ما زال قرار إقالة حاكم مصرف سوريا المركزي دريد درغام، قبل أيام، يثير تساؤلات لا تقل عن قرار تعيينه حاكماً بالأصل في العام 2016. درغام المثبت تورطه بقضايا فساد سابقة، والمدرج اسمه على قوائم العقوبات الغربية، لم يُقل من منصبه، إلا لجملة عوامل أهمها الحاجة إلى حاكم جديد لـ”المركزي” يُسهّل مرحلة “إعادة الإعمار” لرجال أعمال النظام.
وكان درغام قد تعرض وزوجته، للحجز الاحتياطي على أموالهما، في العام 2011 بتهمة فساد بسبب تسهيلات ممنوحة من فرع المصرف التجاري رقم 8 في حلب، أثناء عمل درغام السابق كمدير عام لـ”المصرف التجاري السوري” 2003-2011. درغام استطاع رفع الحجز الاحتياطي فقط في العام 2018.
من المؤشرات التي مرَت دون ضوضاء، هي إقالة مدير عام “المصرف التجاري السوري” فراس سلمان، قبل شهر من إقالة درغام، واسناد الإدارة العامة للمصرف إلى علي محمد يوسف. وقد عُرف عن فراس سلمان، علاقته الوثيقة بدرغام، إذ شغل مناصب مهمة في “التجاري السوري” خلال فترة إدارة درغام له، وأهمها مدير العلاقات الخارجية في العام 2010، ومعاون مدير عام المصرف في العام 2012.
ويبدو أن ملف الفساد في التسهيلات الائتمانية أرخى بثقله على درغام وسلمان، ما استدعى تنحيتهما، لا بهدف “مكافحة الفساد” كما ادعت بعض وسائل الاعلام الموالية، بل لأن حجم القضية أكبر من أن يُحتوى على ما يبدو، إذ أضرت بهيكلية “المصرف التجاري” المالية الذي يشكل حجر الزاوية لدى النظام، والكثير من رجال الأعمال المرتبطين به.
إلا أن ملف الفساد بحد ذاته، لا يبدو السبب المباشر وراء إقالة درغام. وقيل إن تصريحات لدرغام، حول إمكانية خفض سعر الصرف إلى 200 ليرة مقابل الدولار، كانت وراء إقالته، بعدما جاء فيها: “لا يجوز اعتماد أي تخفيض، رأفة بالمواطنين والعمال والموظفين، إذ سينتفع من ذلك تجار الأزمة الذين اغتنوا وأصبحت العملة السورية لديهم تلالاً”. سبب لا يبدو مقنعاً أيضاً، فدرغام سبق وقدم خدمات كبيرة للنظام، وعلاقته بالسلطة تاريخية بدأت مع والده أحمد، عضو “القيادة القطرية” السابق في “حزب البعث”. ولا شك في ولاء درغام للنظام، خاصة بعدما حصل على فرصة ذهبية بتعيينه منذ عامين خلفاً للحاكم السابق أديب ميالة، الذي لم يستطع أو لم يُسمح له حينها بضبط شركات الصرافة، كما سُمح لخلفه.
منذ تسلم دريد “مصرف سوريا المركزي” تصرف وكأنه سيبقى طويلاً فيه، وقام بسلسلة تعديلات شملت التفاصيل الصغيرة، كالموقع الالكتروني للمصرف، وصولاً إلى القضايا الكبيرة المرتبطة بتثبيت حدود سعر الصرف، وإبعاد الصرافين وشركات الصرافة عن واجهة القطع الأجنبي، والإفراج عن الحوالات الواردة بالدولار الأميركي، مع إدخال التقنيات الحديثة على القطاع المصرفي عبر نظام التحويلات الالكتروني ومشروع نظام الدفع الالكتروني الشامل. كما استطاع التخاطب بشكل عملي مع السوريين، عبر صفحته في “فيسبوك” ما خلق لديه بعض الشعبية لصالحه.
