ساري حنفي
سوسيولوجيّاً، الهجوم الفلسطيني في 7 أكتوبر (2023) فعل مقاومة “طبيعي” لعملية استعمارية ممتدّة، خصوصاً منذ عام 2000، عندما قرّرت إسرائيل، سواء الحكومة أو الرأي العام، عدم تنفيذ عملية أوسلو للسلام، والانخراط في سحق الانتفاضة الثانية بعنف، فتحول احتلال الضفة الغربية وحصار غيتو غزّة إلى شيء قبيحٍ للغاية (وفقاً لإحصاءات الأمم المتحدة، عدد القتلى الفلسطينيين الذين قتلوا على يد الجيش الإسرائيلي والمستوطنين أعلى بمقدار 21 مرّة من عدد القتلى الإسرائيليين، والذي يجب أن يضاف إليه نزع ملكية الأراضي، وتوسيع المستوطنات غير القانونية وانتشارها … إلخ). على ضوء ذلك، لماذا نتوقّع أن يكون فعل المقاومة الفلسطينية جميلاً؟ هذا تفكير متفائل، فالتاريخ والسوسيولوجيا حافلان بقصص العنف والعنف المضاد.
إذا قرّرت طهران الردّ على إسرائيل فستنجر إلى حرب مباشرة معها؛ وإذا لم تفعل، ستواصل إسرائيل ضرب الأطراف المعارضة وتصعيد الأزمة
أعترف بأن العام الذي يكتمل اليوم الأكثر صعوبة في حياتي حيث كنت أشاهد يومياً فظاعة الإبادة الجماعية الإسرائيلية المصورة على شاشة التلفزيون، حتى لو أن ذلك رافقه شعور بالكرامة بفعل المقاومة الفلسطينية البطولية. كانت التكلفة مؤلمة حيث جرى تدمير غزّة (مبانيَ ومدارسَ وجامعات وبنيةً تحتية) وقُتل حوالي 42 ألف شخص، وأصيب أكثر من مائة ألف (تضاعف مجلة الصحة العامة الدولية الشهيرة لانسيت Lancet هذه الأرقام ثلاث مرّات)، معظمهم من المدنيين من غزّة بالإضافة إلى 600 في الضفة الغربية.
فقد الناس والطلاب من حولي في هذا العام الثقة في دول غربية عديدة، الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا، التي تستخدم جميعها معاداة السامية سلاحاً. يتظاهرون بأن محاسبة إسرائيل وفقاً للقوانين الإنسانية الدولية يعد معاداة للسامية. في الولايات المتحدة، اتخذت الحكومة عدة خطوات لإسكات الخطاب المؤيد لفلسطين والمنتقد لإسرائيل. يسعى مشروع قانون الأميركي (HR 6090) إلى إسكات المعارضة في الحرم الجامعي، وهناك التهديدات بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية وأفراد عائلات موظفيها، ومحاولة حظر “تك توك”، وانتهاك قانون ليهي (Leahy Law)، ومزيد من الأمثلة على الإجراءات المتخذة لإسكات حرية التعبير وإنهاء الحرية الأكاديمية في الولايات المتحدة. في الوقت نفسه، يمنح هذا التضامن المذهل بين السكان في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الحركات الطلابية، بعض الأمل في المستقبل.
مع ذلك، أخشى الموقف “الشعبوي” الذي يريد التخلص من الحداثة وعالمية حقوق الإنسان باسم هذا التناقض مع الغرب. أيّ باحث غربي يأتي لمناصرة العنف المنزلي ضد المرأة في الشرق الأوسط كان ينبغي له أن يدافع عن القتل الجماعي الإسرائيلي للنساء المدنيات في غزّة (في حال لم يفعل ذلك بعد). وعلى المنوال نفسه، بما أن السياسة الأوروبية ومثقفيها العضويين (أفكر خاصة في السياسات الألمانية/ البريطانية/ الفرنسية التي غالباً ما ساهمت في تمويل منظمات حقوق الإنسان في الجنوب العالمي) قد فقدوا سلطتهم المعرفية أو مرجعيتهم وحتى صدقيّتهم، فإنني سأتعامل اليوم أكثر مع الباحثين والناشطين في مجال حقوق الإنسان من أفريقيا واللاتينيين الذين يتعاملون مع المعاناة الإنسانية على نحوٍ أفضل من نظرائهم الأوروبيين. وهكذا، يظل موضوع العنف المنزلي مهمّاً، بقدر ما يُنظر إليه على أنه بارز في أجندة حقوق الإنسان في أفريقيا أو أميركا اللاتينية أو المحلية. ولن نتمكن من إنقاذ العالمية، إلا من خلال فصل عالمية حقوق الإنسان (المجسّدة على سبيل المثال في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) عن التيار الرئيس للسياسة الأوروبية – الأميركية.
