سيف الدين عبد الفتاح
بين الكتابة التاريخية وفلسفة التاريخ وحركته، يولد الوعي التاريخي، الوعي بالتاريخ تعريفاً وتوظيفاً، بأنه فهم وتدبّر للأوضاع التاريخية وآثارها في الحاضر والمستقبل، والوعي بالتحدّيات المزمنة والقدرة على مواجهتها وفق أصول علمية ومنهجية. ويُعدّ سؤال التاريخ ومسألة الوعي التاريخي حقيقةً خلدونية، إذ ظلّ ابن خلدون (1406) من أهم هؤلاء الذين أسهموا في صدر مقدّمته في بناء الوعي التاريخي والوعي بالتاريخ، سواء الوعي بالتاريخ ذاته وما يحيطه من مؤثّرات، أو بوعي التاريخ وحضوره في حياة الناس وطرائق حياتهم ومجمل ثقافتهم. وما يلفت النظر، اختيار ابن خلدون مصطلح “العِبَر” لكتابه في التاريخ، إذ يعبّر عن رؤيته للتاريخ، الذي يرى فيه فنّاً من فنون المعرفة، أساساً ومؤثّراً في الحياة الاجتماعية في الحال والاستقبال.
طوّر ابن خلدون تعريف التاريخ، فعرّفه بقوله “فنّ التاريخ الذي تتداوله الأمم والأجيال… هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يُعدّ في علومها خليق”. يعكس هذا التعريف فكرته عن التاريخ، فهو فنّ من فنون المعرفة، يحوي أخباراً عن الزمن الماضي، غير أن هذه الأخبار ليست كلّ شيء في التاريخ؛ إنما هي الصورة التي تبدو لنا، هي محصلة لحركة أخرى في هذا الكون غير مرئية، ولشكل من العوامل وفعلها المفرد أو المتضافر، الذي بموجبه تحدث الأحداث والوقائع، فالمحصّلة التي نراها في التاريخ (الأخبار) هي بنت الصلة بين الحركة العامّة والعوامل الخاصّة الظرفية، وهي مع الكيفية التي يقع بها الحدث، ويُكتَب في شكل خبر، تشكّل جوهر التاريخ.
التاريخ في مفهوم ابن خلدون له وجهان ظاهر وباطن. ظاهره يخبر عن الأيّام والدول والسوابق من القرون الأولى، وتنمو فيه الأقوال والأمثال المضروبة، أمّا باطنه فالنظر، والتدقيق، وتعليل الكائنات، والعلم بكيفيّة الوقائع، وأسباب حدوثها، وبذلك يكون التاريخ عريقاً، وعميقاً، وجديراً بأن يكون علماً يوقفنا على أخبار الأمم الماضية وأخلاقها، وسير الأنبياء، والملوك في سياساتهم ودولهم، وذكر أخبار تعود لعصر وزمن معيّنَين. كما يخبر التاريخ عن الاجتماع الإنساني، فموضوع التاريخ في نظر ابن خلدون يدور حول الإنسان وأعماله، وما تحمله من أسباب ومبرّرات ونتائج، ولذلك كان واعياً برصد أسباب أخطاء المؤرّخين، ومن أهمها الاعتماد على النقل فقط، وعدم أخذهم طبيعة العمران، وكذا الأسباب المتعلّقة بالمنهج، والابتعاد عن الاستقامة والعدل والوقوع في التحيّزات إلى مذاهب وآراء معيّنة.
موضوع التاريخ في نظر ابن خلدون يدور حول الإنسان وأعماله، وما تحمله من أسباب ومبرّرات ونتائج
يجب أن يكون الوعي بالتاريخ أن يكون عمرانياً وفلسفياً في آن، أمّا عن عمرانيته، فإن التاريخ يعتبر سيرورة العمران البشري، والمعرفة التاريخية هي تدوين هذه السيرورة؛ ذلك أن “حقيقة التاريخ؛ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يَعْرِض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال؛ مثل التوحّش، والتأنّس، والعصبيات، وأصناف التغلّبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال”. أمّا عن فلسفته، فالتاريخ ليس مُجرَّد سرد لأحداثٍ ووقائع، إنما هو دراسة وتحليل هذه الوقائع، ومعرفة السبب وراء حدوثها، وتأثيرها في الإنسان، ودوره في صنعها، والاهتمام بدراسة الوقائع دراسةً كليّةً، لتُستنبَط القوانين التي تحكم حركة المجتمعات والسنن القائمة والفاعلة، وتقرأ دور الإنسان في صناعة التاريخ، واستشراف المستقبل.
