فاطمة العيساوي
يبدو الخبر عادياً، إلا أنه ليس كذلك.. قرّرت منظّمة دينية أميركية تدعو إلى السلام في العالم (اللجنة الأميركية لخدمة الأصدقاء) سحب إعلان لها من صحيفة نيويورك تايمز، بعدما رفضت الأخيرة استخدام الإعلان كلمة “إبادة” في وصف العمليات العسكرية في غزّة. قالت المنظمة في ردّ غاضب على موقف الصحيفة إنه “محاولة بشعة لتجاوز الحقيقة”، إذ يكرّس خيارها في ما يتعلّق بقضايا الفلسطينيين وحلفائهم: “الصمت عوضاً عن المساءلة”.
ليس الخبر هنا أن المنظمة الأميركية قرّرت أن تقاطع الصحيفة الواسعة الانتشار لرفضها استخدام التعبير الذي يعدّ مثيراً للجدل بالنسبة للغالبية العظمى لوسائل الإعلام الأجنبي، الخبر أن وسائل إعلام غربية أخرى، منها صحيفة الغارديان البريطانية، نشرت تقريراً عن الخلاف بين الجهتَين، إذ ذكرت الأخيرة في تقرير إن حجّة “نيويورك تايمز” في رفض نصّ الإعلان لا تتناسب مع سياساتها السابقة في نشر إعلانات مماثلة، ومنها إعلان عن “الإبادة الأرمنية” يشكر النجمة كيم كارداشيان لموقفها الرافض إنكار هذه الإبادة، وإعلان في شكل رسالة موقّعة من باراك أوباما وهيلاري كلينتون وجون ماكين، تطالب بوقف الإبادة في دارفور في السودان.
اكتفى الإعلام العالمي طوال حرب الإبادة بمتابعةٍ سطحيةٍ ألغت معاناة الغزّيين، وأحياناً وجودهم
كانت “الغارديان” نفسها مسرحاً لنقاشات مماثلة خرج بعضها إلى الإعلام. في يوليو/ تمّوز الماضي، رفضت الصحيفة مساهمةً من الكاتبة الفلسطينية الأميركية سوزان أبو الهوى في سلسلة مقالات حول التصدّي للفاشية بسبب استخدام الأخيرة تعبير “الهولوكوست” في وصف حرب الإبادة في غزّة. اتضح بعد التحرّي أن الحظر على المقال جاء من رئيسة تحرير الصحيفة كاترين فينر، التي (برغم مواقفها السابقة المتضامنة مع القضية الفلسطينية)، اعتمدت سياسة رقابة قاسية، لخوفها من انتقادات القرّاء والصحافيين المؤيّدين لإسرائيل. في المقال المحظور، الذي نشر أخيراً في موقع نوفارا ميديا، كتبت أبو الهوى أن “إسرائيل ارتكبت هولوكوست العصر، وهي تقوم بذلك على مرأى ومسمع من عالم غير مبالٍ”. رفضت “الغارديان” نشر المقال بعدما رفضت الكاتبة استبدال كلمة موازية بتعبير “هولوكوست”. بحسب صحافيين يعلمون لدى “الغارديان” تحدّثوا للموقع، فإن رقابة فينر على المواد الخاصّة بإسرائيل باتت خانقة بما في ذلك منع نشر مقالات لكتّاب بعينهم، بمن فيهم أبو الهوى، ومنع كاتب المقال المشهور أوين جونز من الكتابة عن فلسطين، حتى في أكثر مراحل العمليات العسكرية الإسرائيلية بطشاً في غزّة. كانت الصحيفة قد وقعت في مأزق بعدما نشرت مقالاً للكاتب اليهودي هوارد جاكوبسون يدّعي فيه أن نشر الإعلام معلومات عن الأعداد الهائلة للأطفال الذين قتلتهم آلة الحرب الإسرائيلية نوع من معاداة السامية، إذ يُظهِر اليهود قتلةَ أطفال، بما يكرّس القوالب العنصرية التاريخية ضدّهم. دفع المقال الذي أثار ردّات فعل واسعة، بما في ذلك مقابلة ناقدة أجرتها صحيفة نيويوركر مع الكاتب نفسه، “الغارديان” إلى تقديم شبه اعتذار عبر نشر مقالة ناقدة لكاتبة يهودية انتقدت الأخير، بعنوان “لا تدع الأحقاد التاريخية تغطّي وحشية إسرائيل”.
