إيلان ز. بارون و إيلاي ز. سالتزمان
تسير إسرائيل على مسار خطر نحو اللا ليبرالية والاستبداد وهو ما تفاقم بسبب الصراع في غزة وعدم الاستقرار السياسي الداخلي، ويهدد نمو الفصائل المتطرفة وميليشيات المستوطنين الديمقراطية والتماسك المجتمعي، ويعرض إسرائيل لخطر العزلة الدولية والاضطرابات الداخلية. ومن أجل تجنب الكارثة تحتاج إسرائيل إلى إصلاح دستوري وتجديد عملية السلام والالتزام بصورة أفضل بالقانون الدولي
عند قيام إسرائيل خلال مايو (أيار) 1948، تصور مؤسسوها دولة تتسم بالقيم الإنسانية وتحترم القانون الدولي. وأصر “إعلان قيام دولة إسرائيل” الوثيقة التأسيسية للدولة على أن البلاد “ستضمن المساواة الكاملة في الحقوق الاجتماعية والسياسية لجميع سكانها بغض النظر عن الدين أو العرق أو الجنس”، وأنها “ستكون مخلصة لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة”. ولكن منذ اللحظة الأولى لم تتحقق هذه الرؤية قط، إذ عاش الفلسطينيون في إسرائيل تحت نظام الأحكام العرفية لما يقارب عقدين من الزمان بعد توقيع الإعلان. ولم يتمكن المجتمع الإسرائيلي قط من التوفيق وإيجاد حل للتناقض بين المثل العليا المرغوبة عالمياً المحددة في وثيقة هذا الإعلان، والتركيز الضيق على إنشاء إسرائيل دولة يهودية لحماية الشعب اليهودي.
وعلى مر العقود برز هذا التناقض الجوهري مراراً وتكراراً، مما أدى إلى اضطرابات سياسية أعادت تشكيل المجتمع والسياسة في إسرائيل مرات متعددة، من دون إيجاد أي حل لهذا التناقض. ولكن الآن بعد الحرب في غزة وأزمة القضاء التي سبقتها أصبح من الصعب أكثر من أي وقت مضى الاستمرار على هذا النحو، مما يدفع إسرائيل إلى نقطة الانهيار.
في الواقع، إن إسرائيل تتجه بصورة متزايدة نحو الاستبداد والعنف والدمار وما لم تغير مسارها فإن المثل الإنسانية التي قامت عليها ستختفي تماماً مع انزلاق الدولة نحو مستقبل أكثر قتامة، تؤثر فيه القيم غير الليبرالية على كل من الدولة والمجتمع. إسرائيل في طريقها نحو استبداد متزايد ليس في تعاملها مع الفلسطينيين فحسب بل أيضاً في تعاملها مع مواطنيها. وقد تخسر بسرعة عدداً من الأصدقاء الذين ما زالوا إلى جانبها وتتحول إلى دولة منبوذة. وبعزلتها عن العالم قد تسيطر عليها الاضطرابات في الداخل مع اتساع الشروخ التي تهدد بشرذمة البلاد نفسها. ونظراً إلى الوضع المحفوف بالأخطار الذي تعيشه إسرائيل فإن هذه النتائج ليست مستبعدة على الإطلاق ولكنها ليست حتمية أيضاً، بالتالي لا تزال إسرائيل تتمتع بالقدرة على انتشال نفسها من حافة الهاوية. وقد تكون كلفة عدم القيام بذلك باهظة للغاية بحيث لا يمكن تحملها.
نهاية الصهيونية
لقد وقع هجوم “حماس” الدموي خلال السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل في وقت كانت تواجه فيه بالفعل حالاً من عدم الاستقرار الداخلي الهائل. فقد سمح النظام الانتخابي في البلاد الذي يعتمد على التمثيل النسبي خلال العقود الأخيرة بدخول مزيد من الأحزاب السياسية الهامشية والمتطرفة إلى الكنيست، البرلمان الإسرائيلي. منذ عام 1996 شهدت البلاد 11 حكومة مختلفة بمعدل حكومة جديدة كل عامين ونصف العام، وكان ست منها بقيادة رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو. وخلال الفترة ما بين عامي 2019 و2022 كان على إسرائيل إجراء خمسة انتخابات عامة. ولعبت الأحزاب السياسية الصغيرة أدواراً رئيسة في تشكيل الحكومات وإسقاطها، وكان لها تأثير غير متناسب مع حجمها الفعلي. وبعد الانتخابات الأخيرة خلال نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 شكل نتنياهو حكومة بدعم من أحزاب سياسية وقادة من أقصى اليمين، فجلب إلى السلطة قوى سياسية كانت على الهامش لفترة طويلة.
