سلام الكواكبي
تعرّضت فرنسا قبل أيام لإهانة موصوفة من عناصر من الشرطة الإسرائيلية في القدس المحتلّة، في أثناء استعداد وزير خارجيتها جان نويل بارو لزيارة مقرّ ديني تحت إدارة الدولة الفرنسية، إذ ألقت السلطات الإسرائيلية القبض على عنصرين من الجيش الفرنسي مكلّفين بحماية المقرّ، بحجة تعرّضهما لعناصرها. وأمام عدسات الصحافيين الأوروبيين، أستهزأ الأمن الإسرائيلي بالقوانين الدولية المعنية بحصانة الأراضي التابعة لدولة أجنبية، وبحصانة العاملين فيها. لوى الإسرائيليون أيدَي أفرادٍ رسميّين من بلد حليف لم يتردّد قادته يوماً في السعي الحثيث إلى تسوّل الرضى اليميني المتطرّف في تلّ أبيب، كما لم يخجل القائمون على وسائل الإعلام في هذا البلد الحليف (فرنسا)، منذ 7 أكتوبر (2023)، من نشر معلومات كاذبة في أغلبها، واعتمد هذا الإعلام في تحرير خطابه على سردية الخطاب الرسمي والعسكري الإسرائيلي، من دون ممارسة أي تدقيق مهني في حدوده الدنيا المُتعارف عليها. ولاحقت الشرطة القضائية، كما أجهزة القضاء فيه، كلّ من سوّلت له نفسه الأمّارة بسوء التقدير بالتضامن مع ضحايا المجازر الإسرائيلية من المدنيين الفلسطينيين. وسيكون الأمر جريمةً نكراء إن ندّد وشجب واحتجّ سلمياً مرتدياً ملابسَ قد تشير من قريب أو من بعيد إلى الشعب المذبوح. ذلك كلّه سيقود مقترفه حتماً إلى أن يقع في خانة “المجرمين” المناهضين للساميّة، و”المحرّضين” على العنف وعلى الإرهاب، لا أكثر ولا أقلّ.
يقع هذا الحادث في وقتٍ تخلّت فيه فرنسا تماماً، ومن دون أي أسف أو وجل، عن تمايزها التاريخي التقليدي في بناء العلاقة مع الشرق القريب، فقد أسّس الجنرال شارل ديغول، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، قاعدةً من الاستقلالية النسبية الفعّالة عن المسار الأطلسي عموماً، والأميركي خصوصاً. وقد تمحوّر هذا التمايز خصوصاً في ما يتعلّق بالموقف من الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، وفي المطالبة بتطبيق القوانين الدولية والاعتراف بحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. وبالطبع، كان هذا التخلّي تدريجياً، إذ بدأ فعلياً مع الرئيس نيكولا ساركوزي (2007 ـ 2012)، وتعزّز في زمن فرانسوا هولاند (2012 ـ 2017)، وانفجر بكلّ جرأة وبشكل متصاعد مع وصول إيمانويل ماكرون إلى قصر الإليزيه في عام 2017.
تخلّت فرنسا تدريجيّاً عن الاستقلالية النسبية التي رسمها ديغول عن المسارين الأطلسي والأميركي، في ما يتعلّق بالموقف من الاحتلال الإسرائيلي
وعلى الرغم من فورة الشعور الوطني، بمعنييه العصابي والعنصري، في أوروبا عموماً وفي فرنسا خصوصاً، إلّا أن هذا الاعتداء الصارخ على رموز عسكرية فرنسية لم يجد له إدانةً واضحةً من الجسم الإعلامي الفرنسي، وخصوصاً المحطّات الإخبارية التي تبثّ باستمرار. وقد وصل الأمر إلى أن تعلّق صحيفة بارزة بقولها: “ربّما كان العسكريان الفرنسيان من أصل مغاربي، وبالتالي ربما يكون الأمر قد اختلط على الشرطة الإسرائيلية وظنّت أنهما فلسطينيان”. وهذا كلام عنصري كان يودي في زمنٍ قريبٍ بصاحبه إلى قاعات المحاكم، ينهمر اليوم من كبار الصحافيين وسياسيين عديدين وكثيرين من “مثقّفي” الاقتناص. لم تدم مهزلة التبرير التي حشد لها أصدقاء إسرائيل العدّةَ والعديدَ، إذ عبّر ممثّلو الجهات العسكرية المختلفة بشكل واسع عن إدانة صريحة للعمل الإسرائيلي الواضح على توجيه رسالة سياسية عبر هذه الممارسة العنيفة إلى أصحاب القرار في باريس، فعلى الرغم من الانحياز الكامل لآلة الموت الإسرائيلية في بداية الحرب على غزّة، إلّا أن الموقف الفرنسي قد تغيّر نسبياً مع امتداد المجزرة في الزمن وفي النتائج، فسجّلت الأسابيع الماضية تصريحاتٍ فرنسيةً مختلفةً عما سبقها، وفيها دعوة صريحة إلى أن توقف إسرائيل إطلاق النار على مدنيي غزّة، وصولاً إلى الحديث عن ضرورة وقف تصدير الأسلحة الى جيش الموت الإسرائيلي. وقد أجمع المراقبون على أن هذه العملية كان قد خُطِّطَ لها ولم تكن ابنة لحظتها.
في اليوم الذي سبق هذا الحدث، فتح مشجّعو فريق باريس سان جيرمان لكرة القدّم، ومع بدء مواجهة كروية للاعبيهم مع فريق إسباني، لوحة قماشية ضخمة على المدرّجات فيها رسمٌ للمسجد الأقصى، وطفل لبناني مُدمّى، ودبابة إسرائيلية، وشابّ فلسطيني يعتمر الكوفية، وخريطة فلسطين، وعبارة “فلسطين حرّة”. وفي أسفل التشكيل كتب: “لتكن المعركة في أرض الملعب وليعمّ السلام خارجه”. ولقد أثارت وسائل الإعلام الفرنسية إياها اللغط بشأن هذا التصرّف، داعيةً المسؤولين إلى محاسبة المشرفين على النادي الباريسي لسماحهم لرابطة المشجعين، بحسب ما سمّاه إعلاميو الإثارة، بالدعوة الى إزالة إسرائيل. وفي إطار السباق الرسمي الفرنسي في التودّد لليمين المُتطرّف الإسرائيلي، دعا وزير الداخلية مسؤولي النادي والاتحاد الكروي إلى اجتماع عاجل لمناقشة الأمر. وأسهب سياسيون، من توجّهات تميل إلى اليمين ومتطرّفيه، باستعراض قدرتهم على التنافس بهدف إرضاء مجموعات الضغط الفاعلة والعاملة على نشر (وترسيخ) السردية اليمينية المتطرّفة القادمة من تلّ أبيب، كما ومن أبواقها الباريسية.
من المُستبعَد أن تترتّب من حادثة القدس أيُّ عواقبِ يمكن أن تنعكس سلباً على العلاقات بين باريس ودولة الاحتلال. في المقابل، سيتكثّف التركيز في لافتة ملعب الكرة، وما يستجدّ من تعبيرات إنسانية عن رفض جرائم الإبادة الجماعية الإسرائيلية، وذلك بهدف نسبها إلى “معاداة الساميّة”.
المصدر: العربي الجديد