مدخل:
برزت في الآونة الأخيرة، وخاصة بعد انطلاق ثورة الحرية والكرامة في سورية، أواسط آذار 2011، مسألة تمظهر الهويات الفرعية أو الأولية لأفراد أو مجموعات، والمقصود بهذه الهويات هو النزوع الفردي والجماعي؛ لتعريف الذات أو الجماعة بانتمائها إلى طائفة أو قبيلة أو منطقة بعينها، والنظر إلى الآخرين (الشركاء في المجتمع) بالمنظور ذاته؛ باحتسابهم ذوي انتماءات من هذا القبيل.
وقد تدخلت هذه الهويات (التي يمكن تسميتها أيضاً هويات صغرى) في وعي الكثير من الأفراد والمجموعات، محل الهوية الوطنية الجامعة، وفي أضعف الأحوال فقد تقدمت وطغت عليها أحيانا وأقصتها، كما حلت محل الروابط المدنية؛ كالانتماء إلى مهنة أو نقابة أو حزب أو جمعية.
وفي غير مكان في سورية فإنه يُلحظ بروز هذه الظاهرة، وخاصة في المناسبات التي يتم فيها استنفار الناس وتحشيدهم. ومن الملفت أن الظاهرة أخذت في البروز حتى لدى دول ومجتمعات عرفت بروابطها الاجتماعية المتقدمة، وبغلبة الارتباط بالوطن والدولة على أي ارتباط آخر، كحال مصر التي تبرز فيها أيضا ظاهرة الروابط العائلية والمناطقية في الانتخابات العامة. ناهيك عن العراق فقد شاعت مفاهيم المناطقية والجهوية والقبلية والطائفية في الحقبة الأخيرة، ويبدو أن الخارج هو من يؤسس لذلك، والذي يعمل جاهدًا على مبدأ المحاصصة المحلية والطائفية. وهذا سينعكس على مختلف نواحي الحياة، وهو ما يسترعي الانتباه والوقوف عنده. في سورية كان بروز هذه الظاهرة يتزامن مع شيوع حالة الدفع الطائفي التي يقوم بها النظام الأسدي، مع تصاعد هدير الثورة السورية، أمام عجز النخب عن مخاطبة الجمهور والتأثير فيه، وكذلك عجز مؤسسات الثورة الجديدة والمجتمع المدني المفترض، عن نشر أفكارها ورؤاها وتطبيقها في مفاصل الحياة العامة، وإخفاقها في اعتماد معايير الوعي الوطني ؛ بل إن هذه الظاهرة طفت على السطح، رغم ادراك الكثيرين خطرها المحدق، في وقت تتذكر فيه الأجيال المتقدمة في العمر، أن المجتمع السوري والمجتمعات العربية لم تكن تعرف هذه الظاهرة قبل نصف قرن أو أكثر في مرحلة مقارعة الهيمنة الأجنبية والكفاح من أجل الاستقلال، رغم أن المجتمعات كانت أقل تعلماً، ورغم محدودية وسائل الإعلام آنذاك، ونقص وسائل السفر والتنقل. حيث كانت الهويات الوطنية الجامعة هي الغالبة على وعي الناس، يرفدها انتماء قومي وروحي وإنساني يتعدى حدود القطر الواحد.
