مصطفى البرغوثي
شهدت الأسابيع الأخيرة تدهوراً غير مسبوق في العلاقات الداخلية الفلسطينية، وتصاعداً في الحملات الإعلامية المتبادلة، بالتوازي مع الأزمة المستفحلة في مخيم جنين، وقرار تعليق عمل قناة الجزيرة، وعودة ظاهرة الاعتقالات السياسية، والتهديدات. وما من شك أن الاحتلال وأعوانه يستغلون أجواء الخلافات والصراع الداخلي الفلسطيني، ويتدخلون لإذكاء نار الفتنة، ويحاولون استغلال الوضع لتمرير مخططاتهم الخطيرة. يجري ذلك كله على أعتاب تسلّم الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب منصبه، والذي يترافق مع تعيين مجموعة من أشد المناصرين لإسرائيل في مواقع حسّاسة في إدارته، وفي وقت يصعّد فيه الفاشيون الإسرائيليون تهديداتهم بالضم الكامل والتهويد للضفة الغربية، والتطهير العرقي لقطاع غزّة وإعادة الاستيطان الصهيوني إليه.
ولا يختلف أحد على أن التحديين الكبيرين اللذين يواجههما الشعب الفلسطيني هما خطر الضم والتهويد لكامل الأراضي الفلسطينية، وخطر التطهير العرقي الذي يشمل الضفة الغربية وقطاع غزة. ولا يحتاج حكام إسرائيل إلى ذرائع للاستمرار في جرائم الحرب الثلاث التي يرتكبونها، أو لتصعيد الاستيطان والاجتياحات الوحشية لمختلف مناطق الضفة الغربية. ولربما وجب التذكير بما هدد به وزير المالية الإسرائيلي والوزير في وزارة الجيش والحاكم الفعلي للضفة الغربية بتسلئيل سموتريتش، عند تسلّم حكومته المتطرّفة الحكم، وقبل 7 أكتوبر بسنة تقريباً، حيث قال “ستملأ إسرائيل الضفة الغربية بالمستوطنات والمستوطنين، حتى يفقد الفلسطينيون كل أمل بدولة مستقلة، وعندها عليهم أن يختاروا بين الرحيل (التطهير العرقي) أو الخضوع (العبودية الدائمة في نظام الأبارتهايد العنصري) أو الموت (الإبادة الجماعية)”.
ولم يقتصر سموتريتش على الكلام، بل باشر التنفيذ فوراً، من موقعه وزيراً في الجيش، مسؤولاً عن الضفة الغربية، ومن خلال تحكّمه في وزارة المالية، فأنشأ خلال عام 52 بؤرة استعمارية في الضفة الغربية، ومنها سبع في مناطق (ب) ضارباً بعرض الحائط الصلاحيات المدنية للسلطة الفلسطينية بحسب اتفاق أوسلو، بل أعلن تجريد السلطة من تلك الصلاحيات. وقامت حكومة نتنياهو بأكبر عملية سرقة ومصادرة لأراضي الضفة الغربية منذ بدء الاحتلال، وتصاعدت اقتحامات الوزير الفاشي بن غفير غير المسبوقة المسجد الأقصى، وصار إجراء الصلوات التلمودية فيه أمراً عادياً.
قد لا يمثل إعلان بكين اتفاقاً مثالياً، ولكنه بالتأكيد يمثل الاتفاق الأفضل
وبالإضافة إلى أكثر من 55 ألف فلسطيني قتلهم جيش الاحتلال في قطاع غزّة، قتل الجيش والمستوطنون الإسرائيليون، خلال عام، ما لا يقل عن 840 فلسطينياً في الضفة الغربية واعتقلوا أكثر من 12 ألفاً. كما جرت محاولات خبيثة لترويج الرواية الإسرائيلية المضلّلة، والتي تدّعي أن القمع والقتل والتهويد وجرائم الحرب سببها المقاومة الفلسطينية، لقلب حقيقةٍ يعرفها القاصي والداني بأن المقاومة هي نتيجة القمع الإسرائيلي وليست سببه.
