حازم نهار
المحتويات
أولًا: مقدمة
ثانيًا: المفاجأة
ثالثًا: مقاربة أولية لمسار الحدث
رابعًا: فصائل عملية “ردع العدوان”
خامسًا: ضرورات إسعافية في سياق الحدث
سادسًا: العوامل الحاسمة في مسار الحدث السوري
سابعًا: بناء موقف سياسي من الحدث
ثامنًا: النظام المقبل ومعيار الانتصار
أولًا: مقدمة
لا شكَّ أنَّ هناك صعوبة بالغة عمومًا في الكتابة، وفي تقديم رؤية متماسكة، في اللحظة التي يكون فيها البشر متخمين حزنًا أو فرحًا، حيث يكون الاستقطاب حادًا والتصنيفات جاهزة فيما التفكير والتدبّر مؤجّلان أو مكروهان. ولذلك لا يُستبعد التفاعل السلبي مع ما يُكتب في مثل هذه اللحظات، فقد يُنظر إليه بأنه بقصد إفساد لحظات فرح الناس أو الاستهتار بحزنهم والتشفي بهم. مع ذلك، وعلى الرغم من هذه المحاذير المفهومة، أنطلق في كتابتي هنا من قناعتي بأنَّ الكتابة لا تفعل شيئًا يُذكر في الحصيلة مقارنةً بما يفعله أصحاب القرار والآخرون الفاعلون على الأرض من حيث التأثير في فرح الناس أو حزنهم زيادةً أو نقصانًا، لذلك هذا رأيي في الحدث الراهن في سورية، متمنيًا التعاطي معه بجدية بما يحمل من قراءة للحدث، ومن محاذير أو مخاطر تتعلق بسورية والسوريين.
هذا الحدث متحرِّك، ولمّا يثبت بعد على طرف، وأبعد مما كان متخيلًا في لحظة انطلاقته الأولى، وهناك عناصر وزوايا مجهولة أو ما زالت غير واضحة، وكثير من الأشياء التي تظهر إلى العلن أول مرة، لذلك تتطلب مقاربته جيدًا بعض الصبر، لكنها تحتاج أساسًا إلى التعاطي بإيجابية مع أي وجهة نظر ما دام الأساس الذي تستند إليه هو المصلحة العامة السورية.
هناك نقطتان مهمتان من المفيد ذكرهما على سبيل التمهيد أيضًا، تتمثل بضرورة التمييز بين التحليل السياسي والموقف السياسي؛ فالتحليل السياسي ينبغي له أن يكون، قدر المستطاع، موضوعيًا ورصينًا، بعيدًا من الرغبات والأمنيات وشعارات النصر، والموقف السياسي. وتتمثل الثانية بأهمية الإقرار بالدور النقدي للنخب الثقافية والسياسية، فمن دون هذا الدور تفقد وظيفتها التقدمية كليًّا.
ثانيًا: المفاجأة
كان متوقعًا، بعد تقليص نفوذ حزب الله وإيران في لبنان، أن يكون هناك عمل لتقليص الوجود الإيراني في سورية على يد أميركا وإسرائيل، لكن ليس على يد تنظيمات سورية مسلحة وبإشراف تركي، وكانت السرعة التي تساقطت بها القرى والبلدات ومدينة حلب، وصولًا إلى مشارف مدينة حماة بيد “قوات ردع العدوان”، مفاجئة فعلًا، ما يعكس فعليًا درجة هشاشة الخطوط والجبهات العسكرية للنظام، مثلما يعكس تطورًا عسكريًا نوعيًا لدى الفصائل المشاركة في التحرك العسكري.
كان التحرك العسكري (عملية ردع العدوان) مفاجئًا حتى بالنسبة إلى السوريين المندرجين في خط أستانا و”الائتلاف الوطني” اللذين تشرف عليهما تركيا، وهذا أخطر ما في الأمر، أي أن التحرك العسكري قد حصل في غياب أي طرف سياسي سوري معارض، ما يعني أن الجهات السياسية السورية كانت غائبة عن الحدث ولا تعرف عنه شيئًا، وليس لديها أي معلومات عنه، وعن مداه، وغاياته، وأبعاده، وكلُّ ما هو متوافر تحليلات لا يمكن التثبّت من صحة أيٍّ منها. ولا ندري أيضًا إن كانت تركيا، الدولة التي لديها سلطة على الفصائل العسكرية، على علم بالمدى الذي ستصل إليه العملية العسكرية أم أنها فوجئت هي أيضًا بدرجة هشاشة النظام السوري عسكريًا، وربما تكون الفصائل نفسها قد ذهبت في منحى أبعد مما كانت قد خططت له، عندما اكتشفت هذه الهشاشة.
