خالد بريش
منذ السابع من تشرين الاول/ “أكتوبر” (الماضي) الذي أصبح تاريخا مِفْصليًّا في حياة أمَّتنا، وجبَّ ما قبله من التواريخ المُتعلقة في الصراع العربي الصُّهْيوني، وكُتب حوله حتى اليوم أطنانٌ من أوراق الصُّحُف والمجلات، وعُرضت مئات الآلاف من ساعات البثّ “التلفزيوني” عبر العالم، وصدر بخصوصه عشرات الكتب، والمعركة في أوجها لم تنته بعد.. وكلها تُحلل، وتطرح السُّؤال الأحْجِية: كيف حصل ذلك…؟! وما هي مآلاته…؟! ولماذا صمدت المقاومة في غزة هذا الصمود الأسطوري حتى اليوم…؟!
الكلّ يحاول أن يجد إجابةً شافيةً، والإجابة فقط عند الشعب الفلسطيني الذي يتمتع بعقيدة الانتصار، على الرغم مما يعانيه منذ عام 1948، إن كان على أرض فلسطين، أم في مخيمات الشتات.. إن كان على حواجز الاحتلال حيث يُذَّل وتُهان كرامته، أو في مطارات العالم حيث ينظر إليه كقادم من عالم الفضاء، ويعامل معاملةً خاصَّةً تفتيشًا وجلدًا بنظراتٍ الريبة والشك والخوف.. الفلسطيني المُحاصر في غزة منذ عام 2006، وذاك المضطهد في الضفة منذ النكبة في لقمة عيشه، وبتصاريح عملٍ وسفرٍ يُذلونه من أجل الحصول عليها، وتُمرَّر له بالقطارة نقطة.. نقطة.. الفلسطيني الذي يرى شُذَّاذ الآفاق اللقطاء، القادمين من أصقاع العالم ومجاهله، باسم الترَّهات الصُّهْيونية هو وحده الذي يملك الإجابة، ويعرف كيف، ولماذا…؟
العالم أجمع اليوم يرى ويشاهد بأمِّ عينيه الجرائم البشعة، لكنه يتحرك بحياءٍ مطالبًا بوقف لإطلاق النار، وبإدخال المساعدات الإنسانية، وخوفٌ يعتريه من تطلق عليه تلك تهمة «العداء للساميَّة »، طارحا على نفسه سؤالًا كبيرا: متى سيشبع (رئيس حكومة العدوّ الإرهابي الصهيوني بنيامين) نتنياهو من دماء الفلسطينيين، ويوقف هذه المجازر بحق الفلسطينييـن…؟
الإجابة عند نتنياهو فقط، الذي أصبح كالمُقامر الذي خسر كثيرًا، ومع ذلك يتابع اللعب، وأمل يُساوره بأنه سيربح، ويُعوِّض خسارته، فيبيع ساعة يده، ويرهن بعض أملاكه، وهو في مكانه على طاولة القمار يتابع اللعب. ليستسلم في آخر الليل، ويلقي بسلاحه، بعدما خسر كل ما يملك، مُعزِّيًا نفسه مُردِّدًا « للأسف، لم يكن الحظ إلى جانبي في هذه الليلة ». هكذا هم الساسة، مُقامرون في طبعهم بنسبةٍ وتناسبٍ، يعرفون أنهم سوف يخسرون من الخطوات الأولى.. لكنهم يتابعون اللعب بمصائر أوطانهم وشعوبهم…!
