تامر قرموط
نحن الفلسطينيين شعب واحد، ولكنّنا مختلفون في الرؤى والمكنون والهُويَّة الوطنية والجغرافيا. تجمعنا مأساة الاحتلال، وهدفنا التحرّر والاستقلال، ولكننا نختلف في ما بيننا في كثير من الاجتهادات والتفاصيل المهمّة المتعلّقة بكيفية الوصول إلى هذه الأهداف. لذلك، من المهمّ جدّاً، في هذه المرحلة الحرجة التي تمرّ بها القضية، أن ندرك أنّ هذا الاختلاف طبيعي، ويجب أن نبني عليه، لا أن نجعله يُشرذمنا ويُضعفنا. ولا ينبغي أن تكون هناك أصوات إقصائية تمنع طرح الأسئلة الصعبة، بل ينبغي أن نحتضن الاختلاف في الرأي، حتّى لو تبنّى الأكثرية شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.
علينا إذاً أن ندرك ونتقبّل هذه الاختلافات حتّى نتجاوزها، ومن ثمّ نبني على ما يمكن أن تقدّمه من فرص في مواصلة نضالنا العادل. ولكن علينا، قبل ذلك، أن نسأل أنفسنا: كيف ولماذا نحن مختلفون؟ … نختلف بحكم ما أنتجته دولة الاحتلال من فصل جغرافي باعد غزّة من الضفّة، ومن أهلنا في الداخل المحتلّ. نختلف لأنّ هناك هُويَّة ثقافية، مجتمعية، قبلية وطبقية متنوّعة، في أرضنا المحتلّة. نختلف لأنّ عديدين من أبناء غزّة وبناتها ينظرون إلى العالم من نوافذ الجغرافيا والسينما والرياضة لجارتنا مصر الشقيقة بحكم صلة الجغرافيا والتاريخ، وينطبق ذلك على أهلنا في الضفّة الغربية من نافذة الأردن الشقيق. نختلف لأنّ هناك هوّة مجتمعية، ثقافية واقتصادية، بين أجزاء الوطن المحتلّ بفعل سياسات الاحتلال، وأيضاً لأنّنا فلسطينيون ساهمنا بطريقة ما في إنتاج هذه الهوّات، بإهمالنا لها وتركها تمتدّ.
نختلف لأنّ أجيالاً منّا تهجّرت وانتهى بها المطاف في مخيَّمات اللاجئين والاستقرار في مجتمعات ودول مختلفة في بقية أنحاء العالم. نختلف لأنّ الأجيال الشابّة داخل بقايا الوطن المحتلّ، وفي الشتات، اختلف منظورها، واختلفت سرديّتها، بحكم تقادم القضية ونشأة أجيال فلسطينية كاملة في بلدان ومجتمعات جديدة، تشرّبت هُويَّتها وثقافتها. نختلف لأنّ حركة التحرّر الفلسطينية تشرذمت وتشتَّتت وأصبحت لها استراتيجيات ومرجعيات مختلفة، بل وأهداف تحرّرية متضادّة في بعض الأحيان. ونختلف في أمورٍ كثيرة يطول شرحها.
متى عرفنا “الأنا” الفلسطينية ستنفتح لنا الآفاق كلّها، ولن تكون الرؤية ضبابيةً وغامضةً كما هي الآن
نحن بحكم الواقع الآن شعب مشتّت ومليء بالاختلافات، وهناك حاجة ملحّة لأن نتعرّف بشكل أفضل إلى بعضنا بعضاً، بدلاً من الانجرار وراء الشحن الإعلامي والسياسي والأيديولوجي، من دون فهم وتعمّق لما أصبحنا عليه الآن. صدقاً، هناك حاجة لأن يتعرّف أبناء غزّة والضفّة والداخل والشتات إلى بعضهم بشكل أفضل، وهادئ ومتعمق، حتّى يمكننا أن نتخطّى الجُزر المكانية والهُويَّاتية المنفصلة التي صنعها الاحتلال، وتركناها نحن بإهمالنا شعباً ومجتمعاً وسياسيين.
نحتاج إلى التعرّف إلى بعضنا بشكل هادئ ومتعمّق، حتّى نستطيع الوصول إلى أرضيةٍ مشتركةٍ ننطلق منها. عندما نتعرّف إلى بعضنا بشكل أفضل، سيتحوّل هذا الاختلاف إلى تنوّع إيجابي ينشئ ديناميكيات جديدة لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني المتشرذم الآن، ولكنّه مليء بالحيوية والقدرات. حالة التشتّت هذه يمكن أن تتحوّل تنظيماً وتياراً جارفاً إذا أحسنا استغلاله. ولا نحتاج إلى الذهاب بعيداً في التجارب، يكفينا أن ننظر وندرس نشأة الحركة الصهيونية، وكيف وحّدت الصهاينة وأخرجتهم من حالة التيه، ونتعلّم منهم لاسترجاع وطننا المسلوب.
أوّل خطوة في هذه الطريق هي إدراك اختلافاتنا شعباً، والوصول إلى أرضية مشتركة نبدأ منها قبل حتّى الحديث عن مشاريع التحرّر. متى عرفنا “الأنا” الفلسطينية ستنفتح لنا الآفاق كلّها، ولن تكون الرؤية ضبابيةً وغامضةً كما هي الآن.
المصدر: العربي الجديد