دلال البزري
بيئة حزب الله مزيجٌ من المحيط والحالة والمناخ. عمّرها حزب الله طوال 40 عاماً، حجراً فوق حجرٍ. هي الحلقة المُؤيِّدة له، ومن دون شروط، وتضمّ الغالبيةَ العظمى من الشيعة اللبنانيين (الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت)، ومن حولها حلقة أوسع من حلفاء ويساريين قدماء، ولا نحسِبُ هنا المُنتفِعين. الآن، بعد ضربة اسرائيل التكنولوجية الصاعقة، التي قتلت وجرحت عدداً من قادة الحزب وأطره، وتلاها تصاعد غاراتها في الجنوب والشرق، ضاعفت من الخراب والتهجير والقتل بحقّ أهالي المنطقتين، وصعدت الشماتة بحقّ أبناء هذه البيئة، في وقتٍ لا تحتاج فيه إلا إلى التعاطف والمواساة. لماذا؟ لأنّها خضعت خلال 40 عاماً لغسل أدمغتها، ولمحو تاريخها، وللقضاء على حيويتها، بما سهّل على الحزب الإمعان بتنصيبها دروعاً بشريةً تستقبل الموت، الآن أكثر من أيّ يوم مضى، بمزيدٍ من الحماسة للحزب ولقائده.
ماذا حلّ بهذه البيئة، حتّى نجح حزب الله في تحويلها الى طائفة لا عصب عندها غير عصب الموت؟ بأيّ مياه سقى الحزب هذه الطائفة للتحوّل من طائفة المتعلّمين المثقّفين النوابغ الروائيين الشعراء، ذوي الحيوية والذكاء، إلى طائفةٍ تذهب طائعةً إلى الموت، وتحسُد الذين قضوا، ولا تقيم حدادا على موتى غيرها، بل تُهلّل له. ماذا فعل بها الحزب؟ … نصّب حزب الله نفسه ناطقاً باسم الله. قادته الأدبيات الدينية إلى العُلا، إذ أبدع في اختراع عبارات الصلة بين دينه والسياسة، إلى درجة أنّ الذين لا يعرفون الإسلام اعتقدوا بأنّه “خارق الذكاء”، عندما يُحكِم هذا الربط… القداسة، قداسة الاسم والقادة والنصّ، واحتكار مسألتيَن: الطائفة والمقاومة. في الأولى، راكمَ في الربط المُحكَم بينه، كياناً حزبياً صارماً مغلقاً سريّاً، والطائفة الشيعية، حتّى إنّك إذا تحدّثت مع أيّ شيعي يقربك أو تعرفه، وقلتَ شيئاً، ولو بخفر وتهذيب، عن حزب الله، ينهرُك هذا الشخص بالقول إنّك إذا هاجمت حزب الله إنّما تهاجم الشيعة. إذاً أنت مذهبي متعصّب، تكره الشيعة، حتّى لو كنت شيعياً، فتكون بهذه الحالة كارهاً نفسك. في المسألة الثانية، وبقوته وسلاحه الهائل، احتكر الحزب معنى “مقاومة إسرائيل” وفحواها. طَرَد منافسيه، من الشيوعيين خصوصاً، وألحق كلّ متحمّس له إلى لجان أو سرايا دعم، أو فرقة تعمل تحت إمرته، وجلّ “مقاومتها” في هذه الحالة، تنفيذ أعمال إرهاب داخلية أو قتل ترهيب أو تهريب.
عقدة النقص تجاه التفوّق الإسرائيلي عزّزت لازمة “النصر” عند حزب الله، فكلّ من يحارب إسرائيل، أو يخيفها، يرتفع إلى مستوى البطولة القصوى
وعقدة النقص تجاه التفوق الإسرائيلي عزّزت لازمة “النصر” عند الحزب. كلّ من يحارب إسرائيل، أو يخيفها، يرتفع إلى مستوى البطولة القصوى، فنصبح قبالة قدّيسين أبطال. وبالتالي، أيّ حركة، أيّ مناوشة، أيّ حرب مدمّرة (2006)، وأخرى أفظع منها، أي ردّ على عملية أو أخرى، ذلك كلّه يتحوّل تلقائياً إلى “جهاد” ثمّ “انتصار”. وقد لا تكون أرض الانتصار هذه إسرائيل، إنّما سورية، مثلاً، إذ “انتصر” الحزب في سورية بأن شارك بشّار الأسد في قتل أهلها وتعذيبهم وسرقتهم وتهجيرهم واحتلال بيوتهم. وللانتصار جوقة وإعلام و”خبراء” شاشة، بحيث أصبح الانتصار روتينياً، تتلقّفه البيئة في مدار النهار، وهي مطروبة على أنغامه. ما يمنحها إحساساً بقوّة خارقةٍ، تدعمها السماء أينما حلّت. لا يستشير الحزب اللبنانيين بقرار الحرب، ولكنّه لا يستشير أبناء بيئته أيضاً. ولا طبعاً جمهوره الأعرض، فقد طمأنهم منذ البداية أنّ إسرائيل “بيت العنكبوت”، سرطان متمدّد، يُقتلَع بالصواريخ الدقيقة وبالمدن – الأنفاق. وللحلقة الضيّقة من البيئة، أيّ الشيعة تحديداً، رُسِّخت فكرةُ أنّ حزب الله بهذه الانتصارات قطع نهائياً مع الماضي الشقي، عندما كان الشيعة فقراءَ مهمّشين. قوّة الحزب وسلاحه سوف يعصمانهم من هذه العودة. ولغير الشيعة من أبناء البيئة، تتَشابك هذه الفكرة مع أخرى طبقية قديمة عن طبقة الفقراء الشيعية، وعن الشيعي الشيوعي، وعن احتكار الموارنة موارد السلطة والبلاد… إلخ، فيكون الثأر هو المُحرّك. إنّنا بصدد الثأر من أيام الذلّ والهوان القريبة؛ كما أيام الذلّ والهوان العائدة الى 1600 سنة خلَت، في كربلاء، في النزاع بين حسين بن علي ويزيد بن معاوية على السلطة. أي أنّنا نأخذ بثأرنا مِنْ يزيد في معركتنا ضدّ إسرائيل… نعم، نحن الآن في كربلاء. وأخيراً، انضمّ يساريون إلى القافلة الحسينية، وكتبوا عن كربلاء بصفتها “تجديداً لدماء الثورة ضدّ الاحتلال الصهيوني”.