وعموما فإن الهويات الفرعية هذه لم تنبت من فراغ، فالوحدات الاجتماعية من عائلة وعشيرة وقبيلة وطائفة وأبناء منطقة، كانت قائمة وتفعل فعلها في حياة المجتمع والأفراد؛ لكنها لم تكن لتؤثر في مسيرة الحياة المجتمعية اليومية، أو حتى السياسية، وهو ما آلت إليه لاحقاً بالتدريج والتراكم؛ وذلك نتيجة الإخفاق في مشروع بناء الدولة الدستورية الحديثة، بعد هيمنة الدولة الأمنية، وتفشي العصبوية الطائفية، وافساح المجال من قبل السلطة الحاكمة ، لانتشار ظواهر ما قبل وطنية، من طائفية، وعشائرية، ومناطقية، وهو يشير أيضا إلى عجز العلمانيين والليبراليين والقوميين عن مواجهة موجة الأصولية التي باتت تتغلغل في كل المفاصل، وليست الأصولية الدينية فحسب، بل الأصولية الفكرية، حتى مع وجود فكر يساري، أو أممي ، حيث لم تلبث أن تحولت إلى أصولية اجتماعية وثقافية كارهة للمدن والمدنية؛ وهو ما أدى إلى شيوع حالات من النكوص إلى الذات والتقوقع ، بفعل جملة العوامل والظروف السابقة، التي تفاعلت ، وتغذت بعوامل إضافية؛ مثل الفقر والبطالة والنزوح من الريف إلى المدن؛ ثم كانت جريمة العصر وهي التهجير القسري الذي يمارس ، أمام مرأى العالم أجمع ، ليخرج علينا بعض مدعي الانتماء للمجتمع المدني، فيبرروه ، ويحسنوا صورته، ليصبح في منظارهم مجرد (هندسة ديمغرافية) ليس إلا. وذلك جنباً إلى جنب مع شيوع قيم الاستهلاك وبروز حالات ثراء فاحش في مجتمعات الثورة أو من يعتبرون أنفسهم منها دون وعي! كل ذلك ساهم في تولّيد مشاعر من الاغتراب النفسي، وجد في الارتداد نحو الهويات الصغرى، شبكة أمان بالنسبة له. وبما أن بروز هذه الهويات وشيوع الانتماء إليها لم يتم بقرار من أي أحد أو أية جهة، لكن مغادرة هذه الانتماءات الضيقة، لن يتأتى بهذه البساطة التي يمكن للمرء أن يتوقعها. وخاصة على المدى القصير، فكما أن ظروفاً موضوعية منجدلة، كانت قد أسهمت في بروز هذه الظاهرة وشقت الطريق أمامها، كذلك الأمر في التطلع نحو استعادة الانتماء بالهويات الوطنية الجامعة والمنفتحة على المشترك العروبي، والمواكبة لبناء الدولة الوطنية، فلن يمكنه أن يتحقق إلا ببناء الدولة الديمقراطية التي تتكئ إلى العروبة الجامعة المتجددة، والتي تحتكم إلى سيادة القانون والدولة المدنية، وإطلاق مشاريع وطنية وعروبية كبرى، مع الأخذ بنظر الاعتبار التغيرات العميقة التي طرأت على واقعنا كله. ويبدو أن الشروع بهذه المهمات لابد أن يقع على عاتق النخب، والقوى الفاعلة والواعية، ولابد من اقترانه بوعي مطابق، يُعلي من شأن كل ماهو وطني وجامع ومشترك، وبما يضع الانتماءات الضيقة، ما قبل وطنية في حجمها الطبيعي دون السماح لها بالتأثير على مستقبل سورية الوطن الواحد، المنتمي لعروبته، والمتوافق على عقد وطني جامع. لكننا ونحن نريد إدراك ما آلت إليه الأمور اليوم، من ارتدادات ما قبل وطنية، لابد من تشريح الواقع السوري برمته، المهيمَن عليه سلطويًا، من قبل طغاة الدولة الشمولية التي خربت جميع البنيان المجتمعي السوري.
_ الدولة الشمولية وإعادة انتاجها لواقع ما قبل وطني:
اتسم الواقع السياسي السوري على مدى ثمانٍ وأربعين عامًا ، من حكم الدولة الشمولية ، بالفوضى المنظمة، والفساد المستشري ، والإفساد المقصود، وهيمنة قوى واستطالات اقتصادية “كمبرادورية آلت على نفسها الامساك بدفة الاقتصاد والسياسة والمجتمع ضمن مفاعيل وغايات وأهداف تصب لصالح هذه الفئة أو الشريحة ( وهي ليست طبقة بالتأكيد )التي تنطحت متحالفة مع شرائح السلطة الأخرى ، للسيطرة على منتجات الربح الوفير القادم من كل مفاصل المجتمع والاقتصاد السوريين، وقد تمكنت هذه الشريحة، ومنذ بدايات مرحلة السبعينيات، من القرن الفائت، أن تستأثر