يوسف موسى
هل كانت مصادفة أن يكون لقب “الخضراء” الذي حملته إدلب هو القدر الحتمي الذي سينطلق منها أخيرا ليمتد الأخضر، متشربا أخضر علم الثورة، ويحرر كل البلاد؟
مرت 13 سنة و9 أشهر منذ أن خفق الهتاف من حناجر السوريين إلى قلوبكم فدبت فيهم الحياة، أكثر من 5 آلاف يوم على حرب أشعل الأسد نيرانها على المدن والبلدات والقرى، منذ أول رصاصتين استقرتا في صدر محمود الجوابرة وحسام عياش في أول مظاهرة في درعا، لتتهاوى بعدها جدران الخوف، ويتهاوى معها الرصاص والصواريخ والبراميل، فسويت منازل بالأرض، حبست تحت ركامها أجسادا غضة بالكاد تفتحت عيونها على الحرية، صارت قبورها الدائمة، وكانت عيون الأهالي المصلوبة هناك فوق المذبحة شواهدها.
فجّرت الأيادي التي كتبت على جدران المدرسة في درعا “إجاك الدور يا دكتور” ثورة اجتاحت المدن والبلدات، وأعادت الأيادي التي خططت لـ”درع العدوان” رسم الخرائط وتكوين الجغرافيا، وكتبت نصّ الخاتمة وعنوانه “سقط الأسد”
من هنا بدأت
جابت الأصوات الغاضبة الشوارع والساحات، وتغير طعم الهواء في حلوق السوريين، بعد أن عبرت حلاوة الحرية منها، لم يعد من بعدها يقنعهم أي هواء. وكانت الأصوات ولودة، فالحرية تُعدي كل التواقين لها، تكسر الرهبة من الآخرين، ومن الموت، ورغم الهتاف الذي صدح من كل حنجرة “خاين يلي بيقتل شعبه”، اختار الآخرون أن يصموا آذانهم عنها، وأرسلوا الرصاصة تلو الرصاصة إلى صدور قابلتها بشجاعة لتلقى حتفها راضية، أملا في أن يكون لموتها معنى، أن يحرر موتها شعبا!
كم مرة قيل: لن تقدروا على الأسد؟
يفرض عنفوان الثائر الذهاب في المعركة حتى آخرها، وإن كان بصدر أعزل إلا من إيمانه، فقد قال الشعب الكلمة الفصل: “ارحل”.
هدير أصوات التكبير قرب المسجد العمري بدرعا، كان يقول إن النظام سقط. ومشهد الجموع التي تجري كأنها الطوفان العظيم من شارع سعيد العاص إلى ساحة العاصي في حماة، كان يقول إن النظام سقط. وجمع الزاحفين إلى ساحة الشهداء في دير الزور، كان يقول إن النظام سقط. وأفواج المصلين صلاة جماعة في ساحة الساعة بحمص كانوا يقولون إن النظام سقط. قطع الطرق الرئيسية عن الإمدادات العسكرية في إدلب كان يقول إن النظام سقط.. مع سقوط الخوف من القلوب، سقطت ألوهية العرش المتخيلة.
وقبل أن يستوعب الثائرون، وقعت المذبحة تلو المذبحة، من الأربعاء الأسود في درعا، ثم مجزرة ساحة الساعة في حمص، تلاها مجزرة جمعة أطفال الحرية في حماة، وبعدها اقتحام دير الزور بالدبابات.
لا شيء يكسرنا!
انكسرت فوهات البنادق والمدافع أمام الهتاف المستمر، وعلا فوق صوت الرصاص والقذائف والصواريخ. ولكن صار لدى الصوت بندقية تحرسه، وعين ترعاه. بندقية أخذت خيارها، ورفعت رايتها واضحة. وقبل أن يرتد الطرف من الجنوب إلى الشمال، كانت الخرائط قد تغيرت، وتمدد أخضر الثورة في المدن والبلدات، ونُصبت السواري في الساحات، ورفرف علمها عاليا.. لا شيء أبهى. وكان تحقيق الحلم قاب هتافين آخرين ورصاصة.
وفي كل هذا الجنون المطلق، كانت إدلب الخضراء منطلقا ومسندا ومحتضنا.