لكن، على العموم، ليس من السهل، على الأقل حاليًا، بالنسبة إلى جميع الأطراف، تحديد الأهداف النهائية للتحرك العسكري، فنحن أمام حدث متحرك تتغير فيه معطيات الميدان والجغرافيا والسياسات والمواقف الدولية والصفقات بسرعةٍ تصعب مجاراتها.
ثالثًا: مقاربة أولية لمسار الحدث
كانت إسرائيل قد فضَّلت في سورية، خلال الفترة 2011-2023، الشيطان الذي تعرفه على الشيطان الذي لا تعرفه، لكن بعد أن انتهت التوافقات الأميركية الإسرائيلية-الإيرانية في سورية، الضمنية والعلنية، بعد عملية طوفان الأقصى والهجوم على حزب الله في لبنان، أصبحنا أمام مقاربة جديدة تتكثف في الرغبة الأميركية الإسرائيلية في تقليص الوجود الإيراني في سورية من جهة، وإجبار النظام السوري على تغيير سلوكه من جهة ثانية بحسب ما تصرِّح الإدارات الأميركية دائمًا. وكان لا بدَّ من ملء الفراغ بعد إضعاف إيران وحزب الله في لبنان وسورية، وليس هناك أفضل من تركيا للقيام بذلك. كانت تركيا، ولا تزال، بلدًا استراتيجيًا بالنسبة إلى أميركا، على الرغم من الخلافات الظاهرية. أما مشاركة أميركا وإسرائيل في التجهيز للتحرك العسكري فهي غير واردة بالطبع كما تُروِّج إيران والنظام السوري، لكن ليس معقولًا أن تكون الولايات المتحدة تحديدًا قد فُوجئت به، وفي العموم لن تشارك أميركا، كما هو معروف، في أي حرب عسكرية على الأرض الآن، وفي ظل الإدارة الجديدة المقبلة.
كان توقيت العملية العسكرية مدروسًا بدقة، وقد استندت حكمًا إلى توجيه ودعم تركيّين، لتحقيق عدة أهداف واضحة بالنسبة إلى تركيا: تأمل تركيا، بعد انتكاسة إيران وحزب الله في لبنان وسورية، من خلال الهجوم المباغت، في تحقيق نتائج على الأرض تسمح بإجبار النظام السوري على التطبيع معها، وتسوية الموضوع السوري وإعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم، ومن ثم التعاون في سبيل تحجيم “قوات سورية الديمقراطية” في شمال شرق سورية بما يحفظ أمنها القومي.
كان لافتًا الانهيار السريع لقوات النظام وداعميها، وعجز إيران عن مساعدتها، والتردّد الروسي في التدخل أو التدخل على استحياء، ما أوحى في البداية بوجود اتفاق تركي روسي في الخفاء. لقد تعرَّض التناغم الروسي التركي طوال السنوات الماضية لبعض الضعف، لأسباب يتعلق معظمها بالمصالح الاقتصادية التي كانت تعقد تركيا عليها الآمال، وأصبحت تركيا أكثر حرية في الحركة، ولا سيَّما أنها حاولت من خلال الروس والإيرانيين تطبيع علاقاتها مع النظام السوري لكن الأخير رفض.
بالنسبة إلى روسيا، أصبح الوضع السوري قريبًا من حالة “الوقوع في المستنقع” من جانب العودة إلى المشاركة في الحرب السورية فيما حربها في أوكرانيا ما تزال مشتعلة، ولذلك لا تستطيع روسيا زيادة عدد قواتها في سورية حاليًا نظرًا إلى حاجتها إليها في أوكرانيا، فضلًا عن إغلاق تركيا مضيقي البوسفور والدردنيل أمام السفن الحربية الروسية، وهذا لا يترك لموسكو سوى تعزيز الغطاء الجوي بصورة محدودة لقوات النظام السوري.
