في عام 1976، وبعد مجزرة تل الزعتر التي تمت تحت حماية وإشراف قوات حافظ الأسد، كتب الراحل محمود درويش قصيدته الملحمية “أحمد العربي” ساخرًا من العنتريات العروبية الفارغة التي اكتفى الحكام العرب بتردادها يومئذٍ: “له انحناءات الخريف، له وصايا البرتقال، له القصائد في النزيف، له تجاعيد الجبال، له الهتاف، له الزفاف، له المجلات الملونة، المراثي المطمئنة، ملصقات الحائط، العلم، التقدّم، فرقة الإنشاد، مرسوم الحداد، وكل شيء كل شيء كل شيء”.
واليوم، ونحن نعيش عقودًا تتسم بمنتهى الذل واستبداد المجازر في سوريا وغزة وغيرها من حواضر العالم العربي، تتكرر الملهاة والمأساة ولكن بصفاقة ووقاحة أشد. لقد سلبوا منا عبر عشرات السنين القدرة على الفعل والقدرة على المقاومة بابتكار أنساق لغوية تحمل أفكارًا تصلح لصالونات الأدب، وتنافس في تأكيد انسلاخ البشر عن القيم الحقيقية للعدالة والمناصرة.
واستعاضوا عن ذلك بشعارات وتنديدات وحتى تظاهرات أُمكن تعويمها وتفتيتها عبر سنوات من الجهد المنظم، الذي أوصلنا اليوم إلى ما نحن عليه. صار الحديث عن الحق المشروع في الدفاع عن النفس إرهابًا، وأصبح عتاة القتلة ومصنعو ومصدرو الحروب والأسلحة هم من يوزعون بطاقات حسن السلوك ويعزلون من يعارضهم بتهمة مناصرة الإرهاب والترويج له. بتنا كنمرٍ ورقي منزوع المخالب ومدجن، نرفع شعارات مفرغة من محتواها، ونبادر بأفعال ترضي جبننا وغرورنا ونحن نعلم يقينًا أنها لا تفضي إلى شيء ذي بال ولا تحل بعضًا من أزماتنا التي نعيشها.
لقد كان وقوف معظم القوى الإقليمية والعربية في مواجهة تطلع السوريين إلى الحرية والحكم الرشيد مشابهاً تمامًا لموقفها اليوم في صف أنظمة القتلة.
عام مضى والقتل اليومي على مدار الساعات يطحن رحاه شعبًا كان يحلم بأن ينعم بالأمان وأن ينال حقه الطبيعي في الحياة، شأنه شأن باقي البشر. والعالم بين داعمٍ للقتلة ومعززٍ من قدرتهم على استمرار المجازر التي فاقت حدود الوصف حتى لم يعد الناظر إليها يجد ما يناسبها من كلمات لنقلها عبر وسائل الإعلام. كما مضت ثلاثة عشر سنة والمقتلة السورية ما تزال تُسقى بدماء ضحاياها، والعالم يدين ويندد ويبدي مزيدًا من القلق.
لقد أقنعونا أو اقتنعنا أن التنديد والإدانة والشجب وحتى الدعاء يكفي لنرضي أنفسنا أننا نقف مع الحق المهدور والمنتهك. وبتنا نكرر لغة اختاروها لنا وأقنعونا بها ودجنوا أطفالنا على تكرارها. إنها لغة المستبدين التي تؤطر العالم وتعيد تشكيله على نحو يملكه الأقوى والأقدر على الاستمرار في ارتكاب المجزرة. لقد كان وقوف معظم القوى الإقليمية والعربية في مواجهة تطلع السوريين إلى الحرية والحكم الرشيد مشابهاً تمامًا لموقفها اليوم في صف أنظمة القتلة، بدءًا من البيت الأبيض مرورًا بأقوى الأنظمة الأوروبية، تتبعها أنظمة عربية وإقليمية لم تتوقف جميعها عن دعم إسرائيل سرًا وجهراً، بينما تتزايد أعداد الضحايا من الأطفال والنساء والشيوخ على نحو غير مسبوق.
هل من سبيل يجترحه عاقل يمكن له أن يخرجنا من هذه الحلقة المعيبة ويكسر عبثيتها المدمرة، أم أننا أمام عقدة غورديه في نسختها المعاصرة؟
لو توقفنا لساعات وراجعنا تاريخ الإجرام المنظم منذ قرن من الزمن وتتبعنا المجازر الموثقة التي لن نجد لها تبريرًا واحدًا سوى غطرسة القوة وعجز الضحية، من معسكرات الاعتقال النازية والإسبانية ومجازر الكونغو ورواندا انتهاءً بمجازر نظام الأسد في سوريا، فلن نجد صمتًا واستباحة مبالغا فيهما كما يحصل اليوم مع فلسطينيي غزة.
حتى رجال الدين، الذين يعوّل عليهم في مثل هذه الظروف، لم ينجُ منهم إلا النادر القليل، وأقنعوا الشطر الأكبر من متابعيهم ودوائر تأثيرهم أن بعضًا من الدعاء وربما التبرع بحفنة من المال يكفي لتثبت لنفسك أنك من مناصري الحق وتنال صكوك الغفران. هذا هراء وتسخيف للمنطق والقيم التي من شأنها أن تحمي الضعفاء وتصون الحضارة من تغول مغول العصر، بدءًا من البيت الأبيض وانتهاءً بصغار أعوانهم الداعمين.
هل من سبيل يجترحه عاقل يمكن له أن يخرجنا من هذه الحلقة المعيبة ويكسر عبثيتها المدمرة، أم أننا أمام عقدة غورديه في نسختها المعاصرة؟ تحكي الأسطورة زمن الإسكندر المقدوني عن عقدة كانت في معبد غورديون، وقد تنبأت العرافة يومها أن من يحل تلك العقدة المستعصية سيحكم آسيا. ولما قدم الإسكندر، عاين تلك العقدة وعلم استحالة حلها بالطريقة التقليدية، فعمد إلى العقدة وطوح بها في الهواء ثم شطرها بسيفه وحل استعصاءها وحكم آسيا. وهكذا تجري الأمور؛ فالاستعصاءات المعقدة تحتاج لحلول جريئة وربما مجنونة. وربما يدفع هذا التردي البائس شعوبًا لم يعد لديها ما يغريها بالبقاء وقبول هذه الحياة المهينة، لينفجر ربيع عربي جديد. أخشى ما نخشاه أن تستحيل هذه الاستعصاءات إلى كوارث إنسانية عبر القتل المستمر والإبادات الجماعية، ونمضي تاركين خلفنا عارًا وذلاً سيجلل مستقبلنا “أننا كنا محض صامتين ورافعي شعارات”.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا