معن البياري
ليس سرّاً أن الملك عبدالله الثاني كان يستحْسن (أو يتمنّى على الأصح) فوز كامالا هاريس في انتخابات الرئاسة الأميركية أخيراً، لأسبابٍ ليست عصيّةً على التخمين، منها أن شخصيّة دونالد ترامب منفّرة ومستفزّة، ولا تقيم اعتباراً لما يلزَم أن يكون له اعتبار، لا في شؤونٍ بروتوكوليةٍ وفي حفظ المقامات فحسب، بل في عدم الالتزام بأعرافٍ دبلوماسيةٍ محضة أيضاً، ووجوب التحفّظ وعدم الاسترسال في أي كلامٍ كيفما اتفق. وعندما يصرّح، أول من أمس، بما أبلغ به الملك، فإنه لا يحترم أصولاً يُفترض أنها بديهيّة في شأن مكالمةٍ هاتفيةٍ بينهما، سيّما أنه في الذي أفضى به في طائرته الرئاسية لصحافيٍّ كان يتحدّث إليه استخدم لغةً توحي بتوجيهٍ منه إلى مُخاطِبه عبدالله الثاني، وسيفعل الأمر نفسه في مكالمةٍ ربما أجراها أمس الأحد مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. إنه يقول إنه أبلغ الملك بأنه يودّ من الأردن أن يستقبل سكّاناً من غزّة بشكل دائم، بداعي الدمار هناك. ولأن ترامب لم يكشف عن ردّ الملك عليه، فإن عمّان مطالبةٌ بإيضاح ما جرى في هذه المهاتفة الحسّاسة، وبالتشديد مجدّداً على رفض أي تهجير، من أي نوعٍ وبأي صيغة، من أيّ أرضٍ فلسطينيةٍ إلى الأراضي الأردنية.
لا يحسُن أن تشغلنا عدم كلاسيكيّة ترامب غير التقليدي، عندما يخوضُ بعضُنا في قراءة سياساته، المنظورة والمتوقّعة، فالملحّ الذي يجدُر أن يشغلنا كيفياتُ المواجهة العاجلة للمشروع الذي يدور في مخّ الرئيس المذكور، أي تهجير سكّانٍ من قطاع غزّة إلى الأردن ومصر، سيّما وقد راقت هذه الفكرة للمأفونَين، سموتريتش وبن غفير، ووصفاها بأنها عظيمة ورائعة. ولا نظنُّه سيكون ردّاً على ترامب أن يُذكَّر بحروبٍ ضد المهاجرين إلى بلاده، افتتح بها أيامه الأولى لولايته الرئاسية المتجدّدة، فيما لا يرى حلاً بشأن أوضاع أهل قطاع غزّة المدمَّر (يعفّ عن ذِكر مرتكب التدمير) غير تهجيرهم إلى الجوارَيْن المصري والأردني. وإنما الردّ، في أول خطواته، يكون بإعلان رفضٍ باتٍّ لأي محاولةٍ من رئيس الولايات المتحدة وطواقمه تمرير مشروع التهجير الفلسطيني الذي تُرتّب له الحكومة الإسرائيلية من الضفة الغربية وقطاع غزّة. وفي خطوةٍ ثانية، تنشيط حراك سياسي وقانوني ودبلوماسي في العالم، لكي تتحمّل إسرائيل أكلاف إعمار قطاع غزّة، لمسؤوليّتها المباشرة عن التحطيم والتدمير الباهظيْن هناك، بالتوازي مع توفير شبكاتٍ ماليةٍ وإغاثيةٍ وإنسانيةٍ لمساعدة أهل غزّة من أجل تمكينهم من الصمود والبقاء، وتأمين مرافق التعليم والصحة، وذلك كله في ورشةٍ كبرى، بخبراتٍ فلسطينيةٍ وعربية، وبعونٍ من الأمم المتحدّة، وبإشرافٍ من السلطة الفلسطينية متوافقٍ عليه مع المقاومة، على أن يسبقها حسمٌ لاستدامة وقف إطلاق النار.
ليس في مقدور ترامب أن يفرض على الأردن ما يرفضُه الأردنيون الموحّدون على إسناد أهل غزّة بكل أسباب الثبات والتمكين، غير أن هذا مرهونٌ بإرادةٍ سياسيةٍ عليا حاسمة، وروافع عربية ضرورية (سعودية ومصرية مثلاً). وإذا قال من يقول إن الخصومة مع الولايات المتحدة بمثابة انتحارٍ لدولةٍ ذات إمكاناتٍ متواضعة فهذا صحيح، غير أن أحداً لا يطلُب هذه الخصومة، بل يلزم الحرص على علاقات طيبة مع هذا البلد ورئيسه وإدارته ومختلف مؤسّساته العليا، وفي المقدور أن يعرف صنّاع القرار في واشنطن مصالح الأردن العليا وموجبات أمنه واستقراره (واستمراره)، إذا ما اشتغلت دبلوماسيةٌ أردنيةٌ قديرةٌ ومثابرةٌ تستفيد من خبرات العارفين، وإنْ ثمّة بعض الصعوبة في جُهدٍ ملحٍّ كهذا مع وجود وزراء ومستشارين ومسؤولين رفيعين حول ترامب شديدي الهوس بالفاشية الإسرائيلية، وجاهلين بالمنطقة، ويعشّش في أفهامهم استسهالٌ في اتخاذ القرارات، وذلك مع انكشافٍ عربيٍّ ظاهر، من تفاصيله الركيكة أن حكّاماً عرباً يستطيبون هذه الزمرة في البيت الأبيض، ويأنسون إليها، وأن ثقافة مجتمعيةً واسعةً كانت ترى الخردل أخا الخلّ في مسألة ترامب وهاريس.
ليس من حاجةٍ إلى تأكيد الخطورة البادية في الذي جهر به ترامب عن ترحيل الغزّيين إلى الأردن ومصر، غير أن الحاجة شديدة الإلحاح إلى أداء سياسي وإعلامي أردني قوي، واضحٍ بلا لعثمة، لا يستجيب لهذا الكلام الأميركي الفالت، ويجهر برفضه ومواجهته، وفي وُسع هذا الأداء أن ينجح، إذا ما ارتكز على انتصار الشعب الأردني لشقيقه الفلسطيني في القطاع والضفة… فلننتظر ونرَ.
المصدر: العربي الجديد