بكل أقنية الاقتصاد، الأكثر ربحية، والأكثر فائدة ، فكانت القطط السمان حينًا ، ورأسمالية الدولة حينا آخر، وكل ذلك وقبله وبعده . فجمعت واستجمعت في المؤسسات الاقتصادية، الصغيرة والكبيرة ، للقطاع العام والخاص ، وكذلك المشترك في حينه، حتى بات الوضع الطبقي في سورية، يتركز في طبقتين اثنتين لا ثالث لهما ، طبقة موسرة بل عالية الثراء، وهي صغيرة وقليلة العدد، وطبقة أخرى متجمعة من كل الطبقات، تحت خط الفقر، بل تصنف عالميًا تحت خط الفقر المدقع ، ليتعاون الفساد الاداري معها ( مع عالية الثراء ) في معظم حالات حركتها ، ثم تحالفت معه، ذلك التحالف سيء الذكر، فأنتجت واقعًا مجتمعيًا لا يخفى على أحد ، منهك القوة، ومنفلت من عقال التماسك المجتمعي، ومتآكل البنية تحت وطأة الفقر وسطوته. فانتشرت الرشاوى في كل دوائر الحكومة ومؤسساتها، وبوضوح وفجاجة فاضحة، وبتشجيع من رؤوس متنفذة في النظام، لأن الفساد والإفساد يغطيها ويجعلها حالة طبيعية في سياقات إدارة فاسدة بالمجمل، مما اضطر بعض الشرفاء (وهم كثر)، لأن يتجهوا نحو العمل الإضافي، رغبة منهم في لجم وكبح غول الفقر والعوز، الذي يزحف باتجاه معظم أفراد الأسرة السورية، من ذوي الدخل المحدود، أو من عمال المياومة، وما يشبههما. وهي حالة مجتمعية تنعكس بالضرورة على تركيبة الأسرة بحد ذاتها ، فتجعل من رب الأسرة أشبه بآلة تعمل ليل نهار ، وتعود مساء وقد أنهكها التعب ، لتنام رغمًا عنها، ومن ثم تعود في اليوم التالي الى نفس الدوامة، وهذا ما يترك آثاره على حالة التعليم في الأسرة ، وحالة التواصل الاجتماعي ضمن الأنساق المجتمعية، التي كانت تُعرف عن المجتمع السوري، ناهيك عن عدم كفاية الحاجات الأساسية اليومية للأسرة ، رغم كل هذه الأعمال الاضافية ، هذا إن توفرت، فالدخل أقل من الانفاق ، وحالة العجز في الميزان التجاري للأسرة مستمر في التراجع والنكوص، أما الديون فتتراكم يومًا بعد يوم ، وهذا الأمر يترك ذيوله على حالة المحبة والتعاضد والتآلف داخل الأسرة المحددة والممتدة أيضًا.
هذا الوضع الاقتصادي الساقط حاليًا بعد أن كان آيلًا للسقوط، والذي لم تنفعه كل أنواع الدعم الإيراني، هو الشرفة التي أطل منها الشعب السوري نحو ثوران مجتمعي كبير، تحقق مع بداية الثورة الشعبية السلمية، التي انطلقت منهية بذلك حالة الترقب والانتظار، التي وسمت المرحلة الأخيرة من حياة الناس قبل ثورة الحرية.
انطلقت الثورة ، وهي تحمل تبعات كل تلك المرحلة من العسف والقمع ، وهدر انسانية الانسان، والعوز المعيشي ، والإنهاك المجتمعي، وهو حِمل كبير لا شك في ذلك ، وتركة ثقيلة لا ضير فيها ، ومع كل ذلك ، ومع بداية الثورة استطاع الانسان السوري أن يحمل كل تلك الأثقال ، على كاهله ، وينطلق معلنًا : أن كفى هدرًا لإنسانية الانسان ، كفى هدرًا ونهبًا للاقتصاد والانسان معًا، بل والمجتمع بقضه وقضيضه ، كفى عسفًا ، وقتلا للإنسان السوري ، كفى سرقة لثروات الوطن، التي باتت مشاعًا للغادي والصادي، من أصحاب النفوذ وتلك الشرائح المنتفعة، القريبة من السلطة وأصحابها ، ناهيك عن الامتيازات التي استأثر بها البعض دون سواهم .
وقف الانسان السوري ليقول بملء فيه ” واحد واحد واحد الشعب السوري واحد ” وهو شعار طالما رفعه الشعب السوري، وهو صادق في ذلك بحق، ومندمج حقًا وواقعًا، فبالرغم من كل ما عاناه هذا الشعب، ما زال لسان حاله يقول: الشعب السوري واحد، وهو بذلك يُحمِّل كامل المسؤولية للمستغلين والتشبيحيين من رجالات السلطة دون سواهم، وهذا الصوت يعبر عن وعي وإدراك لطبيعة الخراب المجتمعي الذي اشتغل عليه الدور الوظيفي للأسد الأب، ومتقدم على الكثير من حالات اللاوعي التي شهدها الشارع السوري أثناء ثورته.