يقف النظام السوري في هذه اللحظة السياسية في الهواء، ولا سيَّما من الناحية العسكرية، بعد الضربات القاصمة التي تعرض لها حزب الله في لبنان وسورية، والسعي الأميركي الإسرائيلي لإنهاء تمدّد إيران خارج حدودها، وانشغال روسيا في المواجهة مع أوكرانيا. النظام مستمر اليوم استنادًا إلى توافقات عربية دولية وحسب، ولا يملك الوسائل اللازمة للاستمرار: فعدا عن الضعف العسكري، هناك اضمحلال ملموس داخليًا لسلطة النظام حتى في المناطق التي يسيطر عليها، وهناك التدهور الاقتصادي والنقص الهائل في الخدمات، علاوةً على النقص الهائل في الأموال والموارد اللازمة لإعادة إعمار البلاد. ومن ثم جاء الحراك العسكري في الشمال ليضرب سرديته حول قدرته على ضبط الأمور، وفي الحصيلة أصبحت الخيارات أمامه ضيقة جدًا، وانهارت معنويات عناصره الضرورية للقتال ولا سيَّما في حرب القرى والمدن.
تأمل “قوات ردع العدوان”، في الحد الأدنى، في كسب مساحات جغرافية ونقاط ارتكاز تسمح بإعادة صوغ القضية السورية وفق معادلات وموازين قوى جديدة، وتأمل في الحد الأعلى بإسقاط النظام السوري عسكريًا. على الرغم من أنَّ بعض الفصائل المشاركة في هذه القوات موصوفة بالإرهاب، فإننا لا نستطيع إنكار أنَّ الكتلة البشرية الرئيسة من القوات هي من السوريين الذين عانوا بفعل جرائم النظام، إذ يوجد نحو أربعة ملايين سوري في شمال غرب سورية، معظمهم من محافظات حلب وحمص وحماة وريف دمشق وغيرها، يعيشون أحوالًا قاهرة، وهناك قسم كبير منهم يعيشون في الخيام منذ سنوات، من دون أي آفاق بالخلاص. كان لافتًا الانضباط النسبي لهذه الفصائل بخطاب محدّد، متوازن نسبيًّا. وعلى العموم، لا يمكن وضع الجميع في سلة واحدة، فقد سمعت شخصيًّا خطابًا وطنيًا متقدِّمًا وعقلانيًا وديمقراطيًا جاء على لسان بعض الشخصيات (مثل عبد المنعم زين الدين وأحمد الدالاتي).
أما من حيث الأداء في الميدان، فكانت المخالفات أقلَّ كثيرًا مما عُرف عنها في السابق (حصلت بعض الانتهاكات الجسيمة ضد الكرد السوريين). وفي العموم، لا يمكن أن يكون أداء المشاركين في عملية “ردّ العدوان” الذين خبروا جميع صنوف القهر والظلم والموت والتشرد، في ظل تجاهل العالم لمأساتهم الكبيرة، كما نحب ونشتهي، لكنه كان مقبولًا نسبيًا قياسًا بما هو معتاد ومتوقَّع.
كانت هناك مكاسب فورية لهذا الحراك العسكري، منها عودة قسم من المهجرين إلى بيوتهم، والإفراج عن المعتقلين في مدينة حلب، وهما مكسبان إنسانيان ووطنيان. تُضاف إليهما إعادة القضية السورية إلى واجهة الاهتمام الإقليمي والدولي بعد أن تُركت مجمَّدة تمامًا لمدة خمس سنوات، فضلًا عن خلخلة النظام السوري، وتفنيد مزاعم انتصاره وقدرته على الحسم العسكري.
رابعًا: فصائل عملية “ردع العدوان”
لا بدَّ من أن نسأل أنفسنا، أمام أي عمل عسكري تنجزه فصائل مسلحة، عن ثلاث لحظات: اليوم السابق واللحظة الحالية واليوم التالي.
ففي اليوم السابق؛
- لم تقدِّم الفصائل العسكرية المشاركة في “عملية ردع العدوان”، في مناطق سيطرتها، نموذجًا يُعتدُّ به من حيث الديمقراطية واحترام الحريات وسيادة القانون ومنع تغول السلاح والإدارة الاقتصادية. وكان واضحًا أيضًا أنَّ الفصائل العسكرية قد بنت مناهج تعليم تتوافق ورؤيتها الأيديولوجية، وهيمنت على التعليم الجامعي، وتدخلت في لباس الطلبة، وحدَّدت المسموح وغير المسموح استنادًا إلى رؤية خاصة بها.