ومن مؤشّرات الوعي الخلدوني بالتاريخ توقّفه الدقيق والعميق على أسباب أخطاء المؤرخين، ومن أهمها الاعتماد على النقل فقط، وعدم أخذهم طبيعة العمران، والأحوال في المجتمعات، وقواعد السياسة، وأصول العادات بعين الاعتبار، وكذا الأسباب المتعلّقة بالمنهج مثل عدم قياس الحاضر بالماضي، والغائب من التاريخ بالشاهد عليه، وعدم تنقية الأحداث التاريخيّة من الأخبار الكاذبة، وتحرّي الصدق فيها، وكذلك البعد عن أخذ التبدّل في الأمم والأحوال، واختلاف الأجيال عند النظر إلى التاريخ، والابتعاد عن الاستقامة والعدل والوقوع في التحيّزات إلى مذاهب وآراء معيّنة، وعدم تحرّي الدقّة، وكذلك ميول بعض المؤرّخين إلى التقرّب من أصحاب السيادة والمراتب الرفيعة، فتظهر أخبار لا تمتّ إلى الحقيقة بصلة، يكثر فيها المديح والثناء على أصحاب المراكز العليا وسلطانها.
العبرة ترتبط دوماً بفئة معيّنة من البشر، تتصف بكمال العقل والرشد والتبصّر والخشية والتقوى والإيمان
المقصود بالوعي التاريخي، كما يحدّده توفيق الطيّب، في مقاله الضافي “الوعي التاريخي وقضاياه: كيف دخلنا التاريخ وكيف خرجنا منه وكيف نعود إليه”، أنه “الفهم العقلي والذهني والتعايش الوجداني والمعنوي الذي يحوّل الذاكرة التاريخية والحضارية الخاملة إرادةً واعيةً للهُويَّة، فيرسم بذلك الخريطة الحضارية للأمة، تلك الخريطة التي تصون ماضيها وتضيء حاضرها وتحدّد استراتيجيات مستقبلها، وينشأ عن ذلك الوعي الفعل المجذّر تاريخياً، على طريق صناعة المستقبل”. من رحم هذا الوعي الحضاري والتاريخي تتشكّل أركان خمسة:
أولها النظر التاريخي من منظور الوعي الحضاري بين التدبّر والتدبير، يجعل من التاريخ، ليس مُجرَّد دراسة نظرية للواقع، بل يتعدّى ذلك إلى ضرورة تعلّم ما وراءه من عمل، وهو ما يجد سنده في القرآن الذي يطلب من المؤمنين أن يسيروا في الأرض، وينظروا ويتأملوا الأحداث الماضية، لكي يجدوا لها تفسيراً بأعينهم في حاضرهم ويبصرهم بمستقبلهم، وجاءت فكرة التاريخ تجسيداً لطبيعة رسالة المسلمين خاصّة، والإنسان عامّة، في الحياة الدنيا، المتمثلة في الخلافة الإنسانية وإعمار الأرض وبناء الحضارة وفق سنّة الله وفقهها، بما يكفل لهم حسن العاقبة، ذلك أن الفعل التاريخي نتاج لتفاعل الإنسان مع السنن الإلهية، ومن أهم الوسائل للكشف عن هُويَّة فاعله والوعي بالذات. ويبرُز من خلال هذا الفهم للتاريخ أنه ينبني على العبرة هدفاً منهجياً، كما يستند إلى النموذج التاريخي أداةً منهاجية.
