بدأ الحَراك الشعبي الوطني السلمي في السويداء وجبل العرب جنوب سورية انتفاضتَه منذ بدايات أغسطس/ آب 2023، ثمّ تبعه حَراك “اعتصام الكرامة” في الشمال السوري، الذي انطلق مطلع يوليو/ تمّوز 2024. وإذا كانت الصرخةُ الكُبرى في محافظة السويداء وجبل العرب لم تعد تكفي وحدها، وكان المأمولُ أن تواكبها حَراكاتٌ أُخرى تُشكَّل موجةً أخرى وجديدةً من ثورة السوريين، التي بدأوها أواسط شهر مارس/ آذار 2011، والتي كادت تُؤدِّي إلى كنس نظام الاستبداد المشرقي الطغياني أواسط عام 2013 لولا التدخّل الاحتلالي الإيراني عبر المليشيات التابعة لنظام الملالي في إيران، وتوابعه من مليشيا الحشد الشعبي في العراق؛ “النجباء والفاطميون” وسواهم، ومنتجات حزب الله كلّها.
ثمّ تدخّلت روسيا باستنجادٍ من بشّار الأسد (ثم قاسم سليماني)، أواخر شهر سبتمبر/ أيلول 2015، ما أسهم أيضاً في إخماد الثورة السورية، ومَنَعها من تحقيق الانتصار، ومن ثمّ أعاد قيامة نظام بشّار الأسد، وصولاً إلى استمرار العمليات العسكرية، التي قضمت الأراضي، التي سبق وسيطرت عليها المُعارَضةُ السوريةُ المسلّحةُ، رويداً رويداً انتهاءً باتفاق الخامس من مارس 2020 بين روسيا وتركيا بخصوص محافظة إدلب، الذي ساهم في كبح جماح مليشيات النظام السوري، وأنجز الاتفاق البروتوكولي الذي ثبَّت هيمنة النظام السوري على أجزاءَ كبيرةٍ من محافظة إدلب، وبعض ريف محافظة حماة، فقام النظام السوري وقواته بقضم كلٍّ من خان شيخون ومعرَّة النعمان ومدينة سراقب الاستراتيجية أيضاً. ثم راح النظام السوري بعدها ينفّذ خروقاتٍ أمنيةً وعسكريةً يوميةً للاتفاق/ الهدنة، من دون أن يُنفِّذ بنودَ الاتّفاقِ المُتعلّقةِ بتسيير دوريات روسية تركية مشتركة، أو إعادة فتح طريق “إم فور”، ومن دون توفير أيّ حالة استقرار طويلة الأمد لواقع السوريين جنوب الخطِّ الحيوي المشار إليه.
ذلك كلّه، ونتيجةَ طول مدّة حالة الاستنقاع التي تعيشها المسألة السورية، حال دون اجتراح الحلول المواتية والمُهمّة، والبحث عن مخرجٍ يساهم في تحريك حالة الاستنقاع تلك، التي جعلت الواقع السوري ضبابياً، لا آفاقَ مستقبليةً منظورةً له، كما أعاد تكوين المشهد السوري، وفق الرؤيتَين المصلحيتَين الروسية والإيرانية، اللتين تخدمان استمرار بقاء الأسد في السلطة والحكم، بعد جملة المُتغيّرات الجارية اليوم في الإقليم، منذ ما يزيد عن عشرة أشهر خلت. ويبدو أنّ انتفاضة محافظة السويداء السورية السلمية المدنية، وضمن التصوّرات الواعية لما تريده، قد فعلت فعلها جدّياً في إعادة تحريك الواقع السوري من جديد، وإعادة إنتاجه وفق آفاق جديدة، من الممكن أن تساهم في تمظهر المسألة السورية بشكل مختلف، فارضةً بذلك على اللاعبين الإقليميين والكبار ضروراتٍ مُهمَّةً لإنتاج واقعٍٍ ومستقبلٍ جديدٍ للسوريين طالما حُرِمُوا منه، وحَلمُوا فيه، وغابت عنه انبثاقاتٌ أرحبُ لمستقبل السوريين. ولعلّ ما تبع ذلك من مظاهرات في محافظة إدلب، ثمّ اعتصام الكرامة الكبير في الشمال السوري، قد جاءت متساوقةً مع ما آلت إليه أوضاع الانتفاضة في السويداء، تهيئة وأملاً في الاشتغال جدّياً في رسم ملامحِ واقعٍ ومستقبلٍ سوري أكثر قدرةً على الخروج من عنق الزجاجة، وبثّ الحياة مرّةً أخرى في أتون مُتغيّرات يفترض أن تساهم فعلياً في الانتقال نحو مسارات سورية لا تعيقها أبداً، ولا تسمح بأن تأخذ منها عَبَقها، ولا هِمَمَ السوريين، عمليات التطبيع الجارية كلّها على عجل في الإقليم والمحيط حول سورية، سواء التطبيع الجاري على قدم وساق بين تركيا ونظام بشّار الأسد، أو ذاك المُتحرّك بين هذا نظام وعدة دول النظام العربي الرسمي المهرولة نحو التطبيع معه، استغلالاً للرضى الأميركي عليه، بعد موقف واشنطن المُنطلِق من أتون حيثيات ما يُسمَّى “الصبر الاستراتيجي”، وإحجام الأسد عن أيّ مشاركة حقيقية في دعم صمود شعب قطاع غزّة، والشعب الفلسطيني المكلوم.
