غادَرَنا المفكر العربي سلامة كيلة، ظهيرة يوم الثلاثاء في 2-10-2018 في الأردن، بعد معاناة طويلة مع المرض العضال.
كان مفكراً ماركسياً طيلة حياته، وقد أثرى المكتبة العربية بأكثر من خمس وثلاثين كتاباً، في قضايا عديدة؛ كالمنهج المادي، والتراث، والتنظيم، والأمة، والقومية، والعولمة، ونقد تيارات اليسار العربي، والسوري خاصة، وعن الثورات العربية.
تاريخه النضالي حافل بالمحطات والمراحل التي يصعب ذكر جميعها الآن، لكن مجملها كانت محاولات، وخطوة، في سبيل تأسيس حزب ماركسي عربي، رحل وهو يناضل من أجل بنائه مع العديد من الرفاق والمخلصين في أكثر من قطر عربي. هذا الحزب الذي كان سلامة مدركاً أهمية مراعاة ظروف وخصوصية كل منطقة وكل دولة على حدى، لذلك كان يرفض فكرة الحزب المركزي، لصالح فكرة حزب أكثر مرونة واستقلالية بما يخص النضال المحلي، وذو أهداف مشتركة تتمثل في حل القضية القومية، وبناء دولة العدالة والمساواة والحرية، التي تتطلب بناء دولة الإنتاج الذاتي المتطور بشقيه الصناعي والزراعي .
لذا، ونظراً لطول مدة استقراره في سورية، كان لابد للمفكر الماركسي القومي من الانخراط في حركة سوريا السياسية اليسارية والقومية، التي خاض فيها حوارات ونقاشات طويلة دون أن ينتمي إلى أي من أحزابها. كما كانت له عديد المساهمات السياسية والتنظيمية والميدانية أثناء اندلاع الثورة السورية، منذ بداياتها وحتى ترحيله القسري من قبل النظام السوري بعد اعتقاله للمرة الثانية.
اعتُقِل سلامة في المرة الأولى من عام 1992 وحتى عام 2000، وتنقّل خلالها بين أقبية أجهزة الأمن السوري، وسجن عدرا، وسجن تدمر الأسوأ في سورية. خرج من المعتقل مريضاً، ومنذ ذلك الوقت لم يتعافَ بشكل كامل، ولازمه المرض طيلة حياته. كان شجاعاً في مواجهة استبداد النظم العربية وإفقارها ونهبها لشعوبها، وفي مواجهة مرضه العضال كذلك. اعتقاله الثاني كان في نيسان 2012، ولمدة ثلاثة أسابيع، وعذِّب عذاباً شديداً (وضرب بشدة)، رغم سنّه ومرضه العضال؛ أخرجوه من المعتقل، ليتمّ طرده وترحيله إلى المطار مباشرة. يقول سلامة أنه في سجنه الأول عومل كسوري، وفي اعتقاله الأخير عومل كفلسطيني، ولم يكن راغباً بمغادرة سورية، ويتطلع للعودة إليها بأية لحظة.
ماركسية سلامة لم تتناقض مع نضاله من أجل حلّ القضية القومية، فقد اعتبَر كافة الدول العربية بلاده، ولهذا ناصر ثوراتها وانخرط في حوارات عميقة فيها، ولا سيما في مصر وتونس، وشارك بالثورة المصرية. ويسجَّل لسلامة أنّه من الباحثين النادرين الذين قرؤوا الواقع العربي بشكل عميق، وكان يكتب عن ثورات قادمة فيها، وفقاً لسياسات العولمة واللبرلة الجديدة التي تعتمدها الأنظمة الشمولية العربية. كما فهم الصراع مع الحركة الصهيونية من منظور عربي؛ طبعا فلسطين الكاملة دون أي اجتزاء، فلسطين الحاضنة لجميع أطيافها ومكوناتها العرقية والإثنية، وهو ما تمثَّل في تبنيه خيار دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية الواحدة، على أنقاض الصهيونية.
كان مدافعا شرسا عن الديموقراطية، ومن المطالبين بالحريات لجميع مكونات المجتمع، وانخرط بالثورات العربية ورفض كافة أنظمة النهب والاستبداد، وهو ما تمثل في كتبه ونصوصه الكثيرة التي عملت على تفكيك رؤى اليسار العربي والسوري قبل الثورات وبعدها، ومنها “علينا أن ندفن موتانا”.
أما على المستوى الشخصي فكان سلامة مثالاً يحتذى في الصدق والإخلاص، عُرِفَ عنه بغضه للتصنّع الاجتماعي، فكانت حياته بسيطة ونقية، لم يسع يوما للثراء أو لكسب ود أصحاب الشهرة والسطوة الأمنية أو المالية، بل كان شديد الالتصاق بالفقراء والمناضلين الأوفياء والبسطاء والمظلومين من جميع الجنسيات والقوميات والانتماءات.
عُرِفَ سلامة كحالم ثوري، متسلح بالجدل المادي من أجل تغيير العالم وتحقيق حلمه بحياة تسودها العدالة والمساواة، حياة لا مكان فيها للفقر أو الظلم أو الاستغلال، كما عُرِفَ بشجاعته وإقدامه على حماية أصدقائه والدفاع عنهم بالحق حتى الرمق الأخير، وهي من الأسباب التي ساهمت في تعرّضه لأشد أنواع التعذيب أثناء اعتقاله في سوريا.
خسارتُنا كبيرة برحيل رفيقنا سلامة كيلة، ولكنَّ عزاءَنا الكبير في إرثه الفكري، الذي قدَّم لنا فيه أدوات تحليل الواقع، فكما كان حريصاً على تحليل الواقع وتغييره، كان شديد الحرص على نقل أدوات التحليل المادي الجدلي من أجل مساعدتنا ومساعدة الأجيال القادمة على تحليل وتفكيك أي واقع. ولذلك، وعلى الرغم من رحيله، إلا أن آثار المفكر الماركسي والقومي، الفكرية والبنيوية، باقية حتى تحقيق الحلم الذي ناضل من أجله طويلا.
لقد آن الأوان لنا كي نتحمل مسؤولية متابعة المسار.
لروحه كل السلام، ولكافة أصدقائه ورفاقه ومعارفه وعائلته كل العزاء.
المصدر: الأفق الاشتراكي