وخلال عام 2023 دفع نتنياهو وحلفاؤه المنتمون إلى اليمين المتطرف في اتجاه إقرار مشروع قانون لإصلاح القضاء يهدف إلى الحد بصورة كبيرة من إشراف المحكمة العليا على الحكومة. وكان نتنياهو يأمل في أن يحميه الإصلاح المقترح من قضية جنائية دائرة ضده. وبطريقة موازية أراد حلفاؤه من اليهود المتشددين أن يمنع الإصلاح تجنيد الآلاف من طلاب المدارس الدينية [ياشيفا]، الذين كانوا معفيين منذ فترة طويلة من الخدمة العسكرية. وقد دعم الصهاينة المتدينون هذا الإصلاح لتقييد قدرة المحكمة العليا على الحد من بناء المستوطنات.
وقد أثار الإصلاح القضائي المقترح احتجاجات ضخمة في جميع أنحاء البلاد، وكشف عن مجتمع منقسم بعمق بين أولئك الذين يريدون أن تظل إسرائيل دولة ديمقراطية ذات قضاء مستقل وأولئك الذين يفضلون حكومة يمكنها أن تفعل ما يحلو لها تقريباً. وشلت الحركة في المدن بسبب المتظاهرين وهدد جنود الاحتياط بأنهم سيرفضون أداء خدمتهم العسكرية إذا تم تمرير مشروع القانون، في حين لمح المستثمرون إلى أنهم سيسحبون أموالهم من البلاد. ومع ذلك، أقر الكنيست نسخة من مشروع القانون خلال يوليو (تموز) 2023 ثم ألغتها المحكمة العليا بداية هذا العام. وفي الوقت الحاضر، يحاول الائتلاف الحاكم إحياء بعض عناصر الإصلاح القضائي حتى مع استمرار الحرب في غزة.
لا شك أن الاحتجاج على الإصلاح القضائي كشف عن مخاوف داخل إسرائيل في شأن طبيعة الديمقراطية داخل البلاد، ولكنه لم يثر أية تساؤلات حول مسؤولية إسرائيل تجاه الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال. وفي الواقع ينظر عدد كبير من الإسرائيليين إلى معاملة بلادهم للفلسطينيين على أنها منفصلة عن أدائها الديمقراطي. وكثيراً ما تسامح الإسرائيليون مع العنف الذي يمارسه المستوطنون اليهود ضد الفلسطينيين، لا بل ربما أيدوه ضمنياً. وفي انتهاك للقانون الدولي تفرض إسرائيل على الفلسطينيين الذين يعيشون تحت حكمها في الضفة الغربية والقدس الشرقية ما يشبه الحكم العسكري. واستطراداً، أشرفت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على توسيع المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية مما يضع فكرة إنشاء دولة فلسطينية مستقبلية ذات سيادة في مهب الريح. وقد كشفت الحرب في غزة التي قتلت فيها القوات الإسرائيلية نحو 40 ألف شخص وفقاً لتقديرات متحفظة، عن دولة تبدو عاجزة أو غير راغبة في دعم الرؤية الطموحة المنصوص عليها في “إعلان قيام دولة إسرائيل”.
وقد اعترف عدد من التقدميين في إسرائيل منذ فترة طويلة بأن الطبيعة الوحشية للاحتلال العسكري، فضلاً عن المسؤوليات المترتبة على الحفاظ على مثل هذا الاحتلال لها تأثير مفسد في المجتمع الإسرائيلي بأكمله. بعد حرب الأيام الستة خلال عام 1967 لاحظ العالم والفيلسوف الإسرائيلي يشعياهو ليبوفيتز موجة شديدة من “الفخر الوطني والنشوة” وتوقع منحى أكثر قتامة في المستقبل. وحذر خلال عام 1968 من أن هذه الحماسة الوطنية لن تؤدي إلا إلى “نقلنا من القومية الفخورة الصاعدة إلى القومية الحماسية المتطرفة”. وزعم ليبوفيتز أن مثل هذه المشاعر المتطرفة من شأنها أن تؤدي إلى سقوط المشروع الإسرائيلي مما يسفر عن “وحشية”، وفي نهاية المطاف “نهاية الصهيونية”. والآن أصبحت هذه النهاية أقرب مما يعترف به عدد من الإسرائيليين.
