محمود خزام
في ذكرى صاحب صوت أقوى ( صرخة غضب ) عابرة للوجع والشجن والدمع الحارق الخارق للروح والقلب ودقاته..
مع مرور السنين قد تخوننا ذاكرتنا وتخفي وتغيّب شيء من التفاصيل المفرحة منها والحزينة..
لكن حين يأتي صديق او رفيق درب ويكون بالأصل ( شاعر ) ويحرك جزء من ذاكرتنا المشتركة ومخزونها ( النَدي ) مثل مافعل اليوم العزيز راسم المدهون.. فلا بد لهذه الذاكرة الشخصية إلا الاستجابة، والمشاركة بالبوح الذي لايمكن لها ان تنسى الكثير من تفاصيل تجربة “نضالية استثنائية” تشاركنا فيها الراحل الغالي محمد القيسي وانا، ومعنا رفاق واخوة درب كثر من بينهم الشهداء ( خليل الزبن وتيسير الشهابي وعبد العزيز ابراهيم) في المكتب الاعلامي والصحفي للشهيد والزعيم الفدائي الراحل ابو عمار في منطقة حمام الشط في تونس…
واليوم وبمناسبة ذكرى رحيل محمد القيسي ” العشرون” بودي الكتابة عن ” الغارة الإسرائيلية” على مقر ابو عمار في منطقة ( حمام الشط) في تونس صباح يوم الفاتح من تشرين اول / أكتوبر ١٩٨٥، التي استخدم فيها طيران العدو الإسرائيلي أحدث الطائرات المزودة بأحدث الصواريخ الفراغية الفتاكة لاغتيال ابو عمار وباقي القيادة التي كان من المتوقع أن تعقد اجتماعا استثنائيا صباح ذلك اليوم..؟!
التفاصيل حول هذا الأمر كثيرة وقد تناولت جزءا منها في مناسبات سابقة. لكني اليوم بودي الحديث عن الغارة الاجرامية وتداعايتها ونتائجها الانسانية المؤلمة..
بعد الغارة بساعة او اكثر قليلا، ذهبت إلى حمام الشط بعد وصولي برفقة القائد ابو عمار والقائد ابو إياد والطيب عبد الرحيم وباقي الأخوة المرافقين فجرا إلى تونس.. ذهبت لتفقد مكتب القائد العام ومكتبنا الصحفي المواجه له..عند سكة القطار المتواجدة عند مدخل حمام الشط وقفت السيارة التي كانت تقلني ومعي بعض مرافقي ” الختيار”.
وكان مشهدا مريعا وكأن زلزالا مدمرا حصل في المنطقة.
الغبار الكثيف والناس تركض في كل الاتجاهات، ونحن لانرى شيء من المنطقة الواسعة أمامنا وكل البيوت مدمرة وهي عبارة عن ( كومة) من الغبار والحجارة وكأن الأبنية لم تكن موجودة بالأساس..
وصلت مكتب القائد العام ومكتبنا الصحفي ووجدت الراحل محمد القيسي يركض في كل الاتجاهات ووجهه وجسده ولابسه معفرة بالتراب بالكامل.. ناديته وركضت نحوه وحضنته وبدأ يتلمسني يقبلني ويبكي بشدة ويقول لي : انت عايش اخوي ابو الفهد واستطرد : الختيار عايش والباقي اللي معاه شو صار فيهم / وقتها ولان القيسي معنا في المكتب الصحفي كان يعرف ان اجتماعا سيعقد صباحا في مكتب القائد العام / أخبرته ان الختيار وباقي القيادة بخير، وكنا على وشك الانطلاق نحو حمام الشط حين ابلغ الختيار بالغارة.. وقتها شدني بقوة وقال : طيب خلينا ندور على تيسير وباقي الشباب والصبايا.. وبدأنا نبحث بين الحطام والركام ولم نجد او نتعرف إلا على جثتين، جثة الشهيد ” شكيب” المدير الإداري لمقر ابو عمار وجثمان مسؤولة جهاز اللاسلكي الشهيدة ” هدى”. وتابعنا البحث علّنا نجد تيسير الشهابي لاننا كنا قد شكلنا ” ثلاثي” مميز بالأفكار والرؤى والمزاج داخل المكتب الصحفي..