في وجه جيوش وطائرات، ودول مؤتمرات، وانبطاح ونكوص، ظلت إدلب واقفة، وصارت إدلب اختصارا لسوريا، تجمع تحت ردائها الدافئ، جموعا من المهجرين المقتلعين من بيوتهم، من كل الجغرافيا الممتدة
بالمناسبة، هي إدلب الخضراء لكثرة أشجار الزيتون في أراضيها. وقيل إنها صاحبة المدن المنسية، لتوزع مدن مهجورة منذ ألف عام في جبالها، وصارت إدلب نفسها منسية في بال الأسد منذ أن حاول أحد أبنائها اغتيال الأسد الأب في دمشق. فيمكن أن نقول أيضا: المدينة المنسية التي أعادت تموضعها في الخريطة بتحرير كل البلاد. وربما سيتعب الباحثون في أن يجدوا معركة واحدة على امتداد الأعوام الـ13 ونيف، دون أن يجدوا بصمة إدلب فيها واضحة. وهكذا فرضت إدلب على كل العالم أن يتذكرها جيدا، بأن تصبح على نشرات الأخبار داخل كل منزل.
ولكن، هل لاقت أصوات التحرير، وامتداد الأخضر آذانا وعقولا تفقه أن شلال الدم لا بد أن يتوقف؟
لم يكتف الأسد بقتل السوريين بأيدي السوريين، وتعميق الشرخ الذي بدأه أول مرة حين اختار الرصاصة على الكلمة، فحين تداعت أركان العرش، تداعت معها دول وجيوش وفيالق كي تسند هذا الميل لكي يهوي. سندته بجماجم السوريين، قتلى، ومعتقلين ومقصوفين ومحاصرين ومقتلعين من جذورهم. ولأن القوة كانت أكبر من مقدرة الثورة، انحسر الأخضر. وسقطت حصون كانت لا تسقط لولا أن حرقتها أكوام النيران، ودمرتها أطنان البارود.
غنى الساروت قبل أن يموت مدافعا عن أرض ألا تنحسر: سوريا ظلي واقفة، وكان الأدق أن يقال: إدلب ظللت واقفة.
في وجه جيوش وطائرات، ودول مؤتمرات، وانبطاح ونكوص، ظلت إدلب واقفة، وصارت إدلب اختصارا لسوريا، تجمع تحت ردائها الدافئ، جموعا من المهجرين المقتلعين من بيوتهم، من كل الجغرافيا الممتدة، وظلت هذه القطعة من البلاد المتمركزة في شمال غرب سوريا، تجمع السوريين دون أن تفرق بينهم، تؤوي من يأتيها مستجيرا، ولا ترد عنها سائلا. وكانت تحت رماد الاستقرار المتوهم، جمر يغلي على مهل، وخطط تُعد، وجنود يصنعون، وسلاح يتطور رويدا رويدا إلى أن حانت اللحظة الحاسمة، ودقت الساعة القاصمة.
بدأت “ردع العدوان”، وبينما كانت أعيننا على أن تتوسع المساحات الضيقة قليلا، ويعود بعض المهجرين إلى بيوتهم، كانت عيون المقاتلين على حلب وحماة وحمص، وأخيرا دمشق. وبلحظة خاطفة، وإذا بالخرائط تتغير بالدقيقة مرة ومرتين وأكثر. وانهارت كل القوة المتخيلة عما يمتلكه النظام وحلفاؤه. ولم تمض إلا 12 يوما حتى كانت قد فتحت أبواب دمشق السبعة أمام أبنائها. بلحظة واحدة تنفس مئات آلاف المعتقلين الهواء النظيف لأول مرة، وعشرات العوائل إن لم يكن المئات اكتشفوا أن ابنهم الذي أقاموا له العزاء قبل سنوات طوال، ما يزال على قيد الحياة.
وبينما كنا نتجه إلى الأمام نحو 2025، وإذ بنا نعود فجأة إلى 2011، لحظة الثورة، انعتاق من اليأس، شوارع وساحات تملؤها جموع المتظاهرين الهاتفين كل أهازيج الثورة. وتهدمت تماثيل استقرت طويلا في كل المدن، وكأنها تقول للمارة: أن هنا أراقبكم، أنا هنا دائما، جاثم على القلوب وفي العقول.
رحل الأسد، وسقط النظام!
حتى اللحظة ربما لم يستوعب السوريون ما حصل، فما يقرب 14 عاما من المعاناة، تنتهي كلها دفعة واحدة، وبلحظة واحدة، هذا أكبر من مقدرة الإنسان على الاستيعاب، ولكن فعلا، لقد سقط النظام. وتلك المساحة الخضراء من سوريا، التي لا تتجاوز مساحتها 11% من مساحة سوريا، كانت منطلق تحرير السوريين جميعا.
وإدلب الخضراء قد أخضرت كل البلاد.
المصدر: تلفزيون سوريا