سبارتا معتمرة القلنسوة اليهودية
في مسارها الحالي تنحرف إسرائيل نحو اتجاه غير ليبرالي ومستبد إلى حد كبير. وقد تؤدي التحولات الحالية نحو اليمين المتشدد التي يدعمها الساسة وعدد كبير من ناخبيهم إلى تحول إسرائيل إلى نوع من الثيوقراطية الإثنية القومية، يديرها مجلس قضائي وتشريعي يهودي ومتطرفون دينيون يمينيون، لا تختلف عن الدولة الثيوقراطية الإيرانية إلا في كونها نسخة يهودية منها. لقد أنتجت التغيرات الديموغرافية والاجتماعية السياسية في إسرائيل بما في ذلك الزيادة السريعة في عدد السكان اليهود المتشددين والميل نحو اليمين بين الشباب اليهود الإسرائيليين والتراجع في عدد اليهود الإسرائيليين الذين يعدون أنفسهم علمانيين، مجموعة سياسية أكثر تديناً تنظر إلى استمرار وجود إسرائيل باعتباره جزءاً من صراع غير قابل للتسوية بين اليهودية والإسلام.
ومن بين الساسة اليهود المتشددين القوميين الذين يدعون صراحة إلى دولة يلعب فيها الدين دوراً أكثر أهمية بتسلئيل سموتريتش وإيتامار بن غفير وآفي ماعوز، وهم جميعاً لاعبون رئيسون في حكومة نتنياهو الائتلافية. وهم يمثلون شريحة جديدة نسبياً ولكن متزايدة النفوذ من الحركة الصهيونية الدينية المعروفة باسم “الحردال” [فرع نخبوي في الصهيونية المتدينة يتبنى عادات يهودية متشددة]، التي تعتقد أن الله وعد اليهود بأرض إسرائيل التوراتية بأكملها وترفض الثقافة والقيم الغربية، وتعارض بصورة أساس المعايير المقبولة في الليبرالية الإسرائيلية مثل حقوق مجتمع الميم وبعض الفصل بين الكنيس [المؤسسة الدينية] والدولة والمساواة بين الجنسين. وحالياً، تشغل الشخصيات المرتبطة بالحردال مناصب وزارية في الحكومة الإسرائيلية، وتحتل مناصب مؤثرة في الكنيست، ومواقع قيادية بارزة في المدارس الدينية والأكاديميات التحضيرية العسكرية المعروفة باسم “مخينوت” mechinot. وتشير الاتجاهات السياسية والديموغرافية إلى أن اليمين المتطرف في إسرائيل سيظل مؤثراً انتخابياً، لا بل مهيمناً في المستقبل المنظور.
لكن عدداً من الإسرائيليين الأقل تديناً بدأوا أيضاً في تبني هذه الأيديولوجية القومية العرقية المتطرفة على نحو متزايد. ومنذ هجمات “السابع من أكتوبر” ازداد اليمين الإسرائيلي تطرفاً. بالنسبة إليهم وإلى كثيرين آخرين في إسرائيل أثبتت مذبحة “حماس” أنه لا يمكن التوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين أو مؤيديهم. ويرى هؤلاء المحافظون أن إسرائيل تعيش في حال حرب أبدية السلام فيها فكرة غير قابلة للتصديق، وعلى حد تعبير المؤرخ الإسرائيلي ديفيد أوشانا هي دولة أشبه بـ”سبارتا معتمرة القلنسوة اليهودية” [أي مكان يعيش في حالة جهوزية عسكرية دائمة].
وقد يتحول هذا الموقف إلى توافق واسع بين اليهود الإسرائيليين مما يؤدي إلى ظهور إسرائيل مستبدة وغير ليبرالية بالكامل، إذ تسفر الحرب في غزة عن الدمار التام للمعايير والمؤسسات الديمقراطية التي أضعفها نتنياهو وحلفاؤه. لقد وفرت الحرب بالفعل للحكومة ذريعة لتقييد الحريات المدنية، على سبيل المثال دعمت لجنة الأمن القومي في الكنيست أخيراً تشريعاً يخول الشرطة إجراء عمليات تفتيش من دون أوامر قضائية. وبطريقة موازية ازداد العنف الذي ترعاه الدولة ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، وأصبح ينظر إلى نشطاء السلام الإسرائيليين بصورة متزايدة على أنهم خونة. إن إسرائيل التي يهيمن عليها اليمين المتطرف ستصبح أكثر استبداداً، مع تقييد الحريات المدنية، وبخاصة الحقوق الجنسانية. وسوف تؤثر الدولة بصورة ضارة في التعليم العام مع استبدال الفهم المدني الواسع للديمقراطية الإسرائيلية بفهم قومي ضيق وغير ليبرالي.