- لم تجتمع الفصائل العسكرية في مناطق شمال غرب سورية التي يُطلق عليها اسم “المناطق المحرَّرة” في مشروع واحد، فهناك مشروعات متباينة، ومتنافسة، ومتقاتلة، وكلها مرتبطة بالأجندة التركية بصورة أو أخرى. لم تجتمع الفصائل العسكرية مثلًا في جيش سوري يلتزم رؤية سياسية لسورية. كيف ستكون إدارتها للمناطق الجديدة التي وقعت تحت سيطرتها في ظل وجود حكومتين متصارعتين في الشمال الغربي: الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف وحكومة الإنقاذ التابعة لـ “هيئة تحرير الشام”، على الرغم من أن الحكومتين تحت السيطرة التركية؟
- كان هناك نحو 70 في المئة من الأرض السورية تحت سيطرة فصائل عسكرية معارضة، خلال 2012-2015، ونعلم ماذا فعلت في مناطق وجودها، وإلى أي حال بائسة وصلت. السؤال: هل تعلمت الفصائل الحالية من التجارب السابقة؟ هل خضعت لدورات تدريبية؟ هل تغيرت أدواتها وطرائق تفكيرها؟ منطقيًا، لا يثق البشر بأي عمل سياسي أو عسكري إلَّا بناء على التجربة الواقعية، ما يعني أنه ينبغي للثقة أن تكون مشروطة بالأداء الفعلي دائمًا. ما المؤشرات الإيجابية التي تشجِّع على الوثوق بفصائل “ردع العدوان”؟ إنَّ حالة التأييد السائدة اليوم، والتفاؤل الملازم لها، يرتكزان على كون العملية العسكرية تؤدي إلى كسر شوكة النظام وحسب، لكنَّ هذا غير كافٍ بالتأكيد.
أما بالنسبة إلى اليوم التالي؛ لا ينبغي للمسألة السورية أن تقتصر على مجرد استعادة جغرافيا وتوسيع مناطق سيطرة، فالأهم -كما ينادي السوريون ويطالبون- هو الكيفية التي يُدار بها البشر ومصالحهم وطموحاتهم في هذه الجغرافيا، وتكريس نموذج نظام حكم ديمقراطي رشيد فيها، وهذا بالطبع لا يمكن تحقيقه في ظل وجود مجموعات مسلّحة تستمدُّ مشروعيتها من السلاح ومن خدمتها لأجندات دول أخرى. ما الذي سيغري القاطنين في حلب أو سواها اليوم للانتقال إلى العيش تحت سلطة قوى الأمر الواقع الأخرى المتشبهة بالسلطة السورية؟ ما الذي يجعلنا نثق بأنَّ هذه الفصائل ستدير حلب وسواها بطريقة مختلفة عن إدارتها للمناطق الخاضعة لسيطرتها سابقًا؟!
خامسًا: ضرورات إسعافية في سياق الحدث
على الرغم من المخاوف والاحتمالات السلبية لعملية “ردع العدوان”، يمكن وضع بعض النقاط التي تفيد -من وجهة نظري- في التخفيف من السلبيات (وأحيانًا الكوارث) المتوقَّعة. فالسياسي لا يكتفي بتقويم الآخرين ونقدهم ورفض أدائهم، بل يساهم في وضع ما يعتقد أنه يشكِّل مخارج ممكنة في كل لحظة:
- ينبغي لقوات ردع العدوان الخروج من مدينة حلب والمدن الأخرى، والتمركز خارجها، وإنهاء أي مظاهر مسلحة تمنع الحياة الطبيعية، لأنَّ أيَّ عمليات عسكرية ضدها من جانب النظام وروسيا وإيران ستنعكس على المدنيين وستتسبَّب بتدمير المدن.
- التخلِّي عن نهج رسائل التطمين المبتذلة لما يُسمى “الأقليات” التي تؤدي مفعولًا عكسيًا، بل التخلِّي عن النهج كله الذي يبدأ بهذه الرسائل، ثم يذهب في اتجاه تطبيق الشريعة وفرض الحجاب وتديين المؤسَّسة التعليمية.