مع استمرار الثورة السورية لسنوات سبع، أدى ذلك إلى إرهاق كاهل المجتمع حاضن الثورة، حيث توقفت عجلة الاقتصاد، الفاسدة بالأساس، وخاصة المؤسسات الصناعية الصغيرة والمتوسطة، وتجمدت الكثير من الأعمال التي كان يعتش منها المواطن السوري، وتراجعت الزراعة بعد القصف بالكيماوي والبراميل والصواريخ النازلة فوق رؤوس العباد والبلاد، حتى بات الفلاح السوري عاجزًا عن الذهاب الى حقله للعمل فيه، خوفًا من القصف البراميلي، هذه الصناعة الأسدية السورية الحاقدة، والمنعتقة من كل انسانية. كما تم طرد الآلاف من العمال والموظفين من مؤسسات الدولة بحجة أنهم حاضنات للإرهاب، كما جرى اعتقال مئات الآلاف، وزجهم في السجون، وبالتالي تغييب شريحة من الشباب الذين هم عماد أي نهضة اقتصادية في أي بلد، وكذلك ظهور حالات الاعاقة الجسدية التي تتمظهر على جسم الشاب الخارج من المعتقل، أو أنها تدفع به رغمًا عنه وخوفا من الاعتقال مرة أخرى لمغادرة الوطن بحثًا عن العمل والأمان المعدوم في ظل هيمنة الأجهزة الأمنية السورية في بعض الأماكن التي ما زالت تسيطر عليها. والحقيقة فان الحالة الاجتماعية السورية والوطنية متفككة ومتأثرة بشظف العيش، الذي بات سمة أساسية لكل الناس بلا استثناء.
علاوة على حالة الهجرة والتهجير القسري، الذي يمارس بحق المواطن السوري، خارجاً أو داخلًا، وما ينتج عنه من فقر وعوز وتهديم المنازل فوق رؤوس أصحابها، وفرار من تبقى من الاسرة ليعود الى منزله فلا يجده. وهو ما كان قد عمل طوال حياته من أجل أن يستحوذ عليه.
أما التعليم، فحدث ولا حرج، حيث التراجع والتسرب، نتيجة ذلك، والخوف من قمع السلطات وقمع سواهم. وفقد الكثير من الكادر التعليمي شهداء أو في السجون، وتهديم المئات، بل الآلاف من المدارس، أو تحويلها الى مأوى للمهجرين.
وفي الصحة، فالكل أصبح يعرف ما آلت اليه، بعد تهديم مئات المشافي، واعتقال الكادر الطبي بحجة العمل في المشافي الميدانية للثورة، وتجريم كل من يساعد مصابًا، أو يعالج شخصاً ليس من النظام أو شبيحته.
هذا الواقع السوري المعاشي والاقتصادي الغاية في السوء، والانهيار الاقتصادي الواضح، والنهب المستمر في الثروات بل في كل مفاصل الدولة واقتصادها ومؤسساتها، والصناعة المتوقفة ، والتصدير المجمد، والليرة السورية تستمر هبوطاً، ليتجاوز الدولار 500 ليرة سورية في بعض الأحيان، ولتشهد حالة الليرة تذبذباً، لم يسبق له أي مثيل، كل ذلك ينعكس بالضرورة على واقع الانسان السوري، الذي بات اقتناء المازوت لديه حلماً، وركوب السيارة رفاهية ، وتشغيل الكهرباء اعجاز لم يسبقه اعجاز ، وتأمين جرة الغاز غاية لا تدرك ، والوقوف بالطوابير على الأفران عادة يومية، والتدافع على ابواب الحافلات مسألة مستمرة، والسفر بين المحافظات من الصعوبة بمكان، بسبب القصف حيناً، وارتفاع أسعار ركوب الحافلات تارة أخرى .
هذا بعض من الواقع المعاشي الاقتصادي للإنسان السوري هذه الأيام، الذي أنتج ما أنتج من ارتدادات ما قبل وطنية، لكن الأيام القادمة حبلى بما هو أكثر سوءً، خاصة عندما تتوقف إيران عن الدعم، بل تسنيد البنك المركزي السوري، الذي صار آيلاً الى الافلاس، بعد أن استُنزف كي يدفع أثمان السلاح، لقتل الناس، وتأمين الذخيرة، وكذلك لدفع رواتب الشبيحة والمرتزقة من داخليين وخارجيين.
هذا الوضع المنفلت من كل عقال، هو العبء الأكبر على قوى الشعب السوري الحية والشريفة، التي مازالت تتحمل المسؤولية تجاه شعبها وأمتها نحو وطن ديمقراطي مدني، خال من كل أنواع القهر، وسلب الإرادة أو هدر الانسان بكل أشكال الهدر، وهو الذي ساهم شئنا أم أبينا، وعينا ذلك أم لم نعيه، بما آلت إليه أوضاع السوريين، من عودة إلى ملاذات ما قبل وطنية، دون الالتفات إلى العروبة الجامعة، والمطلوبة اليوم أكثر من أي وقت مضى.