ويبقى السؤال قائماً بشأن مآلات حراك محافظة السويداء وجبل العرب، والآفاق المستقبلية لاعتصام الكرامة في الشمال السوري، بعد أن أثبتت حركة وتحرّكات كلتا الانتفاضتين قدرتها في الاستمرار، واستيعابها العقلاني لأيّ تدخُّلات تخريبية من النظام السوري قد تسهم في عرقلة مسار ومسيرة التحرُّكَين المُهمَّين المشار إليهما، مع أهمّية ألا تبقى المسألةُ والانتفاضةُ والاعتصام محصورةً في بؤرتَين مُهمَّتَين من واقع السوريين المُنتفِض، إذ لا بدّ من أن تمتد جغرافياً وشعبياً إلى ساحات ومساحات أوسع، وكذلك امتدادات أرحب وأكثر شمولاً واتساعاً، وصولاً إلى إنفاذ وإنجاز حالةٍ واقعيةٍ وميدانيةٍ من إقلاق راحة النظام السوري المُستبِدّ، ومنع وإعاقة داعميه من روس وإيرانيين، وسواهم من مليشيات إيرانية تتبع الحرس الثوري الإيراني، من اللعب في سياقات ورقة الفعل والانتفاض للسوريين، مهما حاولت روسيا وإيران الملالي ذلك.
التحرّك السلمي المدني في محافظة السويداء، الواعي لما يفعل، والمُتَّكئ على انتخابات شعبية حقيقية، وتجربة ديمقراطية متميزة، أصبح متيناً ومتماسكاً بحقّ، ويصعب بالتالي إيقافه أو اقتلاعه، كما أنّ ما يفعله المعتصمون في الشمال السوري يشير إلى امتلاك فكرٍ حداثيٍّ تخطيطيٍّ بعيد المدى، يأبى الانكسار أو التراجع، وهو ما يُعطي الأملَ في امتداده إلى محافظات أخرى، ومن ثمّ إعادة إنتاج ديناميات سورية تغييرية في الحراك الوطني، والذي يعرف جيداً ماذا يريد، وبالتالي، وفيما لو استمر ذلك وفق المنوال نفسه، من الممكن أن يدفع بالقضية السورية قُدماً، وأن يُحرِجَ اللاعبين كلّهم، ويعيد بالضرورة ترتيب الأوراق، كما يُحرِجُ المعارضات السورية الرسمية، التي باءت خطواتها بالفشل، وما برحت عاجزةً عن إنتاج أيّ ديناميات جديدة، تتوافق وتتساوق مع ما يريده الناس في محافظة السويداء، وأيضاً في الشمال السوري، وهذا يُؤكّد أنّ ما أرادته ديناميات الحّراكَين، ليس الانتفاض ضدّ النظام المُستّبِدّ الأسدي فقط، بل هي كذلك محاولةٌ لخلق البدائل الموضوعية، وملء الفراغ، وتحريك الستاتيك، الذي تعتمده بعض أدوات المُعارَضة الرسمية السورية ومنتجيها خطوةً إثر خطوةٍ.
المصدر: العربي الجديد