أسامة ابو ارشيد
تلك حكمة يعجز كثيرون عن إدراكها واستيعابها. الولايات المتحدة ليست مؤسّسة خيرية أو إنسانية، وهي، بالنسبة إلى الضعفاء والمعتمدين عليها، ليست حليفاً دائماً وموثوقاً، بل قد تتغير مقارباتها وحساباتها حين تقتضي مصالحها ذلك، وحينها تضع الأخلاق تحت قدميها، وتصمّ أذنيها عن أنين وعويل من ظنّوا أنفسهم حلفاء لها. خبرت فيتنام الجنوبية ذلك عام 1973 عندما انسحب القوات الأميركية تاركةً إيّاها لمصيرها المحتوم أمام فيتنام الشمالية. أيضاً، خبر شاه إيران الأمر نفسه في 1979، عندما سقط في ثورة شعبية من دون أن يأتي دعم واشنطن. وفي 1986 تخلّت الولايات المتحدة عن الديكتاتور الفيليبّيني فرديناند ماركوس، لينتهي به الحال خارج الحكم. وفي 2011 ذهبت مناشدات الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك واشنطن أدراج الرياح، فكان أن سقط نظامه. وفي 2020، فاوض الأميركيون حركة طالبان على الانسحاب من أفغانستان من دون إشراك “حليفهم” الرئيس الأفغاني حينها، أشرف غني، ولم تكن الولايات المتحدة قد أنهت انسحابها العسكري من البلاد في أغسطس/ آب 2021، عندما سقط نظام غني أمام زحف “طالبان”، وسيطرتها على العاصمة كابول. ذلك غيض من فيض، فتاريخ تخلّي الولايات المتحدة عن حلفائها وخيانتهم قديم ومتكرّر، وهو ماضٍ ومستمرّ ولن يتغيّر، لكن يبدو أن هناك من لا يفهم، أو لا يريد أن يفهم، مثل أكراد سورية. أمّا المثال الراهن والأوضح اليوم فتراه في أوكرانيا.
على مدى الأيام القليلة الماضية، انشغل الإعلام الأميركي والعالمي بهجوم الرئيس دونالد ترامب القاسي على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي وصل إلى حدّ وصفه إيّاه بـ”الكوميدي المتواضع”، و”الديكتاتور الذي يحكم من دون انتخابات”، فضلاً عن اتهامه بـ”التلاعب” بالولايات المتحدة، تحت إدارة جو بايدن، وإقناعها بإنفاق “350 مليار دولار على حرب لا يمكن كسبها” ضدّ روسيا. لم يكتفِ ترامب بذلك، بل اتهم زيلينسكي ومن حوله بنهب نصف المساعدات الأميركية، إذ إنها “مفقودة”، وطلب تعويضاً عن ذلك تنازل أوكرانيا للولايات المتحدة عن 50% من معادنها النادرة، التي تقدّر قيمتها بنصف تريليون دولار. وفوق هذا وذاك، أطلق ترامب مفاوضات أميركية روسية في العاصمة السعودية الرياض (الثلاثاء 18 فبراير/ شباط الجاري) لإنهاء الحرب في أوكرانيا، بما يضمن احتفاظ روسيا بأجزاء واسعة من الأراضي الأوكرانية، من دون أي تشاور مع كييف أو الشركاء الأوروبيين.
منذ الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022، دعمت واشنطن كييف في حرب مدمّرة ومكلفة، وبسبب القيادة الأميركية وتوحيدها إلى حدّ كبير الموقف الأوروبي وراءها، تمكّنت أوكرانيا من إعاقة الهجوم الروسي الكاسح، وترتيب كلف استراتيجية وعسكرية باهظة على موسكو، وصلت إلى حدّ شنّ هجوم مضادّ، والتوغل في الأراضي الروسية. ما كان ذلك ليتم لولا المساعدات العسكرية والاقتصادية الهائلة، التي قدمتها الولايات المتحدة وأوروبا لأوكرانيا، إذ قدّمت واشنطن 119 مليار دولار (وليس 350 مليار دولار كما يزعم ترامب)، في حين أنفقت أوروبا 138 مليار دولار. وبعد عودة ترامب الثانية إلى البيت الأبيض، تغيّرت المعادلات والحسابات الأميركية، إذ إن الرئيس الحالي متشكّك في الانخراط الأميركي في حروب خارجية لا تعود بنفع مباشر على بلاده، ويرى أنها تستنزفها. هنا قد يقول بعضهم (محقّاً)، إن لترامب ثأراً شخصياً مع زيلينسكي، إذ إرفض في 2019 التجاوب مع ضغوطه فتح تحقيق حول المرشّح الديمقراطي للرئاسة ومنافسه حينها جو بايدن، وابنه هانتر، حول صفقات تجارية قام بها الأخير في أوكرانيا، حين كان والده نائباً للرئيس في إدارتي باراك أوباما (2009 – 2017). تسبّب تسرّب خبر المكالمة الهاتفية بين ترامب وزيلينسكي حينها إلى عزل ترامب الأوّل من مجلس النواب الأميركي عام 2020. ورغم حضور هذا المعطى في تفكير ترامب لا يمكن اختزال كامل المشهد فيه.
ما يفعله ترامب استكمال لما اقترفته الولايات المتحدة تحت إدارة بايدن، من تمكين إسرائيل من تدمير قطاع غزّة
كما سبقت الإشارة، هذا سلوك أميركي قديم متجدّد. لم يكن الرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون، الذي اتخذ قرار الانسحاب من فيتنام رئيساً شعبوياً كما ترامب، بل كان من أعمدة السياسة الخارجية الأميركية التقليدية. ينسحب الأمر نفسه على الجمهوري رونالد ريغان، وموقفه من الفيليبين عام 1986، وكذلك على الديمقراطي جيمي كارتر في موقفه من شاه إيران عام 1979، والديمقراطي أوباما وخذلانه مبارك عام 2011، وبعد ذلك بايدن وتخلّيه عن غني في أفغانستان عام 2021. الجديد في ما يفعله ترامب خلطه ومماهاته بين ما هو شخصي تعاقدي، في مقارباته السياسية والسلوكية، وموضوعي وانتهازي، وتعاقدي كذلك، في صلب عقيدة السياسة الخارجية الأميركية. بالنسبة لترامب، ليس ثمَّة فواصل هنا بين الشخصي والموضوعي، ولكنهما يلتقيان في النتيجة. ورغم ذلك، تعجب وأنت تتابع كثيراً من التحليلات الأميركية التي تتعامل مع ما يفعله ترامب في السياق الأوكراني، وكأنه حالة شاذّة عن القاعدة الأساسية في السياسة الخارجية الأميركية، مع أن هذا غير صحيح، اللَّهم إلّا لناحية الفجاجة والصراحة والشعبوية التي تميّز خطاب ترامب ومواقفه ممّن سبقه من رؤساء أميركيين.
هذا في السياق الأوكراني. … ماذا عن السياق العربي؟ ألم يُعرِّ ترامب بعض أركان النظام الرسمي العربي في موقفه الداعي إلى تهجير سكّان قطاع غزّة، بذريعة تطوير القطاع عقارياً، وتحويله إلى “ريفيرا الشرق الأوسط”؟ ألم يقل إن مصر والأردن، البلدَين اللذَين يطالبهما باستيعاب مئات الآلاف من سكّان القطاع المنكوب، يتلقّيان مساعدات عسكرية واقتصادية أميركية، ومن ثمَّ عليهما ردَّ الجميل؟ ألم يلمّح إلى أن بلاده تقدّم الحماية لدول الخليج العربي، التي يريد منها إعمار قطاع غزّة بمئات مليارات الدولارات لكي تنعم الولايات المتحدة وإسرائيل بفوائد منتجعات “سواحله الجميلة”؟ الحقيقة إن ما يفعله ترامب هو استكمال لما اقترفته الولايات المتحدة تحت إدارة بايدن، من تمكين إسرائيل من تدمير قطاع غزّة تدميراً مبرماً، وارتكاب جريمة إبادة وحشية فيه جعلت منه غير صالح للحياة. هذا هو جوهر السياسة الخارجية الأميركية الانتهازي والتعاقدي، وترامب مجرّد عنوان فجٍّ لها، عرّى توحّشها من دون رتوش ومساحيق تجميل.
المصدر: العربي الجديد