- هناك خطوتان حاسمتان في تطور الحراك العسكري إلى عمل يخدم جزئيًّا تطلّعات السوريين حاليًا وعلى المدى البعيد؛ تتمثل الأولى بأن تقوم الفصائل العسكرية بحلِّ نفسها والاندماج في جيش وطني سوري حقيقي يشرف عليه مجلس عسكري سوري مؤلَّف من ضباط وخبراء سوريين، وتتمثل الثانية بتسليم الراية لمجلس سياسي من السياسيين السوريين في الداخل بصورة أساسية، ولا سيَّما من الموجودين في مدينتي حلب وإدلب وريفيهما، إضافة إلى سياسيين مؤهّلين من المناطق الأخرى، من جميع القوميات والطوائف، ومن ثم ضبط حركة المجلس العسكري وفق قرارات المجلس السياسي ورؤيته.
- ربما يؤدي دخول الفصائل العسكرية إلى مناطق ذات تعقيد طائفي إلى أخطار كبيرة تهدِّد إلى زمن غير معلوم وجود سورية كدولة واحدة وموحدة، وهذا امتحان محوري لإنتاج وطنية سورية جديدة، فليس بالسلاح وحده يعيش البشر.
- يُفترض ألَّا يكون في خطة قوات “ردع العدوان” دخول المناطق التي توجد فيها “قوات سوريا الديمقراطية” لأنَّ هذا قد يؤدي إلى حربٍ ليست في مصلحة أحد مع الكرد السوريين الذين هم جزء من النسيج الوطني السوري. عاجلًا أم آجلًا سيتم الفصل بين “قوات سوريا الديمقراطية” وحزب العمال الكردستاني التركي، ولا سيَّما أن تركيا نجحت في بناء علاقة إيجابية نسبيًا مع كرد العراق وكرد تركيا.
- إن أي محاولة للدخول في معركة كسر عظم نهائية، أي إنهاء النظام عسكريًا تمامًا أو اجتثاثه كليًا، ربما تنتهي بحرب طائفية وفقدان السلم الأهلي. إنَّ التحدي الرئيس في مثل هذه اللحظات هو بناء السلم الأهلي فوق أي اعتبار آخر.
- ينبغي لقوات ردع العدوان ألا تركن إلى “سكرة الانتصار”. الغرور يعمي البصر والبصيرة، فليست هناك ضمانة لاستمرار الحال الراهنة، وقدرة الفصائل العسكرية على الانتشار تبقى محدودة، والمخاطر أكثر من أن تُحصى، وأعمق مما تبدو ظاهريًا.
- في مثل هذه اللحظات الحاسمة والخطرة، يقع على عاتق الأكثرية (العرب السنة) المسؤولية الأكبر في الحفاظ على السلم الأهلي واحتضان الجميع ريثما نخرج من هذه الحفرة، وحتى نصل إلى لحظة لا يكون فيها أكثريات وأقليات بهذه المعاني التي لا تتوافق مع الوطنية السورية والمواطنة المتساوية.
سادسًا: العوامل الحاسمة في مسار الحدث السوري
في تقديري هناك مجموعة من الحقائق المؤكدة والترجيحات المختلفة التي ينبغي استحضارها في قراءة المشهد ومساراته ونتائجه، لا ينبغي لنا نسيانها أو تجاوزها إذا أردنا بناء موقف سياسي عقلاني وخيارات تصب في إطار المصلحة الوطنية السورية:
- مسار القضية السورية في اللحظة الراهنة محكوم إلى حد كبير، بمصالح الدول الفاعلة وإراداتها (تركيا، روسيا، إيران، أميركا، دول الخليج) ووكلائها على الأرض، بصورة متفاوتة: (“هيئة تحرير الشام”، “قوات سورية الديمقراطية”، “الجيش الوطني السوري”، “حزب الله”، “الحشد الشعبي”، “الميليشيات العراقية”، “الجيش العربي السوري”… إلخ). ربما يؤول هذا الحراك العسكري إلى تثبيت عدد من المناطق ذات الحكم الذاتي (دولة موحدة ظاهريًا، وغير مقسَّمة رسميًّا).
- السوريون، في اللحظة الراهنة، هم الأقل تأثيرًا في واقع بلدهم ومستقبله، لكن هذا لا ينفي أن تزداد فاعليتهم تدريجًا إن هم نظَّموا قواهم وأتقنوا بناء مؤسسات سياسية حقيقية. في اعتقادي، سيدفع السوريون ثمنًا كبيرًا في ظل المعارك الدائرة والترتيبات الأمنية والصفقات السياسية التي ستقفز فوق معاناتهم وحقوقهم وآمالهم بالمستقبل، بحكم غياب الواجهة السياسية المنظمة والمتماسكة التي تجمع بين الرؤية السياسية الوطنية الديمقراطية، والبصيرة الاستراتيجية العميقة، والإخلاص للمصلحة العامة، بعيدًا من الحسابات الطائفية والقومية والفئوية والحزبية. إنَّ عدم وجود طرف سياسي سوري وطني ديمقراطي وازن ومعترف به شعبيًا، وقادر على التأثير في مجموعة الفصائل المشاركة في العمل العسكري، عنصر حاسم في الرضا الشعبي السوري العام، وفي كسب التأييد الإقليمي والدولي.