واستكمالاً، ستصبح إسرائيل غير الليبرالية أيضاً دولة منبوذة وقد أصبحت بالفعل معزولة على نحو متزايد على المستوى الدولي، وتسعى منظمات دولية كثيرة إلى اتخاذ تدابير قانونية ودبلوماسية عقابية ضدها. في الواقع، إن قضية الإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية ورأيها الأخير في شأن عدم شرعية الاحتلال ومذكرات الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، وعدداً كبيراً من الادعاءات ذات الصدقية بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات لحقوق الإنسان وجهت ضربة قوية لمكانة إسرائيل العالمية. وحتى مع دعم الحلفاء الرئيسين فإن التأثير التراكمي للرأي العام السلبي والتحديات القانونية والتوبيخ الدبلوماسي من شأنها أن تعمل على تهميش إسرائيل بصورة متزايدة على الساحة العالمية.
سوف تظل إسرائيل غير الليبرالية تتلقى الدعم الاقتصادي من عدد قليل من البلدان من بينها الولايات المتحدة، ولكنها ستكون معزولة سياسياً ودبلوماسياً عن جزء كبير من المجتمع الدولي بما في ذلك معظم دول مجموعة السبع. وسوف تتوقف هذه البلدان عن التنسيق مع تل أبيب في المسائل الأمنية، وعن الحفاظ على اتفاقات تجارية معها وستمتنع عن شراء الأسلحة الإسرائيلية الصنع. ومن المرجح أن ينتهي الأمر بإسرائيل إلى الاعتماد على الولايات المتحدة بصورة كاملة مما يجعلها تتأثر في تحولات المشهد السياسي الأميركي خلال وقت يتزايد فيه عدد الأميركيين الذين يعترضون على دعم بلادهم غير المشروط للدولة اليهودية.
إذاً، فالعقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع في إسرائيل مهدد حالياً بالانهيار. وإذا تمكن نتنياهو وحلفاؤه من تحقيق أهدافهم فإن الديمقراطية الإسرائيلية ستصبح مجرد شكليات فارغة وممارسات إجرائية، مع تآكل سريع للضوابط والتوازنات الليبرالية التقليدية. وهذا من شأنه أن يضع البلاد على مسار محفوف بالأخطار قد يؤدي إلى هرب رؤوس الأموال وهجرة الأدمغة، وتعميق التوترات الداخلية.
إسرائيل المتصدعة
ومع تزايد الاستبداد في إسرائيل، فإن هذا التحول غير الليبرالي لن يخفي الانقسامات المتنامية داخل المجتمع الإسرائيلي. وستفقد الدولة بصورة متزايدة احتكارها للاستخدام المشروع للقوة وقد تتفاقم الانقسامات إلى حد اندلاع حرب أهلية. والواقع أن المواجهة العنيفة الأخيرة في مركز احتجاز “سدي تيمان” حيث اعتقل جنود يشتبه في اعتدائهم على أحد إرهابيي “حماس” ليخضعوا للاستجواب قد تكون نذيراً لما هو مقبل. فقد هاجم جنود احتياطون ومدنيون بل وحتى نائب برلماني من أقصى اليمين الشرطة العسكرية داخل المركز المذكور، غاضبين من احتجاز أفراد عسكريين بسبب إساءة معاملتهم سجيناً فلسطينياً. وفي المستقبل، قد تصبح مثل هذه الحوادث أكثر شيوعاً. ومن بين المؤشرات الأخرى على التشرذم الجاري بالفعل داخل جهاز الأمن الإسرائيلي نمو ميليشيات المستوطنين، أي الجماعات التي لم تكن الدولة راغبة في قمعها على رغم اعتداءاتها العنيفة على الفلسطينيين، وحقيقة أن الجنود أبلغوا متطوعين لخدمة العدالة [جماعات تأخذ القانون بيدها وتتصرف خارج السلطة القانونية لفرض نسختها الخاصة من العدالة] بوقف تسليم المساعدات الإنسانية إلى غزة بصورة غير قانونية.
