ها أنا ألقي مرساتي أخيراً، بعد سنوات عديدة من الإبحار في بحر مضطرب، تمزقت خلالها أشرعتي ، ولم يعد “الترقيع” ينفع معها ، كما أن قاربي ذاته بات مخلعّاً يئن ، ويتوسل كي يستريح في ركن بعيد عن تلك الأمواج الشرسة التي قضى عمره كله يصارعها …
هذا كله يضاف إلى الأصل ، وهو أن البحّار ذاته قد وهنت قواه ، وبات بالكاد قادر على أن يلملم جراحه … المشكلة محصورة ، إذن ، في العثور على شاطئ آمن بعيد عن التوحش ، وخاصة التوحش البشري…، كي يلقي مرساته عليه ويستريح ، هكذا حلمت بمساحة من الضوء بعد سنوات العتمة ، وبلقاء أناس مختلفين عن الأنماط التي عرفتها حتى الآن ، لكن ماذا أقول ..؟ ، كيف سأقدم نفسي ..؟ ، بل هل مازال أحد يقبل التعامل مع هذا النموذج الفاشل من البشر …؟.
أعترف ابتداء أن الأمر لن يكون بالسهولة التي تصورتها فأنا من جهة لا أريد أن أسّتدر شفقة من ألتقيهم بالحديث عن الأحداث المأساوية التي شهدتها ، ولا أريدهم أن يصابوا بالاكتئاب، والإحباط ، لكن ، ورغم قناعتي بأن القلم ليس خير وسيلة للتعبير، في مثل هذه الحالات الشديدة التعقيد ..فإنني سأحاول، ما استطعت إلى ذلك سبيلا ، أن أنقل إليكم ذلك الحلم، الذي مر أمامي كشريط سينمائي، عندما غفوت من الأعياء ذات مساء من يوم 28 أيلول “سبتمبر” 1961 عندما فصلوا الإقليم الشمالي عن الجمهورية العربية المتحدة وبدأت الكوابيس تتكرر في ذلك اليوم من كل عام ، هدنة تتوج أيلول الأسود في الأردن ، جمال عبد الناصر يغادرنا في ذات اليوم ، وصولاً إلى “هدنة الزبداني – كفريا” هذه القاذفات والمقذوفات والأساطيل والمدرعات حيث تحتشد حشود متعددة الجنسيات في البر والسماء والبحر لا نعرف إن كانت تستهدفنا أم تستهدف بعضها بعضاً ، أو الحالتين معاً … أياً كانت الإجابات يجب أن أجد مخرجاً من حالة العجز والفشل وإلقاء المسئولية على الغير …!
وأعترف ثانياً، أنني استنفرت أدواتي كلها، علنيّ أبدو أكثر عصرية ، وليونة ، فأخرج من جلدي ، وأكف عن جلد أصدقائي بتلك المواضيع التي أرقتني ، وما زالت تؤرقني علني استرجع بعض الود مع أصدقاء هجروني بسبب مواقفي الحادة ، لكن مشاعري المحّملة بما اختزنته من سنوات الصمت تأبى إلا أن تلقي كل ما في جعبتها دفعة واحدة ، وبالتالي من الصعوبة بمكان .. القيام بعملية الفرز ، والتصنيف، والترقيم، والتقديم، والتأخير … إنما سأحاول التغلب على ذلك …!.
وأعترف ثالثاً أن ذلك “الحلم” بالانقلاب على الذات لامس رغبة مكبوتة لدي على ما يبدو حيث حاولت من خلال مشاهد هذا الحلم أن اطلّ بحلة جديدة في محاولة لتغيير ( اللوك ) علني أبدو خفيف الظل كي أزيل عن الأذهان صورة المشاغب ، العجوز ، العبوس ، القومي العربي ، الشوفيني ، الديماغوجي ، العاطفي ، الطوباوي ، المتشدد، والمتخشب ..، المهزوم ، المنكسر في أحلامه ، وفي وجوده … ذلك أن القوميين العرب أمثالي قد استهلكوا كافة أشكال الشتائم، ومرادفاتها ، وأخواتها، للإمبريالية، والصهيونية، والرجعية، وإلى آخر نظم الاستبداد …،ونسوا أو تجاهلوا نقد أنفسهم…، لابد من نقد ذلك الزمن الذي كنا فيه نهرب من المواجهة الفعلية إلى تهريب شريط مسجل لشاعر صعلوك لمجرد أنه يرمي الحكام بـ ( أولاد “…. ” هل تسكت مغتصبة) ونعتبر ذلك قمة النضال حيث كنا، نسمعها مرة، ونكرر، ونعيد، حتى ننتشي، ثم نغط في نوم عميق … ليس لأن تلك الشتائم لا تليق، على العكس تماماً.. لكن، لأنها لم تعد تفي بالغرض منها.. ذلك أن الأفعال والممارسات التي يمارسها أولئك….. تجاوزت في أبعادها كل ما أبدعه أجدادنا من مصطلحات الهجاء، رغم غنى ذلك القاموس الهجائي العربي.. وبالتالي فإنني أحيل هذا الأمر إلى الجيل العربي الجديد عله يدخل تلك الأفعال الجرمية التي يمارسها الحكام وتجار السياسة في بطون الكمبيوترات ويتوسل إليها أن تعينه في إنتاج مصطلحات جديدة تليق بتلك الأفعال، والممارسات … لكن لأن ذلك لا يغني الممارسة الفعلية للتنظيم والتأطير واتباع النهج القويم للتغيير الإيجابي في الواقع …!