- تبقى العملية العسكرية “عملية ردع العدوان” رهينة الإرادة التركية والسياسة التركية، وليس محتومًا أن تتطابق الخيارات التركية مع الخيارات التي يأمل كثير من السوريين في أن تنحاز إليها قوات عملية “ردع العدوان”. ومن المنطقي أن تكون السياسة التركية محكومة بمصالحها القومية أولًا، وبعلاقاتها الإقليمية والدولية ثانيًا. أي تفاوض محتمل سيكون بين قوى دولية؛ أميركا وروسيا وتركيا وإيران، وإسرائيل بالطبع. أي أن نتائج عملية “ردع العدوان” ستكون في حوزة تركيا بصورة أساسية، لا في يد طرف سياسي أو عسكري سوري، ولا شك أن هناك تباينًا بين المصالح التركية ومصالح أي طرف سياسي أو عسكري سوري وطني، على الرغم من وجود تقاطعات بالطبع. وربما تكون الحصيلة تقاسم نفوذ بين الدول أو إنشاء نظام هش بتوازن قلق لا يستطيع أن يكون نظامًا وطنيًا ديمقراطيًا قويًا ومستقلًا.
- إنَّ المسار العام السائد في المنطقة هو تحجيم وجود الفاعلين ما دون الدولة، أي التنظيمات المسلحة الدينية، الشيعية والسنية، والتنظيمات القومية المتطرفة، وإضعاف أدوارها، لمصلحة استعادة دور الدولة حتى لو كانت هشة، وقد ساد هذا الخيار العام، بصورة عامة، بعد التيقّن من أن إيران تعيش على جيف الدول وتنتج الفوضى في كلِّ مكان تدخله. يجب أن يُؤخذ هذا المسار في الحسبان، وربما يُفعَّل في أي لحظة في سوريا، وتكون نتيجته ليس التخلص من الميليشيات الإيرانية في سورية وحسب، بل والجماعات المسلحة الأخرى من كلِّ لون، وتفعيل هذا المسار في سورية مرتبط بمساومات بين النظام السوري وكلٍّ من أميركا وتركيا وإسرائيل، وبمساعدة دول عربية بوضوح. وفي هذا السياق قد يخرج النظام السوري من ورطة الحدث الراهن أكثر قبولًا. يجب أن يُلاحظ أنَّ التنظيمات المسلحة التي تبدو قوية وعصيَّة على الهزيمة في لحظة ما هي في الحصيلة تنظيمات وظيفية تتوافق مع لحظة ما وحاجة ما، وليست لديها القابلية للاستمرار، وقد رأينا كيف تبخَّرت تنظيمات عديدة خلال السنوات الماضية؛ “داعش”، “جيش الإسلام”، “حزب الله”، “حماس”… إلخ، على الرغم من التباينات في ما بينها.
- تشير التجارب إلى عجز الجماعات العقائدية المسلحة عن بناء الدول بمعناها الحديث، وإلى عدم إيمانها بالديمقراطية، وإلى تدخلها في الحياة الشخصية للمواطنين. تصعب الثقة بالفصائل المسلحة عمومًا لأنها لا تتوافر على مرجعية وطنية، وليست لديها استقلالية، ولأنها تطلب في الحصيلة أجرتها من المجتمع والدولة (السلطة والاقتصاد)، كما فعل حزب الله في لبنان الذي استولى على الدولة اللبنانية وعطَّلها، فضلًا عن أن بعض هذه الفصائل شارك في أعمال عسكرية خارج سورية بما يخدم سياسات دولة إقليمية لا المشروع الوطني السوري، علاوة على أنَّ حملة السلاح، في الغالب، سيتعاركون في ما بينهم، كما تشير تجارب عديدة. كلُّ ما يأتي بالسلاح غير مضمون العواقب، ويحمل دائمًا كثيرًا من المخاطر، لذلك سيكون تعهد القوى المسلحة جميعها بتسليم سلاحها إلى الدولة المستقبلية عنصرًا مهمًا في بناء الدولة وبثّ الطمأنينة.