ثانيها العبرة والاعتبار في قراءة التاريخ، للانتقال إلى قراءة الاستثمار؛ العبرة هدف منهجي، لقد استخدم القرآن المادّة التاريخية باعتبارها وسيلةً تربويةً وتعليميةً، وذلك بتوجيه الفكر البشري نحو التقاط الحوادث بوصفها عبراً، وهو ما يُعدّ أعظم تجديد فكري من ناحية النظر إلى التاريخ وما يدور في الزمن، إذ ترجع أهميتها المنهاجية في تحديد مسار البحث التاريخي باستنباط تلك العبرة أولاً وتطبيقها ثانياً، بحيث تشتمل النظر والعمل في حركة شاملة لا تتجزّأ، وهذا الشمول لا يعرف الفصل بين الماضي والحاضر والمستقبل، بل يجعل من حلقات الزمن الثلاثة إطاراً للتفاعل في تحقيق الهدف المنهجي من الدراسات التاريخية، فالعبرة وإن كانت موقفاً حاضراً يُتّخذ، إلا أنها تمتدّ إلى ماضٍ يجب التعلّم منه والاعتبار بحوادثه، كما تمتدّ لتشمل الوعي بتشكيل الحركة مستقبلاً لعدم تكرار الخطأ، وتجنب سوء العاقبة والجزاء، ذلك أن العبرة ترتبط دوماً بفئة معيّنة من البشر، تتصف بكمال العقل والرشد والتبصّر والخشية والتقوى والإيمان.
ثالثها فكرة النموذج التاريخي، وتعتبر أداةً لدراسة التاريخ بما يحقّق الهدف المنهجي من تمام الاعتبار ونصحه، إذ يُعدّ أحد عناصر بناء إطار الحركة السياسية وتقنين الخبرة التاريخية وجعلها أساساً، من خلال المقارنة بين المواقف لوضع قواعد الحركة، وتتطلّب تلك المقارنة عمليات ثلاث، وهي اكتشاف تلك المواقف، والتأكّد من مقوّمات التشابه، واقتطاع هذه المواقف وإخضاعها لعملية البحث والتحليل، بما يعني الخبرة من حيث عاقبتها (نجاحاً أو فشلاً) ومقوماتها، ومستوياتها وأسبابها، ويقدّم ذلك في النهاية الأساس لبناء نموذج الحركة الذي يعني مواجهة المستقبل في ضوء الدلالات المستخلصة من الماضي. إذاً يُعدّ النموذج التاريخي أداةً منهاجية في التوظيف المثمر والفعّال، فضلاً عن الاستثمار الرمزي للأحداث والأشخاص.
فكرة النموذج التاريخي، أداة لدراسة التاريخ بما يحقّق الهدف المنهجي من تمام الاعتبار ونصحه
رابعها السنن وقوانين الانتظام السنني، وتشييد أصول الوعي التاريخي. السنن هي التي تعطي وتضفي عناصر القيمة في الرؤية الكونية، وتضفي القيمة على التاريخ وأحداثه ومساراته و”أيّام الله”، والاعتبار بأحداثه قيمة تحرّك الوعي بالسنن وفعلها، كما تضفي على الاجتماع الإنساني وسنن عمارته وسنن فساده وسنن انحرافه وسنن ترقيته، وعلى النفس فهماً وفاعلية، فهي تجعل من عمران النفس والاجتماع والتاريخ والكون مدخلاً مهمّاً لعمران المستقبل وإضفاء القيمة على التفكير في المآلات، وتدبّر حركة المستقبل وفاعلياته.
خامسها النظر المستقبلي في عمق الفعل الحضاري والحدث التاريخي، والعبور من حركة الزمان الماضي عبر الحاضر إلى ساحات المستقبل استشرافاً وصناعةً.
الوعي التاريخي بمكوّناته الخمسة في صلب سؤال التاريخ والذاكرة الحضارية، وفي قلب مسألة النهوض وخياراته ومساراته، وهو الحافز لفكرة الهُويَّة المنفتحة استجابةً حضاريةً دافعةً رافعةً لحركة التجدّد الحضاري المطلوب.
المصدر: العربي الجديد