وبما أنني أحاول أن أكون أمينا لإحداث “الحلم”، كما تراءى لي، في تلك الليلة الليلاء ، فإنني سأواصل سرد اعترافاتي ، أو كي أكون صادقا، سرد ما أجرؤ على سرده منها ،لأنني مشدوه، كيف تجّرأ “صانع الأحلام” أن يعرض لي بعض المشاهد البالغة الخطورة عن ، وعن…. ، لكن ، ورغم سعادتي ب”اللوك الجديد”، لا أضمن المضي قدماً فيه ، خاصة في ظل هذه الأوضاع المضطربة ، فقد أعود في أية لحظة إلى حلتي القديمة التي قد لا يحتملها أحد .. وأعود إلى إحياء تلك الفكرة التي راودتني طيلة سنوات العزلة ، وتتمثل في أنني ، في يوم ، ما ، سأستثمر كل ما لدي من أدوات وإمكانيات لفظية ، وأبدأ باستدراج أكبر عدد ممكن من المواطنين إلى “زاوية” شبيهة بتلك “الزوايا” التي انتشرت في عصور الانحطاط السالفة ، أو إلى “رباط” من تلك “الرباطات” التي أبدعها أجدادنا المتصوفين رفضاً للاستبداد المتوحش من الأعلى ، ورفضاً لاستلاب “المستبد بهم” من الأسفل … فتحولت تلك ” الزوايا”، و”الرباطات” في ذلك الزمان إلى خلوات للتطهر من أدران الواقع المتردي ، يتحاور فيها أولئك المتصوفون ، يقرأون ، يتبادلون الآراء ، يرقصون على جراحهم حتى الثمالة … ويشهرون سيوفهم عند الحاجة للدفاع عن الثغور .. دون الالتفات إلى السلاطين، والمتسلطين عليهم …هكذا حلمت باستحضار تلك التجربة ، ولعل الفكرة تصبح مقبولة في هذا الزمن اللا عربي ، الأكثر انحطاطاً بما لا يقاس من ذلك الزمن السابق …!
لابد، أن احتجاجاً، عارماً، قد تصاعد ، ووصل إلى حد رمي هذه الكلمات، وصاحبها بشتى النعوت … ينطلق من سؤال مشروع يقول : ما علاقة كل ما تقدم بعنوان هذا الحديث : ماذا جرى ، وماذا يجري، في دنيا العرب … ؟ ، لن أتهرب من الإجابة لكن سأدخل إليها عبر سؤال يقول: هل يوجد عاقل، في هذه الدنيا، يمكن أن يصدق، أن مواطنا عربياً ، أيا كان ، تعرض لسلب”99,9 بالمئة من حقوقه الأساسية يمكن أن يجيب على السؤال عنوان هذا الحديث ..؟ نحن العرب، أيها السادة، آخر من يعرف ماذا جرى، وماذا يجري في وطننا …؟، ذلك أن توفر المعطيات، والمعلومات الحقيقية شرط المعرفة، وبما أننا كعرب مجرد وقود في لعبة تدور بين لاعبين يقتحمون وطننا العربي من الجهات الأربع، ويحتكرون وحدهم المخططات، والمعلومات..، والأدوات..، فإن كل ما نملكه وحتى إشعار آخر هو (التبصير) ..؟.. ترى ما هي الخطوة القادمة؟ إنهم يقضمون الأرض العربية، والحقوق العربية، والثروات العربية، والوجود العربي، خطوة، خطوة …، وهم من يقرر الخطوة القادمة…
إنني، لا أدعو لليأس، على العكس تماماً.. فأنا على يقين أن هذه الأمة عصّية على الأعداء، فمنذ عقود، يديرون اللعبة … واللاعبين، ومشروع الأمة غائب تماما، ورغم ذلك كلما همّوا بإعلان (إنجاز المهمة) بموت الأمة العربية يكتشفون أن الطريق أمامهم مازالت طويلة …
الآن، كل أولئك الغرباء لا يعنون لي شيئاً … ما يعنيني، أن مشروع استئناف مسيرة التحرر والنهوض، والتنوير في الأمة العربية ينتظر جيلاً عربياً جديداً يثق بقدراته الذاتية يطرح الأسئلة لا ليهرب من الإجابة عليها، وإنما للبحث في عمقها، وتمحيصها: كيف نبدأ النهوض؟، من أين؟، من أي واقع ؟، ومتى ؟، وبأية وسائل ..؟ وهذا كله … يبدأ بتغيير صيغة السؤال المطروح الآن، والذي يوجه للجيل العربي الجديد: مع من أنت ..؟ مع هذا أو ذاك؟، مع مشروع فلان أو علان؟، لتكون صيغة السؤال: من أنت ..؟ من نحن ..؟، ما هو مشروعنا نحن..؟؟ كيف نحققه نحن …؟ .
إن البحث عن إجابات على هذه الأسئلة، يستحق العناء. ذلك أنه عندما نصل إلى إجابة محددة، ونعرف من نحن ؟، وماذا نريد نحن، لا ماذا يراد لنا؟ عندها، وعندها فقط، قد نعرف، ماذا جرى، وماذا يجري في وطن العرب؟، ومن ثم ماذا سيجري في المستقبل …..؟؟
هكذا … بين بداية هذا الحديث، ونهايته فشلت محاولة تغيير “اللوك”، أكثر من ذلك إنه 28 أيلول “سبتمبر” يوم بداية انكسار الحلم، الحلم الذي منحته ما مضى من العمر، وله ما تبقى منه، إن مأساة اليوم ولدت في ذلك اليوم من عام 1961 إنه الانفصال، ثم إنه اليوم الحزين لاغتيال جمال عبد الناصر، ومن ثم إلى أحزان الحاضر والمحنة السوداء التي تأبى المغادرة.!