لكنّ الحزب لم يطلق الأفكار تفعل فعلها وحيدةً. دعمها، أطّرها بمجموعة من الممارسات امتدّت 40 سنة هي الأخرى، وقوامها أنّه ممنوع نقد الحزب، والقصاص على هذه الجريمة يتراوح بين الثني عن الكلام، والتنبيه، والقتل، وما بات يُعرَف عند اللبنانيين بـ”السَحْسوح”؛ أيّ أن يكون أحد أبناء البيئة نشر شريطاً على الشبكة، يشتم فيه الحزب، أو ينتقد أداءه، أو قادته. ويكون “السحْسوح” بعد كم يوم، شريطاً للشخص نفسه، يعتذر فيه لـ”السيد”، ولقادة المقاومة، وللمقامات، ويقول إنّ كلامه هذا جاء تحت تأثير صدمة أو سيجارة أو كأس. ومن سليلة التأطير نفسه، يأتي العمل الأرقى، بأن يكون ثمّة لجنة أهلية لا تعجب الحزب، وثمّة شابّ شيعي في رأس هذه اللجنة، فيفتعل الانشقاق؛ يُسحب الشاب إلى البيت، يُؤمَر بنشر فيديو عن أعضاء اللجنة الذين “لا يعرفون ماذا يفعلون”، وبأنّه أسّس من جهته اللجنة الخاصّة بالقضية نفسها، وهي الأشرف من الأصلية والأكثر فعّاليةً (مثالاً؛ إبراهيم حطيط، صاحب تجربة شبيهة مع “لجنة أهالي ضحايا انفجار المرفأ”، والذي لم نَعد نسمع عنه شيئاً، لأنّ الحزب قبل ذلك أوقف التحقيق بجريمة المرفأ).
تحتاج بيئة حزب الله إلى أكسجين نظيفٍ غير سامٍّ، إلى أحضانٍ وطنيةٍ حقيقيةٍ، غير فولكلوريةٍ، وغير محسوبة، وغير ملعوبة
وتأتي الزبائنية لتبكِّل الدائرة. الحزب، بفضل سلاحه ونفوذه، يُؤمّن المساعدات، والمدارس، والتسهيلات في الحدود، والوظائف في أعلى مناصب الدولة، وتجارة التهريب برّاً وبحراً وجوّاً، والأكثر أهمّية من ذلك كلّه، التغطية على المجرمين والفاسدين، بإخراجهم من السجون مهما كانت تهمتهم… هذا إذا أمكن إلتقاطهم. وإذا كان هناك (في البيئة او يسكن في جوارها) من يستعصي على الحزب، لا يتردّد الحزب بقتله. لائحة جرائمه طويلة، آخرها اغتيال الكاتب لقمان سليم، ومنع فتح التحقيق الجنائي بها. فلقمان سليم بنظره خائن، عميل. ونغمة التخوين لا تفارق الحزب وبيئته. لأتفه التعليقات، لأصغر الإشارات، ينهال التخوين، وتوأمه التهديد. من مواقع التواصل، أو الذباب الإلكتروني التابع للحزب، من كتّاب موثوقين، ومن نواب للحزب، كان آخرهم نواف الموسوي على الشاشة يهدّد بقتل أيّ رئيس لا يكون على خاطره. ولكي تبقى البيئة نظيفة، على الحزب أن يغازلها؛ “يا أشرف الناس”! أن يُعلي من شأنها بالموت الذي تُقدّمه للحزب، بمشاريع الشهداء، بالسعي إلى الموت، بالتحمّس إليه… انظروا إلى أولادنا… أرسلناهم أيضاً إلى الموت… فيما الباقون، الأعداء، فموزّعون بين مجنون وساذج وجاهل وسخيف وجبان وعاجز. فصار الشخص ابن هذه البيئة مُعتدّاً بنفسه، حتّى خارج إطار السياسة، يتصرّف وكأنّه هو مالك الصواريخ، يفرض نظامه. وجماهيرياً، تراه يجول شوارع العاصمة بالدرّاجات النارية، يصرخ ركابها “شيعة.. شيعة”، بنبرة الذي على رأسه إكليلٌ من الغار.
خلق حزب الله قلعةً حصينةً من التطابق بينه وبين بيئته، فصار الحزب هو البيئة والبيئة هي الحزب. وعندما نشاهد كيف تساق هذه البيئة إلى الموت، مؤمنة بأنّ الله يريدها أن تموت، فهذا ما يستحق العزاء لأبناء هذه البيئة، لا الشماتة. وهذه الأخيرة، الشماتة، تُبقِي حلقةَ البيئةِ مغلقةً كما يريدها الحزب، فيما هي تحتاج إلى أكسجين نظيفٍ غير سامٍّ، إلى أحضانٍ وطنيةٍ حقيقيةٍ، غير فولكلوريةٍ، وغير محسوبة، وغير ملعوبة.
المصدر: العربي الجديد