جيرار ديب
اغتالت إسرائيل بضربة جوية في منطقة رأس النبع ببيروت، مسؤول العلاقات الإعلامية في حزب الله، محمد عفيف النابلسي، في استهدافها (17 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري) مبنىً تابعاً لحزب البعث العربي الاشتراكي في وسط العاصمة بيروت، ما سبّب حركة نزوح كبيرة للسكّان، رغم أن المنطقة كانت تُعدّ آمنةً نسبياً. وكاد الخبر يكون مألوفاً للمتابعين، لو كانت الشخصية المُستهدَفة في الحزب عسكريةً، وحتى أمنيةً، لكن أن تكون الشخصية من خارج التنظيم العسكري، وتكون المسؤولة عن العلاقات الإعلامية في الحزب وتُغتال في بيروت، فهذا ما أثار ريبةً لدى اللبنانيين، لاعتبار بعضهم أن الحرب باتت تأخذ منحىً جديداً في الصراع الدائر، ما يعطي دلالة أن دائرة الاستهداف تتوسّع، ولم يعد هناك مناطق آمنة وأخرى مُستهدَفة.
منذ محمد سعيد الصحّاف، الذي أدار الحرب الإعلامية خلال الغزو الأميركي للعراق (2003)، الذي سلّم نفسه للقوات الأميركية وبعدها أُطلِقَ سراحه فوراً، تكوّن مفهومٌ عامٌّ بات أشبه بمعرفة تنتشر بين العامّة، أن المسؤول الإعلامي في أيّ جهة لا يدخل ضمن لائحة الاستهداف المطلوبة. لهذا، رُبِط بين الاغتيال ومرحلة ما بعد الاستهداف، وما إذا كان نتنياهو قد أسقط مبادرة بايدن أخيراً، ليدخل لبنان دائرة الحرب الشاملة؟
لم تدخل إسرائيل غزّة ولا لبنان بهدف فرض تسويات، بل من أجل جعل تلّ أبيب ركيزةً رئيسةً تربط الشرق الآسيوي بالعمق الأوروبي
اغتالت إسرائيل محمد عفيف في وقتٍ يدرس لبنان ورقة المقترحات التي قدّمتها السفيرة الأميركية في لبنان، ليزا جونسون، إلى رئيس مجلس النوّاب اللبناني، نبيه برّي، وتتضمّن نقاطاً تستهدف التوصل إلى تسوية لوقف الحرب في لبنان. رغم الإيجابية التي خرج فيها برّي إلى الإعلاميين، ولا سيّما قوله إن لا نقطة في المقترح تشكّل عقدة خلافية للبنان، أتت الغارة الإسرائيلية لتقضي على كل الآمال في التوصّل سريعاً إلى أيّ تسوية.
يماطل الإسرائيلي لإنهاء الصراع، رغم التصريحات المؤيّدة للتوصّل إلى حلول يطلقها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، أو وزراء من حكومته، إلا أنّ الواقع والميدان والممارسات تُظهِر العكس، فإسرائيل تمارس مع لبنان السيناريو الذي اعتمدته مع حركة حماس، فهي عرقلت كل التسويات التي قدّمتها إدارة بايدن قبل إجراء الانتخابات الرئاسية الأميركية في 5 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، فلمَ تهدِ اليوم لبنان تسويةً وإدارة بايدن في أيامها الأخيرة؟… لم تدخل إسرائيل غزّة ولا لبنان بهدف فرض تسويات، بل ليطبّق جيشها مشروعاً يجعل من تلّ أبيب ركيزةً رئيسةً تربط الشرق الآسيوي بالعمق الأوروبي.
لا تريد إسرائيل الحديث عن أيّ تسوية في الوقت الحالي، ما دام لم يُطبَّق مشروعها الهادف إلى ضرب قدرات حركات الممانعة، التي قد تشكّل عقبةً أمام مشروعها. فالقضاء على “حماس” يعني أن إسرائيل قادرة على شقّ قناة بن غوريون في شمال قطاع غزّة. تلك القناة التي ستكون بديلةً من قناة السويس في التجارة الدولية المستقبلية. وفي ما يتعلق بحزب الله، كان من الضروري ضرب القدرة الصاروخية لهذا التنظيم، كي لا يصبح الممرّ الاقتصادي الهندي تحت رحمة الحزب الذي يملك صواريخ باليستية بعيدة المدى.
