالتالي، فإنّ الكيان الصهيوني هو مُجرَّد أداة.
وفي مقال نشره في موقعه يوم الثلاثاء الماضي، يرى البروفيسور الأميركي جون ميرشايمر؛ أحد أكثر أساتذة العلاقات الدولية ومنظّريها أهمّية في العالم، أنّ السياسات التي ينتهجها نتنياهو تتعارض في أوجه كثيرة مع السياسات التي تنتهجها إدارة بايدن. مؤكّداً وجود خلافات أساسية بين الطرفَين، تتمحور حول ستّ قضايا رئيسة: إنهاء الحرب المشتعلة حالياً في قطاع غزّة، وكيفية إدارة القطاع بعد وقف إطلاق النار، ومستقبل القضية الفلسطينية، والعلاقة مع إيران، والعلاقة مع حزب الله. فهو يرى أنّ إدارة بايدن ترغب بشدّة في التوصل، أولاً، إلى اتّفاق لوقف إطلاق النار في غزّة، بينما يسعى نتنياهو إلى عرقلة (وإفشال) المفاوضات، التي تسعى إلى التوصّل إلى هذا الاتفاق. ثانياً، طلبت تلك الإدارة من نتنياهو وضع خطّة لإدارة القطاع بعد توقّف القتال، لكنّ نتنياهو لم يعرِ هذا الطلب أيَّ اهتمامٍ، ولا توجد لدى حكومته خطّةٌ متَّفق عليها حول هذه المسألة. ثالثاً، ترغب إدارة بايدن في إعادة فتح الطريق نحو حلّ الدولتين، باعتباره الوسيلة الوحيدة لإنهاء الصراع الممتد بين إسرائيل والفلسطينيين، غير أنّ حكومة نتنياهو ترفض هذه الفكرة صراحةً، ولا تُقدّم أيّ حلّ بديل. رابعاً، تسعى جاهدة لتجنّب الدخول في حرب مع إيران، بينما سعى نتنياهو، مرَّتَين في الأقلّ، إلى جرّ الولايات المتّحدة إلى حرب مع إيران، في 1 إبريل/ نيسان الماضي، عندما أغارت إسرائيل على القنصلية الإيرانية في دمشق، ولاحقاً في 31 يوليو/ تمّوز، حين اغتالت رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنيّة، في زيارة رسمية له إلى طهران. وترغب الإدارة خامساً في تجنّب اتساع الصراع مع حزب الله، خوفاً من تحوّله حرباً إقليميةً قد تجرّ إليها الولايات المتّحدة، بينما تتعمّد حكومة نتنياهو مواصلة استفزاز حزب الله. وأخيراً، يعتقد البروفيسور ميرشايمر أنّ لدى إدارة بايدن مصلحة راسخة في استقرار الأوضاع في الشرق الأوسط، بينما تبدو حكومة نتنياهو “مستعدّة دائماً لإشعال المنطقة”. وفي نهاية مقاله، يُؤكّد ميرشايمر أنّ الولايات المتّحدة هي الطرف الأقوى في العلاقة، وبالتالي لديها من الأدوات ما يكفل حمل إسرائيل على تغيير سلوكها ليصبح أكثر انسجاماً مع المصالح الأميركية، لكنّ إدارة بايدن عاجزةٌ تماماً عن استخدام هذه الأدوات، بسبب “القوة الهائلة التي تتمتَّع بها جماعات الضغط الإسرائيلية”.