- على الأرجح، سيكون لهذه العملية العسكرية سقف محدود، إذ يُتوقَّع أنَّ التقدّم العسكري سيتوقف عند مدينة حماة أو على مشارف مدينة حمص في أبعد الأحوال، بحكم عوامل عدة؛ الضغوط الدولية على تركيا، القدرات المحدودة للفصائل على الانتشار على مساحات واسعة، وبحكم أنَّ الفاعل الرئيس ميدانيًا هو تنظيم مصنَّف إرهابيًا من جانب عدة دول، ولا سيَّما أميركا. لن تقبل أميركا، والدول الأخرى، بما فيها دول عربية، ولا سيَّما السعودية والإمارات العربية ومصر، بإسقاط النظام السوري على يد فصائل مسلحة. مع ذلك، قد تحدث مفاجآت أخرى في سياق هذا الحدث المتحرك. سيزداد الوضع تعقيدًا أيضًا في حال دخول مجموعات مسلحة عراقية وإيرانية، لكن يبدو أن قدرة إيران على هذا التحشيد قد تضاءلت كثيرًا بعد الرقابة الأميركية الإسرائيلية على تحركاتها.
- لن يذهب النظام السوري إلى التفاوض الفعلي مع أي جهة سورية معارضة أكانت سياسية أو عسكرية، وسيماطل دائمًا في هذا الاتجاه. بدلًا من ذلك، ربما يذهب إلى التفاوض مع الدول الفاعلة في الملف السوري، لكنه سيماطل أيضًا في هذا الاتجاه لأن اهتمامه الرئيس ينصبُّ على الاتفاق مع أميركا تحديدًا، ولهذا شروطه المعقدة
- لن يستسلم النظام السوري، وقد يعمل على خلط الأمور وتشجيع الفوضى من خلال تفجيرات في أماكن معينة، مثل الكنائس والأديرة أو غيرها، وإذا وصل إلى لحظة العجز عن إيقاف تحرك قوات “ردع العدوان” أو إلى لحظة ما قبل السقوط الفعلي، يُرجَّح أن يستخدم ما بقي من أسلحته الاستراتيجية، وستكون البلد عندها مدمرة وليس فيها حجر فوق حجر إلَّا في حال استبقت أميركا هذه اللحظة وسيطرت على هذه الأسلحة.
سابعًا: بناء موقف سياسي من الحدث
تناول السوريون التحرك العسكري لفصائل “ردع العدوان” بطرائق متباينة من حيث الموقف إزاءه وأهدافه ومساراته المتوقعة، لكنَّ الموقف السائد في صفوف أهل “الثورة والمعارضة”، مثقفين وسياسيين وناشطين وإعلاميين وعسكريين وبشرًا عاديين، هو التأييد والحماسة والتفاؤل. كان إضعاف حزب الله وإيران في لبنان وسورية مصدر ارتياح نسبيًا على مستوى الساحة السورية، لكن تغول إسرائيل كان، وسيبقى، مصدر قلق ورعب. وهناك أيضًا ارتياح عام إزاء كسر شوكة النظام السوري يقابله قلق ومخاوف عديدة تجاه المستقبل. هذه المشاعر المختلطة والمتناقضة طبيعية إزاء أحداث معقدة ومتداخلة ومتحركة.
هنا تظهر جملة من الأسئلة المشروعة راهنًا، وعلى المديين المتوسط والبعيد، والتي يُفترض التعامل معها بعقل مفتوح من دون شعارات واتهامات وتصنيفات تعوق التفكير الحر وبناء التوافقات الممكنة، ولا سيَّما أننا أمام حدث مفتوح على احتمالات عديدة، بعضها قد ينقلنا إلى لحظة متقدِّمة مغايرة لحالة الركود والموات والتشظي السائدة، وبعضها قد يأخذنا في اتجاه الفوضى والخراب الشامل.
في العموم، لا مصلحة للسوريين في جميع الحركات والتنظيمات المسلحة، بما فيها سلطات الأمر الواقع، ولا سيَّما أن بعضها مصنَّف في خانة الإرهاب مثل “هيئة تحرير الشام” و”حزب الاتحاد الديمقراطي”، وهما سلطتان من سلطات الأمر الواقع. وبالطبع لا مصلحة للسوريين في سلطة سياسية (النظام السوري) معزولة عالميًا ومتهمة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، ومرفوضة من أكثر من نصف الشعب السوري على الأقل. النظام السوري هو العقبة الرئيسة والكبرى أمام انتقال الشعب السوري خطوة إلى الأمام ليتلمّس طريقه إلى الحرية والكرامة، لكنه لم يعد العقبة الوحيدة، فهناك عقبات عديدة داخليًا وخارجيًا.
