عاطف أبو سيف
لا شيء بالنسبة لنا يبدو أكثر من إسرائيل و”أمن إسرائيل”، في كلّ مرّة نراقب فيها السباق الرئاسي في الولايات المتّحدة، ومردّ ذلك بالطبع قوّة (ونفوذ) اللوبي الصهيوني وداعمي إسرائيل من اليهود وغيرهم في واشنطن ومؤسّساتها، وهو ما ينسحب على المؤسّسات الدولية الكبرى ومواقفها من الصراع. والمُؤكّد أنّ يهود أميركا كانوا دائماً قوّةَ التأثير الأكثر أهمّية لحماية مصالح إسرائيل، ولتأمين مواقف الإدارة الأميركية الداعمة لها، ديمقراطية كانت أم جمهورية. ولكن يمكن ملاحظة تحوّلات مهمّة تحدث في هذا الصراع، فقضية الحرب على غزّة، والموقف منها، زادا من قوّة تأثير الصراع في توجّهات الناخبين الأميركيين بشكل عام، خاصّةً مع مرور سنة فشلت فيها إدارة بايدن في فرض وقف إطلاق النار على إسرائيل، أو ربّما وجب القول رفضت إسرائيل فيها تدخّلات المجتمع الدولي كلّها لوقف إطلاق النار. ولكن الأهم في هذا ربّما التحوّلات في مواقف يهود أميركا، وهي التحوّلات التي سيكون لها أثر أبعد من السباق في السادس من نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، وستنعكس بشكل قوي في توجّهات الإدارة الجديدة بخصوص الصراع، حتّى لو فاز دونالد ترامب، وهذا وارد ولا يمكن حذفه من أيّ حسابات.
النقاش هنا أنّ ثمّة تحوّلات مهمّة في مواقف يهود أميركا، لا تقع بالطبع ضدّ مصلحة إسرائيل بشكل كامل، لكنّها لا تضع إسرائيل أولويةً بالنسبة لهؤلاء، الذين شكّلوا دائماً السياج الحامي لمصالحها في أروقة واشنطن ومؤسّساتها الوطنية، والدولية حتّى. وبقدر ما هو مفاجئ إلّا أنّه نتيجة تراكمٍ أبعد ربّما من “لحظة غزّة” التي نعيشها. الملفت في هذا أنّ استطلاعاً للرأي أجراه في بداية شهر سبتمبر/ أيلول الجاري المجلسُ الديمقراطي الأميركي، سجّل أنّ إسرائيل لم تعد تُشكّل أولويةً لليهود في أميركا، فهي لم تعد تحتلّ رأس قائمة الأولويات، بل إنّها بالنسبة للأغلبية ليست ضمن هذه الأولويات. وملفت بالنسبة للمراقبين والنشطاء اليهود في الولايات المتّحدة أنّ هذا التراجع في مكانة إسرائيل (بالنسبة لأقوى وجود يهودي خارج إسرائيل وأكثره تأثيراً في مصيرها وعلاقتها مع القوّة الأكبر في العالم)، يحدث في الوقت الذي تخوض فيه إسرائيل حرباً، بالنسبة للبعض مصيرية في غزّة، وتواجه تهديداتٍ جِدّيةً من إيران ولبنان، وخاصّةً بعدما شكله السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، من تهديد قد يقول بعضهم إنّه وجودي لفكرة استمرارها، ليس في احتلال الأراضي الفلسطينية الذي يعارضه بعض يهود أميركا، بل لفكرة وجود الدولة ذاتها. وفيما أشارت استطلاعات سابقة للرأي إلى وجود إسرائيل (في بعض الحالات) في المرتبة الثانية بعد خيارات أخرى مثل الديمقراطية، إلّا أنّ هذا لم يكن الحال حين تكون إسرائيل في حالة حرب، وهذا السبب الرئيس الذي يجعل من هذا الاستطلاع “مهمّاً” بالنسبة للقائمين عليه، ويدقّ ناقوس الخطر، فبالنسبة للمواطن الأميركي اليهودي، فإنّ بعض القضايا المتعلّقة بحياته في البلاد أيضاً تهمّه كما تهمّه إسرائيل، ولكن أن تتراجع أو تختفي إسرائيل من قائمة الأولويات بشكل كامل بالنسبة لبعضهم، فهذا مصدر قلق حقيقي من وجهة نظر داعمي إسرائيل واللوبي الصهيوني في واشنطن، والأهم أنّه يعكس تحوّلاتٍ معقولةً في وجهة نظر يهود أميركا تجاه إسرائيل.
