محمد أبو رمان
بالغ محللون عرب وغربيون عديدون في ربط ما ترتكبه إسرائيل من حرب إبادة في غزّة، منذ “طوفان الأقصى” (7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023) بأجندت نتنياهو الشخصية ومحاولته الإفلات من تهم الفساد في القضاء الإسرائيلي فقط، فذلك، وإن كان صحيحاً جزئياً، يتجاوز عن مسألة أكثر أهمية وتتمثّل بأجندة الرجل السياسية ومعه التيار العام في المجتمع الإسرائيلي، وحجم التحوّلات في الوسط السياسي هناك، خلال العقدين الأخيرين، وما تبع ذلك من تغيّرات جوهرية في نظرية “الأمن الإسرائيلي”.
بدأت تبرز، منذ ما يقارب عشرة أعوام، نظرياتٌ جديدة لدى القادة الإسرائيليين، تتمثّل بتغير مصادر التهديد المحيطة والداخلية وتغيّر أولويات إسرائيل، داخلياً وخارجياً، فعلى الصعيد الداخلي، باتت قضية “هوية الدولة اليهودية” والمسألة الديمغرافية تمثّل الأولوية، وعادت الأفكار عن التخلص من الكتلة السكانية الفلسطينية تهيمن على المقاربات الاستراتيجية، ما انعكس على صعيد التوسع الكبير في الاستيطان وفي تهويد القدس وفي التأكيد على الهوية الدينية- العرقية للدولة، وحسم ملف إنهاء مشروع الدولة الفلسطينية كليّاً، حتى السلطة الفلسطينية في أضعف حالاتها لم تعد مقبولة لدى التيار السياسي العام في الكيان، وأصبح التفكير في سيناريوهات عديدة أخرى، جميعها تؤدّي إلى محاولة التخلص من الفلسطينيين، سواء في الأراضي المحتلة 48 أو الـ67.
بدأ التركيز على ما اعتبره نتنياهو مفتاح المستقبل لإسرائيل، وهو قطاع التكنولوجيا، بخاصة العسكرية والتجسّسية
تزاوج ذلك مع تغير مصادر التهديد؛ في المنظور الإسرائيلي في الخارج، إذ لم تعد الدول أو الأنظمة العربية الثورية هي التحدّي الحقيقي للأمن الإسرائيلي، منذ الربيع العربي 2011، مع انتهاء أي تهديداتٍ محتملة من الحكم العراقي أو الحكم السوري أو مصر، بل بدأ المنظّرون الإسرائيليون يتحدّثون عن خطر النفوذ الإيراني والمنظّمات ما دون الدول التي تنتشر حول إسرائيل، والإسلام السياسي بألوانه المختلفة والمتعدّدة. ومن هنا، جاءت التساؤلات في كيفية ضمان الحدود الدنيا لأمن إسرائيل في إطار هذه البيئة الإقليمية المتغيرة، وبدأ التركيز بدرجة أكبر على ما اعتبره نتنياهو مفتاح المستقبل لإسرائيل، وهو قطاع التكنولوجيا، بخاصة العسكرية والتجسّسية، بما يضمن لإسرائيل التفوق التكنولوجي الكبير، الذي يمنح إسرائيل القدرة على التخلص مسبقاً من مصادر التهديد، وتحوّل الاهتمام بدرجة أكبر إلى البرنامج النووي الإيراني، الذي بات بمثابة هدفٍ رئيسٍ لعقيدة نتنياهو الأمنية ومع المؤسّسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية.