يمكن فهم رغبة كثير من معارضي النظام السوري في كسر شوكته وإضعافه بأي طريقة، لكن لا يمكن تسويغ تأييدهم السريع لفصائل عسكرية جرَّبها السوريون خلال السنوات الماضية، وخبروا انتهاكاتها لحقوق الإنسان وتحكّمها في حياة الناس واستبدادها في مناطق وجودها، مع أنَّ كثيرًا من السوريين، قبل التحرك العسكري الأخير، كانوا ينتقدونها ويتظاهرون ضدها. كلُّ تأييد ينبغي له أن يكون مشروطًا بالأداء الفعلي خطابًا وممارسة.
في ظل تعقّد الأحوال والتحليلات، لا بدَّ من وجود معيار لبناء موقف وطني وعقلاني تجاه الحدث الراهن، وهذا المعيار في اعتقادي هو معيار بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، العادلة والمستقلة، فكلُّ ما يقترب من هذا الهدف مرحب به، لكن هذا الهدف ما زال بعيدًا بحكم سيطرة العمل العسكري وغياب العمل السياسي الجدي. السياسة هي الغائب الأكبر عن الساحة السورية طوال أربعة عشر عامًا، والتشكيلات القائمة ليست أكثر من تشكيلات وظيفية أو منصَّات مؤقتة لا تبني سياسة ولا تستطيع أن تكون بديلًا سياسيًا للنظام السياسي القائم.
يجب أن تمايز القوى السياسية نفسها عن الفصائل العسكرية فلا تكون في ذيلها أو رهينة لها، وينبغي لها التخلص من الأفكار السطحية التي تزيد الطين بلة، تلك الأفكار التي تنطلق من وجود أفضلية للثورة على السياسة، على شاكلة “نحن ثوار ولسنا سياسيين أو معارضين”، فالسياسة هي الأعم والأشمل، وهي الضرورة الغائبة، ومن دونها لا قيمة لأي عمل عسكري، هذا إن لم يزد الطين بلة.
ثامنًا: النظام المقبل ومعيار الانتصار
وفق المعطيات الراهنة، والمسارات المحتملة، أيًا تكن السيناريوهات والنتائج العسكرية والمسارات التفاوضية المحتملة، سيكون “النظام السوري الجديد” المرتقب تكوّنُه، عاجلًا أم آجلًا، سواء في ظل مشاركة النظام الحالي فيه أو في ظل رحيله، نظامًا هشًا ومرتهنًا وعاجزًا على المستويات كافة، واستبداديًا في الجوهر على الرغم من شكلانيته الديمقراطية؛ وعلى السوريين أن يعدّوا العدّة لمعارضته ومقاومته فكريًا وسياسيًا وإعلاميًا ومدنيًا، إن أرادوا لآمالهم ومصالحهم أن تتحقق، ولتضحياتهم ألَّا تضيع. لذلك؛ كان رأيي، ولا يزال، تأكيد أهميّة ذهاب السوريين نحو تنظيم أنفسهم في قوى ثقافية وسياسية ومدنية جديدة، تنسجم مع قيم الحرية والكرامة، ومع رؤية جديدة لسورية والوطنية السورية. وهذا لا بدّ من أن يمر عبر إدارة الظهر لنظام الحكم القائم، وللجماعات العصبوية، الطائفية والعرقية، وللقوى والأحزاب الأيديولوجية، الإسلامية واليسارية والقومية. وحينذاك؛ يمكن أن نتفاءل ونتوقَّع ولادة تدريجية لسورية أخرى.
لا يعني المشروع الوطني السوري إحلال سلطة محلَّ سلطة أخرى وحسب، بل بناء دولة وطنية ديمقراطية حديثة، مستقلة وقوية، تنتفي فيها ظواهر الاستبداد من كل نوع. وإذا ما أخفق السوريون في تحقيق هذا الهدف السياسي، ستكون المعارك العسكرية، أيًا تكن نتائجها، هزيمة لسورية والسوريين.
المصدر: رواق ميسلون