وقد تنهار سيادة القانون في إسرائيل لكن البلاد ستظل دولة اقتصادية فعالة إلى حد ما، وسوف تستمر في حماية الملكية الخاصة والحفاظ على الجامعات والمستشفيات ونوع من النظام التعليمي العام، وسوف يظل اقتصاد التكنولوجيا الفائقة الذي يشكل جوهر هوية إسرائيل باعتبارها “دولة ناشئة” عاملاً لفترة من الوقت، بيد أن الدولة ستعمل من دون سيادة القانون بما يتماشى مع بعض المظاهر الديمقراطية التي يفضلها اليمين المتطرف. وسوف يتحول الأمن إلى نظام مجزأ بلا إشراف ولا قيادة موحدة، مع تقويض السيطرة على الاستخدام المشروع للقوة. وسوف تزعم مجموعات مختلفة الحق في ممارسة العنف بما في ذلك ميليشيات المستوطنين المسلحين، والمدنيين الذين يتحالفون مع أقصى اليمين وقوات الأمن الموجودة.
إن هذا المستقبل ليس من سيناريوهات الخيال العلمي الديستوبي. في الواقع، أدى الصراع في غزة إلى زيادة الانقسامات السياسية داخل البلاد وبخاصة بين الجماعات اليمينية التي تدعو إلى اتخاذ تدابير عسكرية وأمنية متطرفة تتجاهل تماماً القانون الإنساني الدولي، وبين الجماعات الأخرى التي تدعو إلى اتباع نهج أكثر تصالحية وتوافقية تجاه الفلسطينيين. وفي الوقت نفسه، أدت الحرب إلى تعميق الانقسامات بين اليهود العلمانيين والمتدينين. ويذكر أن الجدل الرئيس داخل إسرائيل في شأن ما إذا كان ينبغي على اليهود المتشددين دينياً أن يكونوا ملزمين بالخدمة العسكرية على غرار جميع الإسرائيليين الآخرين أسهم في تأجيج هذه التوترات، فقد قضت المحكمة العليا الإسرائيلية أخيراً بأن الحكومة لا تستطيع تجنب تجنيد اليهود المتشددين ويجب عليها الامتناع عن تمويل المدارس الدينية التي لا يلتحق طلابها بالخدمة العسكرية وفقاً لما تقتضيه القوانين القائمة، وهو القرار الذي حفز محاولات إعادة إحياء تشريعات الإصلاح القضائي.
هذا التقويض للسلطة المركزية التي تتمتع بها الدولة قد ينذر بتفكك أكثر إثارة للصدمة. فإلى جانب إدارة الاقتصاد لن تتمكن الحكومة (بل ولن تكون راغبة) في الوفاء بأي من مسؤولياتها السياسية التقليدية الأخرى، بما في ذلك توفير الأمن ونظام تشريعي مستقر يضمن المساءلة، ولا شك في أن وجود مجموعات أمنية متنافسة وإشراف برلماني متراخ سيضعف الردع الأمني الشامل الإسرائيلي ويقوض أي نظام متماسك للحكم في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية. وإسرائيل التي تكون في هذه الحال قد تكون على خلاف مع نفسها. فقد تتحول إلى نوع من الكيان المبلقن [نسبة إلى منطقة البلقان والمقصود مقسم إلى أجزاء] حيث تعمل الفصائل اليمينية الدينية والقومية على بناء دولتها بحكم الأمر الواقع، على الأرجح في مستوطنات الضفة الغربية. أو قد تشهد تمرداً للمتطرفين الدينيين والقوميين المتطرفين من شأنه أن يقسم إسرائيل في حرب أهلية عنيفة بين اليمين الديني المسلح وأجهزة الدولة القائمة. وحتى في غياب الحرب الأهلية، فإن هذا الوضع سيظل غير مستقر وسوف ينهار الاقتصاد مما يجعل إسرائيل دولة فاشلة.