إن نتنياهو اليوم، يشعر في دواخله بالخطيئة والخِزْي والعار، وبجرح عميقٍ، وهو الذي يعتبر نفسه ذكيًّا، وبمُسْتطاعه أن يتلاعب بقادة العالم، وإقناعهم بأكاذيبه وتلفيقاته.. ولكن المقاومة في غزة التي يُطبق عليها بحصاره استطاعت أن تضحك عليه، وضحكت أيضًا على كل أجهزته التجسُّسِيَّة طيلة سنوات، استعدت خلالها وتجهَّزت، وأعدَّت العدَّة لطوفانٍ قلب كل الموازين، وفاجأ كل العالم، وكان الزلزال الصاعق، الذي لن يستفيقوا منه وكل داعميهم لسنواتٍ.. وكل ما يشاع من أنهم كانوا يعرفون.. وأنهم كانوا، وكانوا.. هو ادعاءات الذُّباب الإلكتروني، ولكي يبرهنوا للبلهاء في بلادنا بأن أجهزتهم قوية، وتحيط علمًا بكل ما يحدث.. ولو كانوا يعلمون حقًا، لقاموا بضربةٍ استباقيةٍ كما حصل مع “حزب الله” في جنوب لبنان منذ أسبوعين، ولكانوا استطاعوا إنقاذ أسراهم التي يُساعدهم في البحث عنها دولٌ كبرى، لا يشك أحدٌ في قدراتها الاستخباراتية والتجسّسية، ولكن المقاومة هذه المرة، حسبت كل الحسابات، التي قد تخطر على بالهم، والتي لا تخطر…!
إن نتنياهو، اليوم، بلا أدنى شكٍّ، في حالة رعبٍ مما ينتظره من محاكمات إسرائيلية ودولية، ويتصور نفسه أحيانًا وهو يُساق مُكبَّلًا إلى السجن، وقد سقط من عليائه بعدما ظن أنه بنى لإسرائيل مجدًا لم يبنه حتى الملك سليمان.. ولكن الذي يرعبه حقا، هو صورة الأسرى المُحرَّرين الخارجين من غياهب السجون بعد سنوات من التعذيب والقهر والاضطهاد، وهم يرفعون شارات النصر. فيذهب بفكره بعيدا متسائلا: هل بينهم «سِنْوارٌ » آخر يا ترى…!؟ وينغص عيشه أنه إلى الآن، لم يحقق شيئًا من كل الأهداف التي وضعها. وها هو ذا جيشه يعد العدَّة للخروج من غزة، مُنكسًا أعلامه، مهزومًا، والفرح على وجوه أطفال غزة، وأصابعهم ترسم شارات النصر..
ولهذا كان على نتنياهو بعد زلزال الطوفان، ولكي يمحو العار الذي بدأ يُلاحقه، ويلاحق كل أجهزته الاستخباراتية وجيشه الأقوى في المنطقة، الذي يُحْسب له ألف حساب عالميًّا، أن يقدم على الطاولة ورقةً تُنْسي “الإسرائيليين”، هذا العار، وما أصابهم من خوفٍ وهلعٍ يدك مضاجعهم ويلاحقهم، وينسيهم بالتالي حزنهم على أبنائهم.. وأن تكون ورقته بحجم الكارثة التي ضربت المجتمع الصُّهْيوني، بعدما داست المقاومة بأقدامها على أسطورة «الجيش الذي لا يُقهر»، وحطمت استراتيجياته الدفاعية القائمة على نظرية «الردع»…!
لقد نصح الغرب العارف ببواطن الأمور نتنياهو من أنه لن يستطيع هزيمة المقاومة في غزة، خصوصا إذا ما انتفضت معها الضفة الغربية، لكنه لم يأبه لكل نصائحهم، وغاص في أوحال غزة المتحركة نحو الأعمق، باحثًا عن انتصار.. وفي اعتقاده أن الحل يكمن تحقيق مشروعه القديم الجديد، الذي أفصح عنه في كتابه «مكان بين الأمم»، ويتلخص في احتلال كامل أراضي فلسطين التاريخية، وجعل الفلسطينيين المقيمين على أرضهم وفي وطنهم في حجيم مُقيم، ومُواطنين من الدرجة العاشرة.. أو بالأحرى أن يكونوا عبيدا، كما كان اليهود خلال «السبي البابلي».. ويكون بذلك قد دخل التاريخ، وقدم لشعبه ما لم يقدمه أيُّ زعيم صهيوني آخر، ويمحو بالتالي عاره، خصوصًا إذا ما تبع ذلك فوز ترامب بالانتخابات الأمريكية، وجلس على كرسي الآلهة مجددًا.. والذي كما وَهَبَه الجولان من قبل، ونقل سفارة بلاده إلى القدس، فإنه لن يبخل عليه بكل فلسطين، طالما أن الآخر لا يدفع من جيبه..