النقاش حول المعايير المزدوجة لغالبية الإعلام الغربي والبريطاني في التعامل مع المواد الناقدة لإسرائيل بلغ ذروته في المواجهة الحالية، بين كاتب المقال في “الغارديان” أوين جونز، ورئيس تحرير قسم الشرق الأوسط في شبكة الإعلام البريطاني “بي بي سي” رافي بيرغ. كان جونز قد نشر مقالاً تحت عنوان “حرب أهلية في بي بي سي حول غزّة”، اعتمد على إفادات 13 صحافياً من المؤسّسة عن تدخّلات مسؤولين عن السياسة التحريرية لضمان انحياز رواية الحرب على غزّة للسردية الإسرائيلية، وبشكل خاص ضغوط من بيرغ، الذي يعتقد أنه من المعجبين بسياسات نتنياهو. يقول المقال بناء على هذه الشهادات إن المؤسّسة تجاهلت في الأشهر الماضية، ومنذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، اعتراضات صحافيين فيها طالبوها بالالتزام بقيم الحياد والإنصاف، التي يفترض أنها تحكم تغطيتها للقضايا الجدلية. دافعت المؤسّسة عن بيرغ معتبرةً أن سياساته التحريرية لا تعارض معاييرها، ورافضةً أيّ تهمة تحيّز سواء للإسرائيليين أو الفلسطينيين. في الوقت نفسه، تردّد أن بيرغ يعتزم مقاضاة جونز بتهمة التشهير مستعيناً بأحد أكبر المحامين في المجال، وهو أيضاً من مؤيّدي إسرائيل.
هل سنسمع ونشاهد روايةً جديدةً تنقل الواقع من داخل غزّة بفظاعاته؟
تقرير جونز من تسعة آلاف كلمة، نشر في موقع دروب سايت، الذي يقدّم نفسه “منظّمة استقصائيةَ غير متحيّزة، تكرّس جهودها لفضح جرائم الأقوياء”، وأثار مجدّداً النقاش عن تغطية الإعلام العمومي البريطاني حرب الإبادة على غزّة، ومقاربته غير المتوازنة للسرديتَين الفلسطينية والإسرائيلية، وغياب التغطية من الداخل. وكانت الشرطة البريطانية قد منعت مجموعةً من المشاركين في تظاهرة، الأسبوع الماضي، في لندن تضامناً مع غزّة من التوجّه الى مقرّ “بي بي سي” لوضع زهور في ذكرى أطفال غزّة، الذين قتلتهم الإبادة الإسرائيلية، ولم تقدّم لهم الشبكة الاعتراف الواجب بإنسانيتهم.
تدخل التغطية الإعلامية لحرب الإبادة على غزّة مرحلةً جديدةً مع دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، الأسبوع الماضي، إذ تنتقل رواية الحرب من مسؤولية الصحافيين المحليّين، الذين قتل ما لا يقل عن 150 منهم بالقصف الإسرائيلي (وبعضه متعمّد)، إلى حيّز الإعلام العالمي، الذي اكتفى طوال حرب الإبادة بمتابعةٍ سطحيةٍ ألغت معاناة الغزّيين، وأحياناً وجودهم.
هل سنسمع ونشاهد روايةً جديدةً تنقل الواقع من داخل غزّة بفظاعاته أم أننا سنعود مجدّداً إلى رواية معقّمةٍ تختصر قبح القتل السادي لتركّز في التطوّرات العسكرية وحسابات الربح والخسارة بين الطرفَين، وتقيم موازنةً غير واقعية بين عملية محو مجموعة بشرية كاملة، في مقابل خسارات محدودة لدى الطرف المقابل بحجّة التوازن؟ هل سينصف الإعلام أخيراً غزّة بأن ينقل فظائع إبادة لم يرضَ غالبية هذا الإعلام حتى باستخدام الكلمة في وصفها؟
المصدر: العربي الجديد