في المقابل، يرى آخرون أنّ قدرة اللوبي الصهيوني على التأثير في مراكز صنع القرار وآلياته في الولايات المتّحدة، رغم اعترافهم بقوّة وضخامة ما يملكه من وسائل وموارد، لا تستطيع أن تُفسّر وحدها ما نلاحظه من توافق في المواقف والسياسات، الأميركية والإسرائيلية، إلى حدّ التطابق التامّ في أحيانٍ كثيرة، خصوصاً منذ “طوفان الأقصى”. ولأنّ الولايات المتّحدة ما تزال القوّة السياسية والاقتصادية الأولى في العالم، ولها من ثمّ مصالحٌ كونية يستحيل أن تتطابق كلّياً مع مصالح دولة صغيرة كالكيان الصهيوني، يعتقد هؤلاء أنّ جميع المبادرات التي تقوم بها إسرائيل، خصوصاً ما يتعلّق منها بقضايا الحرب والسلام في منطقة الشرق الأوسط، تتم بوحي من الإدارة الأميركية، أو في الأقلّ بموافقة مسبقة منها، صريحةٍ أو ضمنيةٍ، ما يجعلهم يستبعدون كلّياً أن تتّخذ قرارات من نوع اغتيال فؤاد شكر، القائد الكبير في قوات حزب الله، وفي ضاحية بيروت الجنوبية، أو اغتيال إسماعيل هنيّة، وفي طهران، في أثناء وجوده فيها بدعوة رسمية من الحكومة الإيرانية، من دون موافقة صريحة ومسبقة من إدارة بايدن. لذا يرون أنّ الوضع الطبيعي لنمط العلاقة بين الطرفَين أن تكون الولايات المتّحدة في وضع يسمح لها بتوظيف الكيان، وليس العكس، أيّاً كانت قوّة اللوبي الصهيوني.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الجدل المثار بشأن هذه المسألة قديم جداً، فالذين يجادلون بأنّ إسرائيل، وبسبب ما يتمتّع به اللوبي الصهيوني في واشنطن من قدرة هائلة على التأثير في مراكز صنع القرار الأميركي، هي الأقدر على توظيف الولايات المتّحدة لخدمة استراتيجياتها ومصالحها الخاصّة، يستشهدون بخصوصية العلاقات الإسرائيلية الأميركية، ويرون أنّها تنتمي لنمطٍ فريدٍ ليس له مثيل أو سابقة في تاريخ العلاقات الدولية، قديمها وحديثها. أمّا الذين يرون أنّ العكس هو الصحيح، وأنّ إسرائيل ليست سوى كيان مُسخَّر للقيام بدور وظيفي في خدمة المصالح والاستراتيجيات الأميركية، فيستشهدون بأحداث اضطرت معها حكومات إسرائيلية مختلفة إلى الانصياع للإرادة الأميركية، مثلما حدث حين اضطرت حكومة ديفيد بن غوريون، بعد فترة تمنّع، إلى الانسحاب من سيناء عام 1957، بإلحاح من الرئيس دوايت أيزنهاور، وأيضاً حين اضطرت حكومة إسحاق شامير إلى المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام (1991)، رغم أنفها، بعد تهديد إدارة جورج بوش (الأب) بإلغاء قروضٍ كانت قد وعدت بها.
والواقع أنّنا إزاء نظريتَين تتكاملان ولا تتصادمان بالضرورة، فقوّة اللوبي الصهيوني في واشنطن حقيقةٌ ساطعةٌ لا ينكرها أحد، ومن ثمّ تصلح أساساً لتفسير العديد من قرارات ومواقف السياسة الخارجية الأميركية الداعمة لإسرائيل، والتي قد تبدو، في أحيانٍ كثيرة، مُتعارضةً مع المصالح الوطنية الأميركية، بل ومتناقضة معها تماماً في بعض الأحيان. غير أنّ ذلك لا يعني أبداً أن تعجز أيُّ إدارة أميركية، مهما بلغت درجة ضعفها أو تعاطفها مع إسرائيل، عن ممارسة ضغوط فورية وفعّالة في جميع الأوقات، سواء لدفع الحكومة الإسرائيلية إلى اتّخاذ إجراءات مُعينة ترى فيها نفعاً، أو لإجبارها على التراجع عن قرارات أو مبادرات ترى أنّها تُلحق الضرر بالمصالح الأميركية العليا. فذلك يتوقّف في النهاية على ملابسات وعوامل كثيرة تقتضي فحص كلّ حالةٍ على حدة.