درغام أخفق في التخاطب مع المرحلة الجديدة التي يريد النظام دعمها بشتى الوسائل؛ “إعادة الإعمار”، التي تحتاج إلى شخص لا يماطل في اتخاذ القرارات التي تخدم طبقة رجال أعمال النظام. فلم يتمكن “المركزي”، برئاسة درغام، من إقناع المصارف الخاصة بالانفتاح الكبير على موضوع الإقراض، ما أضر بمصلحة كبار التجار الذين أسسوا شركاتهم بناءً على هذه التركيبة، أي التمويل المصرفي لمنتجاتهم، خاصة في مجالي السيارات والقطاع العقاري، وهما من الناحية المصرفية من أخطر المجالات للتمويل. وعلى سبيل المثال، فقد شكّل التخبط في موضوع تمويل شراء السيارات، مؤشراً عن حالة التجاذب بين “المركزي” وكبار التجار، وأهمهم سامر فوز، الذي دخل عالم صناعة وتجارة السيارات قبل عامين. “المركزي” سرعان ما تراجع عن قراره، بالسماح للمصارف العاملة في سوريا بمنح القروض والتسهيلات الائتمانية لأغراض شراء السيارات، للأشخاص الطبيعيين والاعتباريين، بعد أسبوع من إصداره، ما أثار استياءً كبيراً لدى كبار التجار المرتبطين بالقصر الجمهوري مباشرة. “المركزي” ماطل أيضاَ، في إعادة النظر بالقرار، بعدما وعد بذلك ولم يصدر عنه شيء بهذا الخصوص.
مؤخراً، أصدر “المركزي” قراراً بضرورة مراجعة كل من اشترى قطعاً أجنبياً من شركات الصرافة، أثناء عملية التدخل في العام 2012، لـ”المركزي”، لتبيان كيفية استخدام هذا القطع، ما استفز الكثير من أمراء الحرب وتجارها. قرار يفتح المجال لسحب هذا الاجراء على السنوات الأخرى، ما أثار مخاوف أغنياء الحرب بعدما استخدموا القطع الأجنبي للمضاربات، ولا يملكون ما يثبت استخدامه بطريقة صحيحة. اللافت أن قرار “المركزي” شمل القطع الأجنبي المُشترى من شركات صرافة كان قد أغلقها سابقاً وألغى ترخيصها؛ مثل جانودي والبيك والقلعجي والأمانة والسلطان وساعي وحنيفة وجزائري وشربجي وهاشم وسما والشرق الأوسط والوطنية وبيكو. “المركزي” كان قد ضيق بذلك الخناق على التجار الكبار ممن اشتروا القطع الأجنبي مقابل عمليات استيراد وهمية غالباً، لا يملكون فيها شهادة جمركية. إقالة درغام جاءت قبل نفاد المهلة المحددة من “المركزي” لهؤلاء التجار، لتنفيذ القرار، في نهاية نوفمبر تشرين الثاني 2018.
قرار تعيين حازم قرفول، حاكماً جديداً، جاء مناسباً للنظام. قرفول لا يملك خبرة كافية في القطاع المصرفي، ولا يرغب أصلاً الدخول بسجالات مع المحسوبين على القصر الجمهوري، وسيتم الترويج له بأنه في منتهى النزاهة. وهذا ما حصل فعلاً، وشددت عليه وسائل اعلام النظام. ومقابل ذلك، يُتوقع أن يشهد القطاع المصرفي الخاص في سوريا، ضغوطاً كبيرة من الحاكم الجديد، لإعادة منح القروض للسوريين من أفراد وتجار، لامتصاص جزء من الاحتقان الناجم عن التضخم. بالإضافة إلى فتح باب تمويل المستوردات للتجار بشكل أكبر، وهو توجه راوغ درغام فيه كثيراً، رغم إصداره قبل أيام من إقالته، قراراً يعطي فيه المصارف مرونة أكبر لتحديد معدلات الفائدة، رغم عدم التجاوب الفعلي من المصارف الخاصة.
تعيين دريد درغام، بدلاً من أديب ميالة، في العام 2016، كان نقطة تحول في مجريات القطاع المصرفي السوري. وكذلك الأمر، سيكون تعيين قرفول بداية مرحلة جديدة، قد يكون عنوانها المزيد من القرارات العاجلة لتسهيل عمل التجار في قطاعي السيارات والعقارات، وعدم الجدال في الأمور الاستراتيجية، ما سيعزز من دور “المركزي” كأداة للسياسة النقدية للنظام ورجالاته، لا خدمةً للسوريين.
المصدر: المدن