_ الأكراد والعقد الوطني المطلوب:
لعل من أبرز الإشكالات التي يعاني منها الواقع السوري اليوم، وما يساهم في تجذير العودة الى تشكيلات ما قبل وطنية، ومن ثم تفتيت الحالة الوطنية، هو واقع المسألة الكردية، الأكثر تعقيدًا، والأدعى للوقوف عندها، في محاولة لإعادتها إلى سكتها الوطنية السورية، التي لا تتخارج مع الجامع العروبي والوطني.
إذ ليست المسألة الكردية بحالة خارجة عن السياق، ولا متناقضة مع الملمح الوطني العام في سوريا، وليست مشكلة الأقليات من المشاكل السهلة الحل، وهي لا يمكن إلا أن تكون في صلب أولويات الثورة السورية الديمقراطية التي تسير اليوم نحو مآلاتها.
وما يدعونا اليوم إلى إعادة طرح المسألة الكردية في سورية هو ما نراه من ممارسات لبعض الأكراد، الذين آثروا التحليق في فضاءات أخرى (روج آفا) وما في ثناياها، متكئين على الخارج الأميركي، لـتأسيس الدولة الانفصالية، المتخارجة مع الدولة الوطنية السورية كلية، وهذا يدعوا للقلق، ويلامس ذلك بعض التوجسات، من الارتداد الى أفكار وطروحات بل وعمل على الأرض ما قبل وطني، وهو مالا نتمنى أن يكون بين ظهراني مفردات الوطن السوري، حيث يتحدث صالح مسلم عما أسماه (الفيدرالية الديمقراطية)، وهذا يضعنا أمام تساؤل مفاده: هل نحن حسب وجهة نظره الكردية الأوجلانية قادمون نحو تقسيم فيدرالي لسورية؟ وهل نحن متفقون على ذلك؟
كما أن هذا الطرح التفتيتي الذي يتلاقى بالضرورة مع الكثير مما يفعله النظام المجرم ألا يدعونا كل ذلك إلى تشكيك بالوطنية السورية لمثل هكذا طروحات؟ ونحن نعلم جميعًا، مدى العلاقة التي تربط (قسد) وال (ب ي د) بالنظام المجرم الذي يقتل الشعب السوري.
ولعل هذه الأطروحات تدعو للتساؤل والوقوف عندها مليًا وكثيرًا، مع العلم أن الموقف الوطني والعروبي من الكرد لم يكن إلا موقفًا ايجابيًا، وهو ما يدعونا للاعتقاد أن الاشكالية قائمة، وهي تطالبنا جميعًا بالوضوح، وضوح الأفكار ووضوح المواقف والمقاصد.
كذلك فإننا وعندما نبحث في المسألة الكردية ومستقبلها، لما لها أيضًا من تداخل مع قضيتنا الوطنية ومن علاقة بها، وعندما نسأل عن مستقبلها فلأن له علاقة بمستقبلنا. هذا عدا عما يُلزمنا به المنطق المبدئي، الأخلاقي والانساني، وما تلزمنا به الأهداف المشتركة لحركة تحرر شعبنا السوري.
واستطرادًا وربطًا مع المشروع الوطني الديمقراطي والموقف من المسألة الكردية كان التأكيد دائمًا على الإخاء العربي الكردي وعلى ضرورة إزالة كل أسباب التصادم بين الشعبين العربي والكردي، وكان الدفع دائمًا لتأييد مشاريع التوفيق بينهما، وبالتالي مبدأ حق الشعب الكردي في الحصول على حقوقه القومية ضمن الحالة الوطنية السورية.
إن الدولة الأسدية الطائفية التفتيتية التي يقوم نظام حكمها على الاستغلال والتمايز الطبقي أو الفئوي، هي التي تنحو نحو استغلال الشعوب واضطهادها، والنظم التي تقوم على التسلط والاستبداد، فهي بمقدار ما تضطهد شعبها ذاته وتفرض عليه هيمنة سلطاتها وتستخف بإراداته الوطنية الحرة، تضطهد أيضًا الأقليات القومية أو الشعوب الأخرى المقيمة على أرضها، أو على تخومها، وتعمل لبسط السيطرة عليها وتستخف بحقها في تقرير المصير.