لكن كيف يمكن، استناداً إلى هذه الصيغة التوفيقية، تفسير مواقف إدارة بايدن تجاه ما يجري حالياً في منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً في ما يتعلّق منه بآخر محاولات التصعيد؟… للإجابة عن هذا السؤال علينا أن نعود بالذاكرة إلى ما جرى يوم 7 أكتوبر، فقد أدركت إدارة بايدن حينئذ أنّ حليفتها الأولى والرئيسة في المنطقة تلقّت هزيمةً عسكريةً قاسيةً سوف تُؤدّي حتماً إلى إضعاف هيبة ومكانة الولايات المتّحدة في المنطقة. ولأنّ جميع الإدارات الأميركية ترى أنّ أمن إسرائيل جزء لا يتجزأ من الأمن القومي الأميركي، فقد كان من الطبيعي أن تقوم إدارة بايدن بالدفع بالأساطيل الأميركية نحو المنطقة، وأن تسارع في الوقت نفسه إلى تقديم دعم مالي وسياسي غير محدود لحليفتها المُدلَّلة. غير أنّ الهدف من ذلك كلّه كان ردع حلفاء المقاومة الفلسطينية، من ناحية، وخلق ظروف مواتية لتمكين إسرائيل من القضاء على “حماس”، من ناحية أخرى. وعندما هبّت الرياح بما لا تشتهي السفن الأميركية والإسرائيلية، بسبب صمود “حماس”، وعدم ارتداع محور المقاومة، بدأت إدارة بايدن تقتنع تدريجياً بأنّ إسرائيل خسرت معركةً في الصعيد التكتيكي، ومن ثمّ فعليها، كي لا تخسر الحرب في الصعيد الاستراتيجي، أن تشرع فوراً في اتّخاذ خطوات تُمهّد للتوصّل إلى وقف دائم لإطلاق النار، بعد إضعاف “حماس” إلى أقصى درجة ممكنة، وإبرام صفقةٍ لتبادل المُعتقَلين الفلسطينيين بالمُحتجَزين الإسرائيليين، وتمكين السلطة الفلسطينية في رام الله، بعد “تجديدها”، من إدارة قطاع غزّة بمساعدة قوات دولية، تشارك فيها دول عربية، وبدأ عملية سياسية جديدة تسمح بتسوية تفتح الطريق أمام حلّ الدولتين، وذلك مقابل تطبيعٍ كاملٍ للعلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل والسعودية. ولأنّ هذا التصوّر تعارضَ مع مصالح نتنياهو الشخصية، وأيضاً مع مصالح ائتلافه الحكومي المُتطرّف، فقد أصبح من الصعب على إدارة بايدن وضعه موضع التطبيق، خصوصاً أنّ بايدن لم يرغب، وربّما لم يستطع، ممارسة ما يكفي من الضغوط لإجبار نتنياهو وحكومته على قبوله. لذا قرّر بايدن أن يكتفي بالحرص على عرقلة محاولات نتنياهو الرامية إلى جرّ الولايات المتّحدة للدخول في حرب مع إيران، مع الالتزام في الوقت نفسه بالدفاع عن إسرائيل إذا ما تعرّضت لهجوم لا تستطيع صدّه وحدها، وهو ما حدث بالفعل عقب إقدام نتنياهو على تدمير القنصلية الإيرانية في دمشق.
هناك شكّ في أن نتنياهو حصل على موافقة أميركية مسبقة لاغتيال الشهيد فؤاد شكر في ضاحية بيروت الجنوبية، أو لاغتيال الشهيد إسماعيل هنيّة في طهران. صحيح أنّ إدارة بايدن أكّدت بوضوح تام أنّها ستدافع عن إسرائيل إذا تعرّضت للهجوم، وقامت على الفور بإرسال قطع بحرية إضافية إلى المنطقة، لكن كاتب هذه السطور يعتقد أنّها حريصة على عدم الانجرار إلى المشاركة في حرب مفتوحة، لا مع حزب الله، ولا مع إيران، وبالتالي يُتوقَّع أن تبذل قصارى جهدها لمنع التصعيد والتصرّف بالطريقة نفسها حين تعرّضت إسرائيل لضربة انتقامية من إيران في 14 إبريل/ نيسان الماضي. أما نتنياهو فالظنّ أنّه سيواصل محاولاته الرامية إلى جرّ الولايات المتّحدة إلى حرب مع إيران، وإذا فشل فسيحاول تجنّب توقيع صفقة لتبادل الرهائن بالشروط الفلسطينية، مع العمل في الوقت نفسه على كسب مزيدٍ من الوقت إلى أن يحين موعد انتخابات الرئاسة الأميركية، على أمل أن يفوز بها ترامب، الذي يراهن عليه لإخراجه نهائياً من مأزقه.
المصدر: العربي الجديد