ويفهم الطفل قبل الكبير العاقل أن تجريم المقاومة الفلسطينية اليوم يعني تجريم كل فعل مقاوم للاحتلال والضم والتهويد والتطهير العرقي منذ نشأت إسرائيل، ومنذ بدأت العصابات الصهيونية، بمساعدة الدول الاستعمارية، الاستعمار الاستيطاني الإحلالي لفلسطين في أواخر القرن التاسع عشر، بما في ذلك تجريم الثورة الفلسطينية المعاصرة التي أفشلت مؤامرة تهميش القضية الفلسطينية وتصفيتها. ومن الطبيعي أن ينتاب الفلسطينيين في الوطن والخارج شعور عظيم بالقلق، من تفاقم الصراعات الداخلية في غياب قيادة وطنية فلسطينية موحدة قادرة على مواجهة التحديات الهائلة التي تواجه الشعب الفلسطيني.
قد لا يمثل إعلان بكين الذي وقعته جميع الفصائل والقوى الفلسطينية الأربع عشرة في يوليو/ تموز الماضي اتفاقاً مثالياً، ولكنه بالتأكيد يمثل الاتفاق الأفضل، في الظروف الحالية، لوقف حالة التدهور والصراعات الداخلية، ولتجميع الطاقات الفلسطينية وتوحيدها، وصياغة استراتيجية وطنية موحدة ومشتركة لمقاومة مخطط التطهير العرقي والضم والتهويد، ولمنع حدوث نكبة جديدة تفوق في مخاطرها وآثارها نكبة عام 1948.
لم يعد هناك مبرّر للاستمرار في تجاهل إعلان بكين، ولا حاجة إلى بدء حوارات جديدة، بعد أن أُشبعت الساحة الفلسطينية بالحوارات والاتفاقات التي لا تجد طريقها إلى التطبيق
ينص إعلان بكين على خمسة أمور أساسية: أولاً، تشكيل حكومة وفاق وطني تشمل الضفة الغربية وقطاع غزة، وتمنع فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، وتسد الطريق على مخططات حكومة نتنياهو ترسيخ احتلالها للقطاع وتوسيع استيطانها للضفة الغربية، حكومة توحد المؤسسات الفلسطينية، وتباشر بإعادة إعمار قطاع غزّة وتعد لإجراء انتخابات عامة، يفتقدها الفلسطينيون منذ عام 2006. ثانياً، توحيد الجهود الوطنية، والوصول إلى وحدة وطنية شاملة تضم القوى والفصائل الفلسطينية كافة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. ثالثاً، تفعيل وانتظام الإطار القيادي المؤقت الموحد للشراكة في صنع القرار السياسي وفقاً لوثيقة الوفاق الوطني عام 2011. رابعاً، حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال وإنهائه وفق القوانين الدولية وميثاق الأمم المتحدة وحق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها ونضالها من أجل تحقيق ذلك بكل الأشكال المتاحة. خامساً، دعوة اجتماع الأمناء العامين لتشكيل نقطة انطلاق لعمل الطواقم الوطنية المشتركة ووضع أجندة زمنية لتطبيق إعلان بكين.
وافقت جميع القوى الفلسطينية ووقعت إعلان بكين المذكور، الذي بُني أيضاً على نتائج اجتماعات المصالحة السابقة سواء في موسكو أو القاهرة أو الجزائر. ولم يعد هناك مبرّر للاستمرار في تجاهل هذا الاعلان، ولا حاجة إلى بدء حوارات جديدة، بعد أن أُشبعت الساحة الفلسطينية بالحوارات والاتفاقات التي لا تجد طريقها إلى التطبيق.
لا يوجد سوى مخرج واحد، فعّال، وفوري لإنقاذ الشعب الفلسطيني والساحة الفلسطينية، والمستقبل الفلسطيني من خطر الصراعات الداخلية، وهو التطبيق الفوري والتنفيذ الجاد والمخلص لإعلان بكين. ذلك هو السبيل لسد الطريق على أعداء الشعب الفلسطيني ولتجنب الوصول إلى حالة ندم خطيرة، عندما لا ينفع الندم.
المصدر: العربي الجديد