يجد بعضهم أن اغتيال عفيف يندرج ضمن السياسة الإسرائيلية الهادفة إلى “كيّ الوعي” لدى البيئة الحاضنة لحزب الله، بنقل المعركة من الميدان إلى العمق اللبناني، ولا سيّما العاصمة، إذ ضربت مُسيَّرة إسرائيلية ليلاً هدفاً في منطقة مار إلياس في بيروت، لتصبح الحرب مفتوحةً على لبنان، فأسقطت كل التسويات، ما ينذر بتوسيع دائرة الحرب في المنطقة. تراهن حكومة نتنياهو على إدارة الرئيس دونالد ترامب الذي أجرى نتنياهو معه ثلاثة اتصالات هاتفية بعد انتخابه رئيساً، بحسب ما أعلن البيت الأبيض، ما يوضّح العلاقة الوثيقة بين الرَّجُلَين. هذا ما يؤكّد أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة ستركّز في تحقيق المشروع القديم الجديد لرسم المنطقة بعيداً من النفوذ الإيراني.
عمل المسؤول الإعلامي للحزب، في الآونة الأخيرة، على بثّ الروح المعنوية للبيئة الحاضنة التي أُصيبت بالإحباط بعد سلسلة من الاغتيالات لقيادتها الأمنية من جميع الصفوف. لهذا، شكل “الحاج عفيف” في إطلالاته الإعلامية تحفيزاً جديداً إلى إطلاع جماهير الحزب على ما يحصل في الميدان، كما طمأن المودعين أن مدّخراتهم ستعود إليهم بعد ضرب مؤسّسة “القرض الحسن”. نجح الرجل في بعث الأمل لدى جمهور حزب الله، في حين فشلت كتلة الحزب النيابية التي تحرّكت داخل أروقة المجلس عبر سلسلة من اللقاءات لملء فراغ حسن نصر الله وخطاباته. لهذا كان دور الحاج عفيف أساسياً في الحضور الإعلامي، ولا سيّما أنه كان يعقد مؤتمراته الصحافية في ضاحية بيروت، وعلى أنقاض مبانٍ دُمِّرت.
تسعى إسرائيل باغتيال عفيف في مار إلياس إلى تقليب البيئة غير الحاضنة لحزب الله وإيجاد عداء تجاه النازحين من بيئة الحزب
برّرت إسرائيل استهدافها عفيف باعتباره ضالعاً (ومشاركاً) لوجستياً في العمليات العسكرية التي قادها الحزب واستهدفت الداخل الإسرائيلي. لكنّ الاغتيال في الواقع تحوّل نوعي لضربات إسرائيل واستهدافاتها داخل المناطق المتنوّعة لتحمل رسائل أخرى، ألا وهي تقليب البيئة غير الحاضنة لإحداث توتّرات عدائية تجاه النازحين في مختلف المناطق.
مهما حملت إسرائيل من تبريرات، وكائناً من كان من استهدفته، أو ستستهدفه في المرحلة المقبلة، يظهر الواقع أن المشروع لا يرتبط بطموحات نتنياهو السياسية فقط، ولا بأحلام اليمين المتطرّف الإسرائيلي في بناء إسرائيل الكبرى فحسب، بل أيضاً، باتت ساحة القتال في موقع تجاذب بين اللاعب الإيراني، الذي يمسك الورقة اللبنانية، وهذا ما تؤكّده الزيارات المكوكية إلى بيروت (جديدها أخيراً زيارة مستشار المرشد الأعلى، علي لاريجاني)، والأميركي الذي يريد ضرب حضور إيران في المنطقة لترسيخ مشروعه. وبين ما تريده واشنطن من “الشرق الأوسط الجديد، تحديداً في ترسيخ الممرّ الهندي وعرقلة جهود الصين في تعبيد طريقها “الحرير”، إضافة إلى تقويض الحضور الروسي، عبر تقليم أظافر حليفتها إيران في الحرب.
المصدر: العربي الجديد