طريق للخروج من الفوضى
إن وطأة الأحداث والقوى السياسية السائدة يدفع إسرائيل في هذه الاتجاهات الخطرة. فهي تتحول إلى دولة لا تمت بصلة لرؤية مؤسسيها ولكن لا داعي لأن تمضي في هذا الطريق. ومن أجل تجنب هذه النتائج، يتعين على إسرائيل أن تستعيد الاستقرار السياسي في البلاد من خلال دعم أسسها الدستورية وتعزيز سيادة القانون، والسعي بصورة أكثر فاعلية إلى التوصل إلى تسوية دائمة للصراع مع الفلسطينيين ودمج نفسها بصورة أفضل داخل المنطقة.
يتعين على إسرائيل أن تنشئ لجنة دستورية مستقلة لمعالجة عدم الاستقرار السياسي في البلاد وتوفير أساس متين لمستقبل الديمقراطية الإسرائيلية. وسوف تحتاج اللجنة إلى صياغة دستور لن يكون من السهل تغييره مثل “القوانين الأساس” أي القوانين الـ14 التي تشكل في مجموعها أقرب ما تملكه إسرائيل إلى الدستور الرسمي، وسوف يتعين عليها أن تلتزم القيم الإنسانية الأصلية التي تأسست عليها الدولة. وقد أنشئت مثل هذه اللجنة في الماضي وسوف يتطلب إحياؤها تعاوناً كبيراً بين ما تبقى من الوسط السياسي واليسار السياسي والأحزاب السياسية العربية الإسرائيلية. ومن المثير للاهتمام أن وزير الدفاع الإسرائيلي الحالي يوآف غالانت دعا إلى أن يكون “إعلان قيام دولة إسرائيل” هو النص الأول في مثل هذه الوثيقة الدستورية.
علاوة على ذلك، يتعين على إسرائيل أن تعمل على فرض سيادة القانون بصورة أفضل سواء داخل إسرائيل أو في الضفة الغربية، وهذا يعني أن الدولة لا يمكنها التسامح بعد الآن مع العنف الذي يمارسه المستوطنون ضد الفلسطينيين. فضلاً عن ذلك لا بد من إنهاء الاحتلال العسكري للفلسطينيين ولا بد من الشروع في عملية سلام ملزمة تتضمن مفاوضين محايدين من طرف ثالث. وفي أقل تقدير يتعين على تل أبيب أن تلتزم معالجة مسألة مناقشة الرأي القانوني الأخير الصادر عن محكمة العدل الدولية في شأن احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية.
ومن أجل ضمان الاستقرار الداخلي بصورة أفضل تحتاج إسرائيل إلى إضفاء الشرعية على مكانتها في الشرق الأوسط، والاستفادة من المكاسب التي حققتها في اتفاقات أبراهام وتعزيز العلاقات مع السعودية وغيرها من دولة المنطقة. وفي سبيل حماية علاقاتها مع دول مجموعة السبع والمجتمع الدولي الأوسع يتعين على إسرائيل أن تؤكد مجدداً التزامها بالقانون الدولي، بما في ذلك من خلال جعل العمليات العسكرية أكثر شفافية وضمان المساءلة عن أية انتهاكات للقانون الدولي، والتصديق على نظام روما الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية عام 2002.
وقد تواجه الخطوات الموضحة أعلاه مقاومة شديدة في إسرائيل، بيد أن هذه المعارضة لن تؤدي إلا إلى تأكيد مخاوفنا في شأن مستقبل إسرائيل. ولا شك في أن إسرائيل تواجه أعداء حقيقيين وخطرين مثل “حماس” مسؤولين عن انتهاكات لحقوق الإنسان ولكن المسار الذي تسلكه لا يؤدي إلى النجاح، وإذا استمرت في مسارها الحالي فقد تتحول إلى دولة من شأنها أن تدمر الرؤية الإنسانية اليهودية التي ألهمت عدداً من مؤسسيها وأنصارها في مختلف أنحاء العالم. لكن، لم يفت الأوان بعد لكي تنقذ إسرائيل نفسها من هلاكها وتجد طريقاً آخر للمضي قدماً.
إيلان ز. بارون هو المتخصص في مجال السياسة الدولية والنظرية السياسية والمدير المشارك في مركز “دراسة الثقافة والمجتمع والسياسة اليهودية” في جامعة دورهام.
إيلاي ز. سالتزمان هو أستاذ مشارك في الدراسات الإسرائيلية ومدير معهد “جوزيف وألما غيلدنهورن للدراسات الإسرائيلية” في جامعة ميريلاند.
مترجم عن “فورين أفيرز”، الـ12 من أغسطس (آب) 2024
المصدر: اندبندنت عربية