ولا نبتعد هنا عما قاله الدكتور برهان غليون في كتابه (المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات) الصادر عام /1988/ من أنه “ليس هناك مجال كي نحلم بحل سريع نسميه مشكلة الأقليات على الطريقة التي مازالت سائدة في فكرنا حتى اليوم، أي خارج نطاق حل مسألة السلطة ككل، فعندما تطرح المشكلة غالبًا ما تتبادر إلى الذهن الحلول السهلة التقليدية: الاعتراف بحقوق الأقليات أو رفضها، كما لو أن هذا الاعتراف أو هذا الرفض كفيلان في حد ذاتهما بتغيير الواقع التاريخي وإزالة قوى اجتماعية أو تغييرها. هذه الحلول نابعة من وهم يقوم على انحراف ثقافي ينشأ من فكرة أن التاريخ يتغير مع تغير الأفكار والاعتقادات، لكن كلنا نعرف أن الدساتير تعترف بكل الحقوق، ليس للأقليات فقط، ولكن للأغلبية أيضًا، لكن هذا لا يمنع أن البلاد التي تحترم فيها الحريات أكثر من أي بلاد أخرى، هي تلك التي لا تتمتع بدستور مكتوب كما هو الحال في بريطانيا مثلًا، وأن التأكيد المبالغ فيه على احترام الحريات غالبًا ما يقصد الى إخفاء التضحية الدائمة بالحقوق والحريات العامة”.
الديمقراطية والحريات العامة، هي حق طبيعي للجميع دون استثناء أو تمايز، سواء بالجنس أو العرق أو الطائفة أو القومية أو الأثنية. الجميع لهم الحق في الحرية، وفرص العمل، وحق الانسان باعتناق الدين، وممارسة الشعائر، وحقه بالانتخاب والترشيح، بل وكل حقوقه على إطلاقها، شرط ألا يتعدى على حرية الآخرين، ووفق مفهوم سيادة القانون، تحت ظل دستور جامع نتج من خلال جمعية تأسيسية منتخبة، ولم ينزل كحق مطلق من علٍ، فوق رؤوس العباد، كما هي حال الأنظمة الاستبدادية عادة، وما آل اليه الوضع السوري، منذ ثمان وأربعين عامًا أو يزيد.
الأكراد إخوة لنا، وجزء لا يتجزأ من النسيج السوري الواحد والموحد، وهم شركاؤنا في الوطن، ولهم كل الحقوق التي ينص عليها دستور عصري ديمقراطي جامع مانع.
والمواطنة حق بديهي وطبيعي لكل سوري عربيًا كان أم كرديًا أو آشوريًا أو أرمنيًا أم سريانيًا أو شركسيًا أو سوى ذلك. ولا بد من أن تتوضح العلاقة بين أطراف المواطنة جميعًا ولا بد من ترابط واضح بين الديمقراطية والقضايا الوطنية والقومية.
واليوم فإن العقد الوطني المطلوب بين كل السوريين هو الملاذ الجامع ضمن حوامل اجتماعية وسياسية وفكرية وبرنامج ديمقراطي مبتغى.
وإن مبدأ تداول السلطة الذي يهدف الى منع الانفراد بها، واحتكارها وبالتالي تأبيدها بأي فئة أو حزب أو أي قيادة كانت، ومبدأ فصل السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية الذي أتى به (مونتسكيو) يؤكد أن هذا الفصل هو شرط نشوء الحريات السياسية، ومن دونه ليست هناك امكانية لوجودها، وبالتالي فإن جمع السلطات هو الأساس البنيوي للاستبداد، لأنه يلغي أي مراقبة ممكنة على أي سلطة، كما يلغي أي موازنة ممكنة بين السلطات المختلفة، وبالتالي إمكانية الحد من جنوحها. عبر هذه المبادئ الأساسية للديمقراطيات يمكن أن يكون الجميع مستقبلًا في وطن واحد آمن، ودولة مدنية ديمقراطية تستوعب الجميع دون الخلل بالوحدة الوطنية، التي ما برح الشعب السوري يلهج لسانه بها، وفي كل مظاهراته المدنية الصاخبة التي خرجت منذ بداية الثورة، حيث تعلو من الحناجر شعارات الشعب السوري واحد وهذا الشعار ليس نثريات لا بعدًا فكريًا لها، وليست زلات لسان، أو قلم، بل هي تعبير عن مدى وعي هذا الشعب بأهمية وخطورة ألا يكون الشعب السوري واحدًا بكل طوائفه وقومياته وأثنياته.