وحتى يكتمل المشهد ويصبح أكثر ( تراجيديا ) بالقيمة والمعنى ،ذهبنا إلى كل المستشفيات التي نقلت اليها الجثامين والجرحى، وفي كل مكان كانت ( صرخة ) محمد القيسي الحارقة للقلب والروح والفضاء والتي لايمكن ان انساها ماحييت، وهي تدوي بالاحتجاج المجبول بالدمع والقهر والبكاء الذي لم أشاهده من احد..؟!
وحين وصلنا للمستشفى الاخير بعد ساعات من البحث والتعب.. وجدنا جثتا ( تيسير وعبد العزيز) مسجيتان في دُرجينْ فوق بعضهما..
الحبيب الفنان عبد العزيز تعرفنا عليه بسرعة من خلال لباس الفدائي ” الفوتيك الاخضر،الذي اعتاد عليه في تونس.. اما توأم الروح والعمر الحبيب تيسير فقد تعرفت عليه من خلال ( قلم حبر ) كنت احضرته له معي بعد رحلتنا الماراثونية الطويلة ووصلنا برفقة الشهيد ابو عمار تونس عند الفجر، وقبل حدوث الغارة بسويعات قليلة..
كانت جثة تيسير مشوهة بالكامل من الأعلى وكان يضع القلم في جيبة سترة ( السفاري ) التي كان يلبسها..
وحين قلت للقيسي هذا ثالثنا تيسير يارفيقي، انهار محمد بالكامل وأصبح صراخه ” يهدّ” الجبال وهو يوجه السباب نحو الجميع، حكام واحزاب ودول ، وشاركته الصراخ والدموع ولحق بنا كل من كان حولنا، من ممرضات واطباء وموظفين واناس ممن تواجدوا هناك..
ولقساوة المشهد وسخونته وصل بعض رجال الشرطة للتهدئة، وسقط محمد على الأرض مغشيا عليه، ونقل للاسعاف..
وبقينا هناك لآخر الليل، ثم نقلونا إلى بيت احد الأصدقاء وكان يسكن بالقرب من منطقة حمام الشط…؟ !
بقينا محمد وانا سويا، نلتقي كل يوم وعن الركام والحطام، نتذكر الأحبة بالدمع والضحك والغناء والشرب، ومحمد عاد ولجأ لمحبوبته ( القصيدة ) وألف واحدة عن تيسير وحبيبته التشيكية ( اولغا ) وفي بعض الأحيان كان يطلب مني غناء بعض ابياتها..
وحين جاء يوم تركي تونس و ذهابي إلى أثينا لمتابعة إصدار( النشرة ) بعد اغتيال مؤسسها ورئيس تحريرها الأول
( الشهيد ميشيل النمري ) حاول ثني عن الموضوع واختلف مع الراحل خليل الزبن واحتج على ابو عمار، ثم امام اصراري
قبل بالأمر، كل ماكنا نلتقي يحضنني ويقول : بعرف انك فدائي.. بسًّ بدي اياك اضّل طيب.. آخوي ورفيقي ابو الفهد..
ومرات كثيرة كنت اطلب منه الكتابة ل ( النشرة ) وكان يضحك ويقول : هل تنشرون الشعر.. اجيبه نعم لأجلك سأخصص صفحة او اكثر للشعر…
ولم يستجب إلا مرة واحدة، وكانت بعد ( اعلان الاستقلال )
في العام ١٩٨٨، وكتب ( مقالة نثرية ) ولا أجمل..
وقمنا بنشرها كإفتتاحية للعدد الاستثنائي للنشرة والخاص بالمجلس الوطني واعلان الاستقلال..
وسأقوم بنشرها في وقت قريب جدا ليعرف الجميع أن هذه الافتتاحية ( الخالدة ) هي للشاعر الإنساني الاستثنائي
الفدائي محمد القيسي…
يا شفق الليل
لم تعد الخيل
ياشفق الصبح
أين هو الرمح
غابت علي الشمس
يامهرتي سيري
خوفي يفيض الكأس
ويكون تقصيري
عودا على بدء
سأرتب الايام
ماكان من عبء
او كان من أحلام
لذكراك البهية ونتاجك الأبهى ياشاعرنا النبيل…الورد والمجد
الصورة بالأبيض والأسود في المكتب الصحفي والاعلامي في تونس..
كعادته يده فوق خده….
المصدر: صفحة محمود خزام