تظهر استطلاعات الرأي أنّ إسرائيل تخسر في حربها على غزّة كثيراً من دعم معنوي وماديّ يُوفّره لها يهود أميركا
في الاستطلاع المذكور، اعتبر 9% من اليهود المستطلعين فقط إسرائيل واحدة من أهم قضيتَين في سلّم أهتماماتهم. وبتقسيم العيّنة (9%) هذه نرى أنّ الكمّ الأكبر منهم من اليهود المتدينين، إذ اعتبر 31% منهم إسرائيل واحدةً من قضيتَين أساسيتَين بالنسبة له، ولكنّ اليهود المتدينين لا يتجاوزون 10% من تعداد يهود أميركا، فيما 8% فقط ممّن يعتبرون أنفسهم غير متدينين، و16% من اليهود المحافظين، و3% من غير المُصنّفين فقط، اعتبروها ضمن أولوياتهم. ولكن هذا يعني أنّ 91% لم يختاروا إسرائيل ضمن أهم قضيتَين في سلّم أولوياتهم واهتماماتهم، وهذا في حدّ ذاته مُؤشّر آخر إلى تحوّلات الرأي العام ليهود أميركا. بالنسبة لهؤلاء، ثمّة قضايا أكثر أهمّيةً تتصدّر قائمةَ الأولويات، وتتمثّل في قضية الديمقراطية، وهي القضية التي تستحوذ عادةً على واحد من أهم خيارَين أو قضيتَين بالنسبة للمواطن الأميركي عامّة، إلى جانب الاقتصاد. بالنسبة ليهود أميركا، فإنّ 44% رأوا في الديمقراطية خيارهم وقضيتهم الأولى، فيما رأى 22% منهم قضية الإجهاض في المرتبة الثانية. ويمكن بالطبع تفهّم كيف تكون الديمقراطية الخيار الأهم بالنسبة لأيّ أقلّيةٍ أو طائفةٍ لأنّها بذلك تحمي نفسها، وتحمي وجودها وحرّيتها، وهذا طبيعي، ودائماً كانت الديمقراطية من القضايا التي اعتبرها يهود أميركا في سلّم أولوياتهم، فهي المدخل الذي يمكّنهم من مواصلة التأثير لحماية مصالح إسرائيل ودعمها. والأمر كان شبيهاً أيضاً في استطلاع جرى عام 2022.
ولافتٌ أنّ إسرائيل ليست في قائمة الأولويات الأساسية، فهي لا تأتي بعد الديمقراطية والإجهاض في الاستطلاع، بل بعد الاقتصاد والتغيّر المناخي والأمن القومي ومعاداة الساميّة والهجرة والرعاية الصحّية، وهذا مربط الفرس هنا. والمُؤكّد أنّ علينا أن نميّز بين تفضيل إسرائيل وبين التعاطف معها أو الاهتمام بها. فأغلبية يهود أميركا يشعرون مع ذلك بأنّهم مرتبطون بإسرائيل بطريقة أو بأخرى. وهذا التميز يفيدنا في فهم توجّهات التصويت اليهودي في أميركا، وعلاقة اليهود بالمُرشّحين المتنافسين على دخول البيت الأبيض، وهو فهم يفيد أكثر في معرفة مستقبل ونتائج الانتخابات، وربمّا مستقبل الحرب. النتيجة الأكثر إثارةً عند قراءة هذا الاستطلاع أنّ إسرائيل لم تعد الأولوية التي تُحدّد توجّهات الناخب اليهودي في الولايات المتّحدة. وبالتالي، فإنّ مقدار الدعم الذي يمكن أن يقدّمه المُرشّح أو الرئيس القادم لإسرائيل لن تكون له علاقة بقوّة الصوت اليهودي. قد يكون هذا مفيداً في توقّع تحوّلات مهمّة قد تقوم بها المرشّحة