شكلت مرحلة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب (بعد مرحلة أوباما الذي عقد اتفاقية مع إيران) فرصة ذهبية لنتنياهو من خلال محاولة إدماج إسرائيل في المنطقة، عبر ما سمّي مشروع “السلام الإقليمي”، وإقامة حلف دفاعي عربي- إسرائيلي في مواجهة “التهديد الجديد”، مع تجديد الحلم الداخلي بإنهاء مشروع الدولة الفلسطينية والسيطرة على القدس، وتصفية ما تبقّى من مقومات الدولة الفلسطينية، وهو المشروع الذي كان يسير بصورة متسارعة، حتى جاءت عملية طوفان الأقصى، التي بقدر ما شكّلت صدمة وهزّة كبيرة لنتنياهو والمشروع الأمني الإسرائيلي الجديد، بقدر ما دفع نتنياهو إلى تطوير أفكاره والوصول إلى رؤية جديدة، عنوانها “تغيير وجه الشرق الأوسط”، عبر تحطيم القوى الصاعدة والتحكّم بقواعد اللعبة الإقليمية، واستعادة عقيدة “الردع الإسرائيلية” ليس فقط على الصعيد المحلي، بل حتى إقليمياً، وهو ما لم يخفه نتنياهو أو بعض وزرائه من عرض خرائط جديدة لإسرائيل وللمنطقة، تقوم على عقيدة التفوّق الإسرائيلي في المنطقة.
يعرض نتنياهو خرائط جديدة لإسرائيل وللمنطقة تقوم على عقيدة التفوّق الإسرائيلي
أغرب ما طرحه الرجل، ويعكس نظريته المتعجرفة الجديدة، أنّه يريد استسلاماً من دول المنطقة شبيهاً بما حدث مع ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، عندما أعلنتا الاستسلام، وقام الحلفاء بتغيير مناهج التربية والتعليم وبدأ نظام دولي جديد، وهو ما صرّح به في الأمم المتحدة بكل غرور، متجاهلاً الفروق التاريخية والسياسية والحضارية الهائلة، بين الحالتين، فبالرغم من كل الضربات القاسية والتهجير والتدمير وحرب الإبادة (بما يتجاوز حجم القنبلتين النوويتين الأميركيتين في الحرب العالمية الثانية)، لم تتوقف المقاومة، والمواجهات مستمرّة منذ عام. وإذا ما تمكّن من تحقيق اختراقات أمنية استراتيجية في القضاء على قيادة حزب الله، فهذا شطر محدود من الصراع، وهنالك حالة ممانعة شعبية واسعة، والوصول إلى ما يظنّه نظاماً إقليمياً بهذه الصورة أبعد ما يكون بعد عام من السابع من أكتوبر!
يمنّي نتنياهو النفس بفوز دونالد ترامب في الرئاسة الأميركية، لعلّه يضمن وجود حليف يميني أميركي معه في هذا المشروع. وحتى وإن افترضنا ذلك، فإنّ هذه المنطقة مسكونة بالأبعاد الدينية والرمزية والصراعات المستمرّة، التي تجعل من مفهوم الاستسلام والتسليم للمشروع الإسرائيلي غير واردة في حسابات شعوب المنطقة، بالرغم مما لحق بها من مآس وكوارث على أيدي أنظمتهم وأعدائهم، وهو ما قد يولّد قوى أكثر راديكالية وحالة مستمرّة من عدم الاستقرار.
هل هنالك خيار آخر في الوسط الإسرائيلي؟ هل يمكن أن يقف أحد هناك ويقول إن هذه العقيدة الأمنية لا يمكن تحقيقها، وبالتالي، من الضرورة العودة إلى مشروع سلام يقوم على الاعتراف بحق الفلسطينيين والدولة الفلسطينية، هذا السيناريو ضمن الاتجاه العام في الشارع الإسرائيلي غير مطروح، ما يجعل خياري السلام والحرب معلقين على فرضياتٍ هشّة، ويُنذر بأنّنا في هذه المنطقة لسنا أمام صفقة إقليمية كبرى تضمن الاستقرار الإقليمي؛ بل نحن إما أمام توازن قوى وصراع مستمر، أو حالة من الفوضى المستمرّة التي يمثل المشروع الإسرائيلي والقضية الفلسطينية أحد عناوينها الرئيسية، وانهيار المنظومات الوطنية السياسية العربية عنوان آخر ومن ديناميكيات الصراعات الإقليمية والداخلية.
المصدر: العربي الجديد