حسين عبد العزيز
لم يكن الهجوم الإسرائيلي على مواقع عسكرية ومصانع للأسلحة ومنظومات صواريخ أرض ـ أرض وأرض ـ جو، ومواقع تخزين صواريخ ومسيّرات، في محافظات طهران وخوزستان وإيلام مفاجئاً. لا لأن نية الهجوم الإسرائيلي وتفاصيله سرّبتا من طريق وثيقتَين سرّيتَين أميركيتين، وليس بسبب تصريحات غير مباشرة لمسؤولين إسرائيليين بنيّة الردّ على إيران، بل لأن إسرائيل لا تستطيع تجاهل الهجوم الإيراني عليها بداية شهر أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، وهي إن فعلت ذلك (تجاهلت الردّ) فإنها تُقدم على سابقة تاريخية تتنافى مع استراتيجيتها ومبادئها العسكرية بإلزامية ضرب أيّ جهة تهاجمها، مهما كانت طبيعة المناخ السياسي السائد إقليمياً ودولياً، وطبيعة الجهة المهاجمة.
غير أن الهجوم الإسرائيلي حمل دلالات هامّة، من شأنها أن توضّح طبيعة المرحلة المقبلة بين إسرائيل وإيران. أولاً، أن تُعلِم إسرائيل إيران عبر وسيط (أو وسطاء) بموعد الضربة والمواقع المُستهدَفة، فهذا فعل عادةً ما تلجأ إليه الأطراف المتصارعة حين تكون مضطرة إلى الهجوم، وفي الوقت نفسه لا تريد التصعيد. هذا ما فعلته إيران في المرّتَين السابقتين حين هاجمت إسرائيل، وهذا ما فعلته إسرائيل في هجومها أخيراً على إيران، إنها رسالة واضحة بإخلاء المواقع من العاملين فيها كي لا تحدث خسائر كبيرة في الأرواح وتجبر الطرف المُهاجم على الردّ العسكري.
ثانياً، اختيرت المواقع المُستهدَفة بدقّة عالية، من ناحية أنّها مواضع كان لها دور في الهجوم الإيراني على إسرائيل. وبهذا المعنى، فإن الرسالة الإسرائيلية واضحة: نهاجم المواقع التي استهدفتنا فقط، أي إن إسرائيل تكتفي بالردّ على الهجوم الإيراني ولا ترغب في التصعيد.
لا ترغب إيران في اللجوء إلى استخدام قوتها في عرقلة تجارة النفط
ثالثاً، لم تُقصف أيّ مواقعَ نوويةٍ أو منشآت نفطية. وهذه هي الرسالة الإسرائيلية الأكثر أهميةً، بمعنى أن إسرائيل بتحييدها هذه الأماكن أرادت عدم رفع وتيرة التصعيد والذهاب نحو حافّة الهاوية العسكرية، ذلك أن استهداف هذه المواقع والمنشآت سيجبر إيران بالضرورة على تصعيد ليس مع إسرائيل فقط، بل على تصعيد يهدّد المصالح الأميركية في المنطقة، وخصوصاً في منطقة الخليج العربي، لما تمتلكه إيران من قدرة على تعطيل الملاحة البحرية للناقلات النفطية.
رابعاً، إذا ما أضفنا إلى العوامل الثلاثة السابقة الموقف الإيراني من الهجوم الذي اعتبرته طهران ضعيفاً من حيث الأضرار، ثمّ ما نقلته وكالة تسنيم الإيرانية من حقّ إيران الاحتفاظ بحقّها في الردّ على أيّ اعتداء، فإننا أمام خطاب منخفض الوتيرة، ولا يشير إلى نيّة إيرانية بالتصعيد العسكري، لأسباب عديدة. أولها، تفاوت القدرات العسكرية بين الجانبَين. فقد كشف الهجوم الإسرائيلي أخيراً هذا الواقع، فالهجوم حصل بطريقة متدرّجة مرحلياً؛ في المقدمة طائرات عالية المستوى تقنياً دمّرت منظومة دفاعات أرض ـ جو، ممهدّةً الطريق أمام الطائرات والمُسيَّرات المكلّفة بالقصف، أعقبتها طائرات مهمتها اعتراض أيّ هجوم جوّي إيراني، إلى جانب طائرات للتشويش.
لم تسقط أيّ طائرة إسرائيلية في أثناء الهجوم، ولا يُعرَف سبب ذلك، هل لعجز إيراني أم لرغبة إيرانية في تفاديه؟ … لكنّ أغلب الظنّ عدم امتلاك إيران منظومة صواريخ متطوّرة، فمنظوماتها الصاروخية تنتمي إلى الجيل الثالث، فيما تمتلك إسرائيل منظومات من الجيل الخامس، وهذا يعني باللغة العسكرية أنّ تطور المواجهة بين الجانبين سيجعل المراكز الاستراتيجية الإيرانية هدفاً لإسرائيل، وهو ما لا تتحمّله إيران. وإذا أضفنا عمليات الاغتيال الإسرائيلية داخل إيران، فستكون إيران ساحةً شبه مفتوحة أمام إسرائيل.
تفيد المعطيات بأن الهجمات، والهجمات المضادة، بين إسرائيل وإيران، شارفت على الانتهاء، ليبقى الصراع في ساحات جانبية
ثانياً، لا تمتلك إيران (عكس إسرائيل) قدرةً واسعةً على المناورات العسكرية، ففيما تستطيع إسرائيل ضرب إيران في لبنان وسورية والعراق واليمن، لا تمتلك طهران سوى الهجوم على إسرائيل مباشرةً، وهذه لغة الحرب المباشرة غير المعمول بها إلا في الحالات الاستثنائية، ومخاطرها بالغة الشدّة، لأنها قد تنحدر مواجهةً شاملةً ومباشرةً، وهو ما لا تتحمّله إيران على المستويات العسكرية والاقتصادية والاستراتيجية.
ثالثاً، لا ترغب إيران في اللجوء إلى استخدام قوتها في عرقلة تجارة النفط، فمثل هذه الخطوة ستضعها مباشرة في مواجهة العالم كلّه، خصوصاً دول الخليج العربي، التي تمتلك علاقات صداقة قوية معها.
تشير المعطيات السابقة كلّها إلى أن الهجمات، والهجمات العسكرية المضادّة بين إسرائيل وإيران، انتهت أو شارفت على الانتهاء، ليبقى الصراع في الساحات الجانبية. لكن تجارب الحروب والتاريخ تُعلّمنا أنه ليس كلّ شيء بمقدار، وأن متغيّرات الصراع قد تتغيّر بشكل مفاجئ، وإن ظلّ احتمالاً بعيد التحقّق في ظلّ اختلال موازين القوى، ووجودٍ عربيٍّ يكتفي بعضه بالمشاهدة، وبعضه الآخر بالتواطؤ مع إسرائيل والولايات المتحدة.
المصدر: العربي الجديد