الديمقراطية كامالا هاريس في الموقف الأميركي من الحرب على غزّة، وهو ما لن يفاجئ أحداً. أيضاً هاريس لن تكون فلسطينيةً، ولن تعادي إسرائيل، فهي تصف نفسها مُؤيّدة لإسرائيل، ناهيك عن أنّ زوجها يهودي. هذا أمر آخر، ولكن المقترح هنا أنّ إسرائيل لن تكون المعيار الذي يُحدّد توجّهات الناخب اليهودي في أميركا، وهذا مصدر قلق بالنسبة لقادة اللوبي الصهيوني في واشنطن كما لدوائر كثيرة في إسرائيل. مرّةً أخرى، في بعض الاستطلاعات السابقة لم تحتلّ إسرائيل رأس قائمة أولويات اليهود في أميركا، لكنّها لم تختفِ بالنسبة للأغلبية من هذه القائمة، كما أنّها لم تكن في حالة حرب تُعرِّض مصيرَها وفق هذه الدوائر للخطر.
لا تأتي إسرائيل بعد الديمقراطية والإجهاض في استطلاع، بل بعد الاقتصاد والتغيّر المناخي والأمن القومي ومعاداة الساميّة والهجرة والرعاية الصحّية
هل ثمّة تحوّلات في مواقف يهود أميركا؟ … يمكن القول بنعم كبيرة، بعد الحرب، خاصّةً مع تعنت نتنياهو في التقدّم باتجاه إنجاز أيّ صفقة تُظهِر صورةَ إسرائيل “الإيجابية” من وجهة نظر هؤلاء، إسرائيل التي تحترم حلفاءها، والتي تلتزم ببعض المعايير التي يرون أنّها غابت في هذه الحرب، خصوصاً مع الصور واللقطات المؤلمة التي تصدر من غزّة، عن الأجساد المُقطَّعة والمُحترِقة والبيوت المُهدَّمة، وهذا كلّه بتسليح وبتمويل دافعي الضرائب في الولايات المتّحدة. وبالتالي، فإنّ إسرائيل تخسر كثيراً في هذه الحرب من رصيد الدعمَين المعنوي والأخلاقي (قبل المادّي)، اللذين يُوفّرهما لها يهود أميركا، ونجحوا في تأمينهما لها عقوداً. هذا هو مصدر القلق الحقيقي الذي يدفع باتجاه هذا التحوّل. وربّما في نقاش أوسع، يمكن التوقّف أمام حقيقة أخرى؛ أنّ إسرائيل لم يعد يراها اليهود في الغرب عامّة دولتهم التي يلجأون إليها عند الخطر، فالحياة فيها صعبة مع هذه الحرب، ومع استمرار الحروب والتهديدات من بعض دول الإقليم، ويجعل منها مكاناً لا يصلح للعيش فيه، وبالتالي الأفضل لهم أن يُعيدوا ترتيب أولوياتهم بما يتوافق مع أمنهم واحتياجاتهم. لذلك يفضّلون الديمقراطية والاقتصاد، وهمّهم بعض القضايا الأخلاقية والمجتمعية مثل الإجهاض والتغير المناخي.
في الاستطلاع المشار إليه، أعرب 87% منهم عن دعمهم وقف إطلاق النار، و63% قالوا إنّهم لا يفضّلون بنيامين نتنياهو، ولموقف يهود أميركا علاقة متشابكة مع موقفه (نتنياهو) من ترامب وهاريس، وكذلك تعنّته في موضوع الصفقة، ولكن هذا نقاش آخر، المفيد فيه أنّ إسرائيل وخياراتها لم تعد تُحدّد خيارات اليهودي في أميركا، وهذا كلّه سيترك أثره بالتأكيد في خيارات هاريس في ما يتعلّق بالحرب، مثلاً لو نجحت في هزيمة ترامب… من يعرف؟!
المصدر: العربي الجديد