طبعا، نتنياهو يعرف تماما وليس بالغبي، أنه سوف يُغْضب بذلك كثيرين حول العالم، وإلى حدٍّ ما جيرانه المُطبعين، ولكن العالم سوف ينسى، كما نسي نكبة 1948 ومأساة 1967، ويتعود بالتالي على الواقع الجديد الذي فرضه بالمجازر والدمار المريع، طالما أنه مدعوم من الدول الاستعمارية الكبرى، والفيتو والسلاح الأمريكي.. وأنه آن الأوان للخلاص من الفلسطينيين، ودفعهم إلى الهجرة الطوعية، وهذه المرة لن يكون هناك لاجئين، لأن منظمة “الأونروا” انتهى مفعولها، والأمريكان جاهزون لإجبار الأمم المتحدة على إصدار قرار بإقفال أبوابها نهائيًا، وهو بالنسبة لهم من أهون الأمور، وتوفير لبعض المال على خزينتهم.. ومن يعترض اليوم فسوف يسكت غدا، أو يسكتوه، وربما إلى الأبد…
ليس هذا من باب التشاؤم مطلقا، بل هناك باب أمل كبير، لكنه مرهونٌ بأمرين:
الأول: تحركات الطلاب في الغرب، وما أدراك ما الطلاب.. وعودتهم إلى الاحتجاجات بقوةٍ مرة أخرى، وإلى جانبهم منظمات المجتمع المدني الغربية، ومواطنون ما زال للإنسانية والعدالة والحقوق مكانٌ في قلوبهم.. وهم بذلك سوف يضغطون على دولهم، لكي تغير مواقفها، وتنزاح ولو قليلا إلى الحق الفلسطيني، مما قد يُجْبر الكيان على فَرْمَلة مُخططاته…
الثاني: أن يستيقظ العرب من سُباتهم، وينتقلوا من موقف المتفرج المُخْزي، الذي يبدعون فيه إلى أبعد الحدود، إلى موقف الفاعل الحقيقي والمؤثر والداعم.. لأن مشكلة الفلسطينيين اليوم، ليست في عدو مجرم ذهب في إجرامه إلى مرحلة لا يمكن وصفها، وغرب استعماري منافق متآمر.. بل مشكلتهم في محيطهم العربي الصامت المتفرج، الذي يبلغ تعداده نصف مليار كائن، لكنه لم يستطع إدخال علبة حليب واحدة لأطفال غزة…!
نعم، آن للعرب الأشاوس، وبالأخص المُطبعين منهم أن يُدْركوا، أن شهية الصهاينة في الاستيلاء على أراضيهم بلا حدود، وأن شعارهم التاريخي «من الفرات إلى النيل»، تدخل بلادهم في نطاقه، وأنهم جزءٌ لا يتجزَّأ من هذا الحلم الصُّهْيوني.. وأن الآلهة أمريكا سوف تساعدهم في تحقيق أطماعهم هذه، طالما أن جماعتنا نائمون ولا يخالفون لها أمرًا.. وأنه لو تم للصهاينة الخلاص من الفلسطينيين لا سمح الله.. فسيكون الدور عليهم بلا أدنى شك. على مبدأ «أكلت يوم أكل الثور الأبيض»…؟! وعندها لن يدافع عنهم أحد، ويقف في وجه «شعب الله المختار» لا الصين، ولا الروس، ولا الجار الجنب، ولا الصاحب بالجنب…!
* كاتب وباحث لبناني مقيم في باريس
المصدر: “المدارنت”..