وحيث أن المجتمع الذي يعاني من نقص الاندماج الذاتي والانصهار بين الجماعات المختلفة، التي تعيش في إطاره، هو مجتمع اشكالي، ومآلاته التوحيدية جد صعبة، ولا بد فيه، وعبره، من حل لمشكلة الأقليات، ضمن المناحي المبدئية والواقعية والعملانية. ولا نعتقد أن سورية من المجتمعات التي يمكن ألا يكون فيها اندماج ذاتي، بل وانصهار بين جميع متعدداتها الآنية.
كما نعتقد أن الشباب والأجيال الجديدة، من كل أطياف الشعب السوري ميالة دون شك إلى تجاوز الأطر العصبوية التقليدية والانصهار في أطر وطنية أوسع، كلما سنحت لها الفرصة، وليست التعدديات الاثنية والقومية مصيبة أو معضلة لا حل لها.
_ الهوية الوطنية الجامعة:
في زمن الثورات والحروب وفي سياق حالات التغيّر المجتمعي المتحركة بسرعة، تكون الهوية بحد ذاتها عُرضة للضياع، ولعدم القدرة على مواصلة الوجود، فالانتقال البنيوي للمجتمعات، وماهية الحركة والانسحاب السريع، وإعادة رسم بنية جديدة للمجتمع، كل ذلك يأخذ بعداً هشّاً وقابلًا (في كل آن) لحالة جديدة ومتجدّدة، من التكوّن وإعادة الاتساق المنطقي، في مرحلة تتسم بالمفاجئات والتعميمات المنافية للماهية العلمية للناس وتجمعها، مما يترك الأثر المباشر على جموع البشر، واللحمة الوطنية في مجملها.
الهوية عادةً هي التي تعرِّف الإنسان بنفسه، وتعينه على وضع نفسه أو تَوضُّعِها في المكان الأصح، بدلالة عالم القيم، الذي خرج منه، أو ينتمي إلى منابعه، ولعل مسألة الحماية للذات المجتمعية، والتكور حولها ومعها، يندرج في سياقات الهوية، وما يدور حولها أو ما ينبثق عنها.
في الوطن السوري (هذه الأيام) تبرز مسألة الهوية الوطنية الجامعة ودلالاتها وأهميتها، وضرورة الانتباه إلى الحفاظ عليها أو إعادة رسمها، بما يناسب التغيرات المجتمعية التي لا تتعارض مع كينونتها، ولا تتنافر مع القيم الأساسية التي قامت على هديها عبر سنين طويلة، متكئة على الوطن الجامع الموحد أولاً، والبعد القيمي المتلاقي مع العديد من المعطيات الجامعة، وغير المفرطة، التي يكون أساسها الفرد السوري المندرج في أتون الجماعة، حيث لا فكاك بينهما، خدمة لمستقبل الوطن السوري، والانتماء إليه وليس لأية انتماءات أخرى ما قبل وطنية، أو ما قبل إنسانية ، والمستندة إلى عروبة جامعة ، غير مقصية لأحد، تستوعب الجميع، دون تغول على أحد ، وبلا قومية شوفينية.
الهوية الوطنية ليست مجرد تسميات، وليست مجرد غطاء، بل روح تشكل أساس الانتماء، تجمّع، توحّد، لا تفرّق ولا تبعثر، بل ولا تسمح لكل الظروف الخارجية أو الداخلية، الأثنية، وغير الأثنية، أن تمارس فعلها التفتيتي المتحرك أثناء الحروب، وفي لحظات التدخل الخارجي، أو العودة إلى بعض ما هو متشدد أو متعصب وشوفيني.
في الحالة السورية تكون الخشية دائماً، وعبر فناء جيل أو أجيال، من أن تكون دوامة الحدث الدموي والقاسي تعطي الفرصة لإبراز هويات أخرى، لا تتلاقى مع الهوية الوطنية الجامعة.
يعتقد البعض أن ” الواقعين تحت حصار قوى مهيمنة أخذت هويتهم بعيداً عن جوهرها وأفسدت قيمهم، وأدرجتهم في نظام معين، هم يبحثون لأنفسهم عن سبيل للخلاص من (ضغط الهوية) الذي حُوصروا فيه “.
