مها حسن
شيء ما تغيّر في داخلنا نحن السوريين، وليس فقط على الأرض. في صباح إعلان سقوط بشار الأسد ورحيله عن البلاد، انتابنا إحساس جديد: أنه لدينا وطن.
عشتُ حياتي كلها، وكثيرون من أبناء جيلي، والذين بعدنا، ممن وُلدوا في ظل حكم عائلة الأسد، من دون الإحساس بالانتماء إلى الوطن، وبالخوف من هذا الوطن الذي يجبرك على الولاء لا له، بل لسيده وأبيه ورئيسه وقائده الخالد.
كانت سورية تعني الأسد، بل دعوها فعلا بسورية الأسد. لكن سورية تخلصت من الأسد، وصارت سورية فقط، من دون لواحق أو صفات تملّكها لأحد. … فجأة، صرت أمشي في شوارع باريس وأنظر إلى الناس ولسان حالي يقول: يا عالم سقط بشّار. … وأدندن في رأسي، وأحياناً بصوت مسموع، حين أكون في شارع شبه خال من المارّة: ارفع رأسك فوق، أنت سوري حر.. كأنني أولد من جديد، أسير منتبهة إلى رأسي المرفوع، وخطواتي الواثقة القوية على الأرض.
تقول إحدى السيدات في حسابها على “فيسبوك” إنها تعافت فجأة من الاكتئاب، وأنا شبه متيقنة، وإن لم أكن مختصّة بعلم النفس، بأن أهم أسباب الاكتئاب السوري كانت فقدان الأمل والمنفى القسري وعدم الانسجام مع الأمكنة خارج سورية.
الحاضر السوري مختلف وجديد، بل ومباغت في كل لحظة
شيء كبير، شيء يشبه الفجر بعد الليل، أو الدفء بعد البرد، طاقة من الفرح والأمل، انفتحت في قلوب السوريين، رغم ضبابية المشهد، ورغم أننا لا نعرف بدقة كيف ذهب الأسد وماذا سيحصل، لكن لا شيء ممكن أن يكون أسوأ من الأسد.
نقول النظام السابق، ولا نصدّق، نقول كان الأسد، ولا نتخيل أنه فعلاً صار في يوم واحد، في الماضي، وأن الحاضر السوري مختلف وجديد، بل ومباغت في كل لحظة.
مع الإعلام الفرنسي، الذي حاول أن يفهم مواقف السوريين وانطباعاتهم، وجدتني أكرّر من دون تفكير وصف: سورية الجديدة. حتى أن المذيعة سألتني ملتقطة وصفي: في سورية الجديدة، ما هي مخاوفك القادمة؟ سورية الجديدة جديدة بكل المعاني، سورية غير مُجربة بعد، سورية بعيدة عن وصفات الآخرين.
أغلب من حولنا، من أصدقاء عرب وفرنسيين ونساء على الأخص، يكتبون لي ويتحدّثون إليّ بحذر، ولكن ماذا عن الدولة الإسلامية؟ في لحظة انفعال، قلت لصحافي فرنسي: أنتم تتبعون الكليشيهات. انظر إلى التعليقات على حساب الرئيس إيمانويل ماكرون على منصة إكس، أغلب المعلقين، وأغلبهم فرنسيون، ومنهم عرب فرنكوفون، يلومون ماكرون بأنه يهنئ السوريين على سقوط بشّار الأسد، مذكرين إياه بسيناريوهات استلام الإسلاميين الحكم في تجارب سابقة. قلت للصحافي: صورة العالم عنّا لا تزال مأسورة بالمرجعيات، وكأنها قوانين حتمية، في سورية لا توجد حتميات، من كان يصدّق أن الأسد سيزول. …
سورية الجديدة جديدة بكل المعاني، سورية غير مُجربة بعد، سورية بعيدة عن وصفات الآخرين
إنها سورية الجديدة من دون حكم الأسد، من دون الخوف، سورية الكرامة والتعبير عن الأفكار والمشاعر من دون كوابيس الاعتقال، وقد رأينا في اليوم التالي لسقوط بشار ذعر المعتقلين المحرّرين من صيدنايا وغيره من السجون.
أدرك تماماً، أننا لسنا في الجنة، ولن تتحقق الصورة المحلوم بها لسورية الديمقراطية، المتنوعة، التي تحتضن جميع مكوناتها، في فترة قريبة، لكنني أعرف أن المستحيل قد تحقق، والشعب الذي استطاع إخراج الأسد وعائلته من البلد، سوف يتخبط قليلاً بسبب حجم الحرية الكبير الذي لا نعرف بعد كيف نستخدمه، نحن معتقلون قيل لنا: خلصت، اطلعوا. … فأين نطلع بغتة؟
ربما نحتاج لكثير من العمل الاجتماعي والذهني والنفسي، لنتمكّن من التفاهم في ما بيننا، بعدما اشتغل النظام على زرع الكراهية والخوف والتفرقة الطائفية، نحتاج إلى جهود كبيرة للخروج من تلك المدرسة، مدرسة الأسد الأب الذي زرع الرعب والحيطة والشك والدونية وفقدان المواطنة والانتماء. هناك الكثير من العمل في سورية الجديدة، للعمل على الكائن السوري الجديد، على المواطن السوري المنتمي، المحب لبلده ولشريكه في الوطن، وهذا الطريق طويل، لكنه سالك، بعدما رحل الأسد.
المصدر: العربي الجديد