تريد الدولة المارقة، إسرائيل، جرّ لبنان وإيران إلى حرب وارتكاب إبادات على نطاق واسع. في الوقت نفسه، يبدو أن إيران أوجدت طريقاً مسدوداً لنفسها وحلفائها: إذا قرّرت الرد على هجمات إسرائيل واستفزازاتها، فسوف تنجر إلى حرب مباشرة مع إسرائيل/ الولايات المتحدة؛ وإذا لم تفعل، فستواصل إسرائيل ضرب كل الأطراف المعارضة حتى استنزافهم وتصعيد الأزمة، مع الإفلات من العقاب. وهذا يعني أن إيران ستخسر في كل الأحوال؛ ومن ثم، سيخسر لبنان في كل الأحوال. وأتفق مع خالد الحروب، في مقالته في “العربي الجديد” (27/9/2024)، في أن إسرائيل استخدمت عملية السلام عمليةً بلا سلام (تهدئة الفلسطينيين مع تسريع الاستيطان)، بينما استخدمت إيران عملية الحرب: وهي عملية بلا حرب حقيقية وذلك من خلال نقلها إلى وكلائها، خاصة في لبنان واليمن والعراق، لتنفيذ بعض العمليات العسكرية. حتى الضربتان الهامتان الإيرانيتان لإسرائيل في إبريل/ نيسان والأول من أكتوبر/ نيسان الجاري، كان أثرهما على إسرائيل نفسياً أكثر منه تدميراً مادياً. ولكن الحرب الحقيقية كانت ضد الربيع العربي (بالطبع ليس إيران فقط، بل دول عربية وغربية أخرى). وتلقّى حزب الله ضربة قوية فيما يتصل بنظام اتصالاته (البيجر، توكي ويكي)، واغتيالات جماعية لقياداته، بما في ذلك حسن نصر الله رحمه الله. وبينما يعدّ دعم حزب الله المقاومة الفلسطينية في غزّة أمراً أخلاقياً وصادقاً، حان الوقت لمثل هذه الحركة الأيديولوجية لقراءة الواقع بعناية من أجل التخطيط لاستراتيجيتها بشكل أفضل. وقراءة الواقع تعني المزيد من القدرات العسكرية، وفهماً أفضل للجغرافيا السياسية، وسياسة لبنانية أكثر شفافية (بدون دعم للفاسدين)، وخطابات أقل غطرسة، أي عدم رفع توقّعات المؤيدين رفعاً غير واقعي. على سبيل المثال، بينما بذل حزب الله جهداً كثيراً للتدخل في سورية لقمع الشعب السوري، ركّزت إسرائيل على جمع بيانات الذكاء الاصطناعي عن مقاتليه (أرقامهم وبصماتهم الصوتية ونظام الاتصال الداخلي لهم) وتطوير الطائرات بدون طيار.
كان الفلسطينيون قبل 7 أكتوبر خاسرين بلا أي منظور سوى الخضوع للممارسات الاستعمارية الإسرائيلية
كان للتفوق الإسرائيلي في هاتين الأداتين تأثيرات هائلة في غزّة ولبنان، ولكن أقل بكثير في ما يخص الأولى، حيث احتفظ قادة حركة حماس بوسائل اتصال أكثر تقليدية. وعلى الرغم من كل هذه النكسات، آمل أن يفاجئنا حزب الله بقدرته هذه الأيام على تقويض الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزّة ولبنان.
ومع ذلك، الفائز المحتمل الوحيد هو فلسطين. كان الفلسطينيون قبل 7 أكتوبر خاسرين بلا أي منظور سوى الخضوع للممارسات الاستعمارية الإسرائيلية. وحالياً هناك أمل في أن تكون قضيتهم على الطاولة الدولية. قد يتحمّل كل من الأشخاص الأحرار الذين يؤمنون بالإنسانية ومعظم الحكومات في العالم مسؤولية إنهاء هذا الفصل العنصري والعنف الاستعماري الإسرائيلي المطول (صوّتت 124 دولة لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول الماضي الذي حدّد موعداً نهائيّاً لإسرائيل لإنهاء احتلالها غير القانوني للأراضي الفلسطينية و14 ضده). بينما أحاول انتشال الأمل من تحت الأنقاض، فهذا في المدى المتوسط. في الأمد القريب، أصبحت جد متشائم: الأمر الوحيد الذي ما زلت أستطيع أن أصدّقه هو مجرّد مفاجأة عرضية، فواحدة من كل مائة مفاجأة قد تكون جيدة، أليس كذلك؟
المصدر: العربي الجديد