لكن يبقى السؤال هل يسمح الشعب السوري (في ظروفه القاهرة) أن يكون ضمن هذا المتحرك المجتمعي، وبالتالي هل يمكن أن يكون سبيل الخلاص بعيداً عن العقل المجتمعي الجامع الموحد، وهل يمكن ترك كل العوامل الخارجية أو الداخلية لتفعل فعلها سلباً في الآن السوري، وهل يمكننا الوقوف مكتوفي الأيدي دون إمكانية اتخاذ موقف حازم حيال (فيروس) تحريف الهوية أو إفراغ الهوية من محتواها، وبالتالي هل من إمكانية لهوية وطنية غير جامعة؟
هنا يبرز أمامنا مسار الكتلة التاريخية الجامعة التي اشتَغل عليها مجتمعياً في إيطاليا (أنطونيو غرامشي) في لحظات زمنية معينة، قد تكون أقرب للحالة السورية التي نعيش، ومتساوقة مع منعطفاتها.
الكتلة التاريخية التي طرحها (غرامشي) تكون الحامية للهوية، والحل الذي يوقف استمرار الانهيار المجتمعي والوطني المتسارع، في بعد إجرائي سريع، يمسك بلباب المجتمع وأنساقه، ويمنع مسألة الانهيار بل ويلجمها.
يرى غرامشي أنه “لا يمكننا أن نغفل دور العقل في تشكيل الوحدة، على ضوء إدراك أن القوة تتجسّد في الوحدة، وخلق نظام هرموني يسع الجميع ولا يستثني أحدًا”. إن اتحاد هذه المتناقضات يؤدي إلى الحركة والتطور الذي يساهم فيه المثقف بشكل كبير “وهذا المثقف هو ما يسميه (غرامشي) بالمثقف العضوي، حيث يؤكد أن “فعل كل شخص يرتبط بثقافته، وهذه الثقافة هي بيئته، التي تعني أن كل الناس يفكرون بنفس الطريقة في تلك البيئة”.
ويبدو أن المثقف العضوي لديه من يلعب دور ذاك المحرك الأهم والرئيسي للكتلة التاريخية، وهو من يكشف، في بعض الأحيان، عن عجز هذه الكتلة أو الإعلان عن تقهقرها وبالتالي ضرورة المناداة بكتلة جديدة تحل محلها، عبر بناء جديد لها. وهذا يضع مسألة الكتلة التاريخية في مضمار وإمكانية التغير المستمر، في حال ضرورة التجديد، أو الانتقال بذاته.
في لحظات التغير المجتمعي والوصول إلى كتلة تاريخية جامعة، تكون مسألة الحرية أكثر ما تكون بعيداً عن الانغلاق أو التعصب أو التقوقع على الذات ورفض الانفتاح على الآخر، بل لابد لها من وعي كل المتناقضات ومن ثم احتضانها، وهي أبعد ما تكون عن فكرة الحزب الواحد أو القائد أو الفكر الشمولي سيء الصيت.
نحن اليوم أحوج ما نكون إلى امتلاك هوية وطنية جامعة، وكتلة تاريخية، تكون حاملاً لها، كي تستطيع التصدي إلى عملية إعادة تشكيل التاريخ على متغيرات جديدة، ترفض القطيعة مع البنى الأساسية للهوية الوطنية السورية الجامعة، المتكئة على العروبة، التي سارت من خلالها ثورة الشعب السوري على الحرية والكرامة. وهي التي تنفتح على تاريخ جديد، يمكننا من ضمان حياة أفضل وغدٍ أكثر إشراقا،ً وعموماً ” إذا كانت السياسة هي تدبير الاستعجال، فان الفعل السياسي هو إضفاء الفعالية في معالجة المستعجل”.
خاتمة:
لابد من القول إنه لا مكان في سورية المستقبل، سورية الحرة، لتشكيلات ما قبل وطنية، سواء كانت عشائرية، أو طائفية، أو اثنية، أو مناطقية ضيقة، فالكل مدعو إلى عقد وطني جامع، ووطنية سورية متماسكة، تستند إلى عروبة متجددة، لا تعصب فيها، ولا انغلاق، منفتحة على كل شيء، قابلة للرأي والرأي الآخر، مستوعبة لكل مكتسبات العصر، مدركة أننا لسنا لوحدنا في حيزٍ جغرافي خاص، بل نحن جزء من عالم كبير، صارت الكرة الأرضية فيه، وبعد متغيرات العلم الحديثة، قرية واحدة، وكل ذلك وضمنه يقتضي منا الانفتاح على الآخر، كل الآخر. مؤكدين أننا ننتمي إلى عالم عربي واسع نحن جزء منه، وعالم إسلامي أوسع، أيضًا يربطنا فيه الكثير الكثير. فهل نحن قادرون كعروبيين على استيعاب كل ذلك؟ وإعادة انتاجه بما يتوافق مع مصالحنا، ومستقبلنا كسوريين؟ كان لنا شرف إشعال ثورته/ ثورة الحرية والكرامة.